لطالما حظي الشخص الحاصل على شهادات جامعية احترام المجتمع ومن حوله، ويعتقد بأنه الأحق بأي منصب وظيفي على اعتبار أنه يملك المعرفة والخبرة اللازمة لدخول سوق العمل، هذا إضافة إلى صيت المؤسسات التعليمية التي درس فيها التي ترفع قيمة شهادته ومكانته الاجتماعية، وهذه النظرة العامة زادت من أهمية التعليم في حياة الناس.
رغم انتشار فكرة النظام التعليمي في جميع أنحاء العالم فإنه يختلف من دولة لأخرى، بحيث فشلت بعض الدول في مواكبة التغيرات العصرية والمهنية وتغذية مواهب مواطنيها بالشكل الذي يساعدهم على تطوير أنفسهم، وكانت السويد وفنلندا والدنمارك من أوائل الدول التي حاربت نظام التعليم التقليدي واستطاعت أن تخلق لنفسها طابعًا فريدًا لإنقاذ العقول من سلبيات المناهج المكررة.
نجت أيضًا بعض الفئات في الوطن العربي من تقليدية التعليم عبر ارتياد المدارس الدولية التي غالبًا ما تركز على تنمية التفكير النقدي وتراعي الفروقات الفردية وتشجع المواهب، لكنها أيضًا بقيت محط شك للكثيرين على أساس أنها صورة حديثة عن الاستعمار الذي يهدف إلى غرس ثقافته في عقول أبناء الثقافة الشرقية المحافظة.
ما الحل إذًا؟ الإجابة عن هذا السؤال ليس بتلك السهولة، لا سيما أن النظام التعليمي تعرض للكثير من الانتقادات منذ مئات السنين وهاجمته شخصيات مفكرة بارزة، إذ رأت فيه أداة هدم لا بناء، وهذه الجلبة التي أحدثتها المؤسسات التعليمية تقودنا للتساؤل عن سبب هجوم هؤلاء للتعليم؟ وما الذي خسرته عقولنا وشخصياتنا في المدارس؟ وما البديل عنها؟
هل تستطيع التفكير بحرية في المدرسة؟
رأى فريدريك نيتشه الفيسلوف الألماني والناقد الثقافي، أن التعليم يسير في اتجاهين مختلفين تمامًا لكنهما ينتهيان إلى نفس النتيجة المأساوية، والأول هو توسيع العلم إلى أكبر حد ممكن وفرضه على السكان الذين ربما ليسوا بحاجة إليه، والثاني هو الرغبة في تضييق وإضعاف العلم، وتخليه عن الاستقلالية وخضوعه لخدمة الدولة كوسيلة للنمو الاقتصادي، وكأن التعليم هو الواسطة من أجل تحقيق الأهداف المادية، دون تقدير أهمية الثقافة، إذ قال بهذا الشأن: “لا أحد سيكافح للحصول على التعليم لو أدرك أن هناك القليل منْ يحصل على التعليم الحقيقي”.
التعليم الحقيقي لا يتحقق بتعلم المهارات التي تقود إلى كسب النقود فقط، بل عملية تهدف إلى التحرر من التقليدية وأثقال العادات والتقاليد
كما يعتقد أن الجامعات تخادع طبيعة الإنسان التي تنتمي إلى التعليم والنمو الذاتي، ويرى أن التعليم الحقيقي لا يتحقق بتعلم المهارات التي تقود إلى كسب النقود فقط، بل عملية تهدف إلى التحرر من التقليدية وأثقال العادات والتقاليد، وعلى المعلم أن يكون محررًا للذات والوجود لأنه جزء من عملية التربية الذاتية التي تهدف إلى خلق الثقافة الحقيقة للمرء وهذا ما لا يمكن تطبيقه لأنه لا يخدم مصالح الدولة أو السوق الاقتصادية، بحيث يبقى المرشد التعليمي عبدًا للموضوعات الأكاديمية وتبقى حكرًا على من يفضل التعليم الذاتي ويبحث في آفاق الثقافة.
هل تتدخل السياسة في المنظومة التعليمية؟
قال السياسي البريطاني بينجامين دزرائيلي، خلال كلمة ألقاها عام 1839: “أينما وجدت ما يسمى بالحكومة الأبوية، وجد التعليم الحكومي، فلقد تبين أن أفضل طريقة لضمان الطاعة التامة أن يبدأ الاستبداد منذ مرحلة الحضانة”.
نظام التعليم الإجباري الحاليّ ينتهك حقًا أساسيًا للإنسان، وهو الحق في تقرير ما يدخل عقله معتقدًا بأن حرية التعلم جزءًا من حرية الفكر أكثر من حرية التعبير
ودعا أيضًا كل من نيل بوستمان المعلم والناقد الإعلامي الأمريكي، والكاتب تشارلز وينغارتنر إلى تدريس منهج مختلف عن المنظومة التعليمية لتشجيع الطلاب على طرح الأسئلة التي لها مغزى في كتابهما “التدريس كنشاط تخريبي” وهو ما جادله أيضًا الفيلسوف هربرت سبنسر وهي الاستبداية الملازمة لنظام التعليم ويقول: ماذا يعني بأن على الحكومة أن تثقف الشعب؟ لماذا يجب أن يكونوا متعلمين؟ ما هو التعليم؟ ومن الواضح أن الأجابة هي لتماشي الناس مع الحياة الاجتماعية – لجعلهم مواطنين صالح، ومن الذي يحدد من هم المواطنون الصالحون؟ إنها الحكومة: لا يوجد قاض آخر غيرها، ومن الذي يقول كيف يمكن أن يجعل هؤلاء المواطنين جيدين؟ إنها الحكومة: لا يوجد قاض آخرغيرها، وبالتالي فإنه يجب على الحكومة أن تخلق من الأطفال مواطنين جيدين، لذلك يجب عليها أن تشكل أولًا لنفسها تصورًا واضحًا نمطيًا للمواطن؛ ولإنتاج مواطنين بالشكل المطلوب، يجب تأسيس نظام يضمن الالتزام والانضباط إلى أقصى حد، وخلاف لذلك، فإنه يسمح للمواطن بأن يكون نسخة مختلفة عما ينبغي أن يكونه، وبالتالي تفشل الحكومة في شحنه وتعبئته”.
ويؤكد جون كالدويل هولت، معلم أمريكي داعم للتعليم المنزلي الذاتي، بأنه يجب أن يملك الشباب الحق في تحديد مسيرتهم التعليمية وتوجههم في هذا المجال، واعتبر أن نظام التعليم الإجباري الحاليّ ينتهك حقًا أساسيًا للإنسان، وهو الحق في تقرير ما يدخل عقله معتقدًا بأن حرية التعلم جزءًا من حرية الفكر أكثر من حرية التعبير، وهاجم التعليم “القسري” حتى إذا كان الطالب يتعلم أي شيء على الإطلاق واعتبره اختراق صارخ لحرياته المدنية.
قوانين المدرسة الصارمة
يرى إيفان إليتش، أديب روسي، في كتابه “مجتمع بلا مدارس” أن التعليم يخلط بين المدرسة والتعلم، فهناك إيديولوجيات تحظى باهتمام المؤسسات التعليمية أكثر من الموضوعات التي تشغل تفكير الطالب، مثل الدرجات العلمية وشهادات التقدير وعلامات الحضور التي لا تكافئ الإنجاز الحقيقي للفرد، وتنزع إرادة الشخص وتخون قيمته لنفسه وتمنعه من التعلم الذاتي وبالتالي تقوده للعجز النفسي، فالمدارس تعمل على قياس التطور البشري بأدوات سلطوية لخدمة العالم الصناعي الرأسمالي الذي يهدف إلى تحديد دور الفرد، وهذا ما يجعل الإقبال على التخصصات الاجتماعية يختلف باختلاف أهميتها لطموح الدولة.
ومن جانب آخر اتفق البعض على أنه يمكن تعلم أي شيء خارج المدرسة في وقت أقصر بكثير من الوقت الذي يقضى عادة في المدرسة، وهذا ما أكدته الدراسات التي أشارت إلى أن الأمور التي لم يشارك الفرد في أنشطة لتعزيزها أو لم يجد رابطًا بين ما تم تلقينه له وما يحتاج لممارسته في الواقع ينسى بسرعة، وهذا ما جعل البعض ينظر إلى المدارس بنظرة معاكسة للشائع بسبب قوانينها التي تكون عادة مصدرًا للتوتر والاكتئاب بسبب الضغوط الأكاديمية والاجتماعية مما يؤدي إلى عدم احترام ذاته والشعور بأنه نكرة.
هذه بعض الأراء التي اختصرت تأثير سلطة التعليم على طريقة التفكير ودورها في تشكيل شخصياتنا وتحديد ملامح مسيرتنا المستقبلية، والتي رأت بالنهاية أن التعليم المنزلي قد يكون الحل الأمثل للتخلص من سيطرة قوانين المدرسة ومناهجها التي تخلق منا نسخ مكررة على مر الأجيال، وبالرغم من منطقية هذه الفكرة للبعض، إلا إنها ما زالت خيار صعب لبعض العائلات التي يصعب عليها معاكسة التيار ومخالفة ما اعتادت عليه المجتمعات بصفة عامة، خوفًا من عدم تحقيق النجاح خارج أسوار المدرسة.