منتجات مصرية في أفواه الإسرائيليين.. كيف يساهم السيسي في إنقاذ الاحتلال؟

يومًا بعد يوم، ومع استمرار الحرب على غزة التي دخلت شهرها التاسع، تزداد خسائر الاقتصاد الإسرائيلي نتيجة الشلل التام الذي أصاب قطاعات بأكملها، وهروب رؤوس الأموال الأجنبية بحثًا عن ملاذات آمنة، وسط مؤشرات مخيبة للآمال ومخاوف من انكماش يطرق الأبواب، ولا خلاص منه إلا بوقف الحرب في أسرع وقت.

ولإنقاذ اقتصاد تل أبيب من تبعات حرب الإبادة، تهرع مصر – ومن خلفها العديد من الدول العربية – من تحت الطاولة، وتضاعِف صادراتها لحل أزمة نقص البضائع التي تعاني منها الأسواق الإسرائيلية.

منتجات مصرية على الأرفف الإسرائيلية

تمثل كل ثانية تمر على الفلسطينيين في غزة فاصلًا بين الموت والحياة في ظل إغلاق المعابر ومنع وصول المساعدات الإنسانية، فمن نجا من الموت يواجه كل لحظة معاناة مختلفة بعد أن تعمدت قوات الاحتلال تدمير كل ما تستطيع من مقدرات الحياة في جميع القطاعات الاقتصادية والتجارية والصناعية والخدمية والبنية التحتية من طرق وكهرباء ومياه ومستشفيات ومدارس، ومع ذلك، يكافئ النظام المصري الاحتلال على هذه الجرائم.

يكشف تقرير حديث صادر عن دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية أن الصادرات المصرية إلى “إسرائيل” تضاعفت خلال عام 2024 مقارنة بالعام السابق، رغم القتل والدمار الذي تمارسه “إسرائيل” في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وأظهرت البيانات المنشورة أن الصادرات المصرية بلغت 25 مليون دولار في مايو/أيار 2024، وهي ضعف الصادرات المسجلة في نفس الفترة من عام 2023، رغم أن إجمالي الواردات للأشهر الـ5 الأولى من العام انخفض بشكل طفيف عند 85.6 مليون دولار مقارنة بـ90.7 مليون دولار في الفترة المماثلة من العام السابق.

وخلال الشهور الـ4 الأولى من حرب غزة، نمت قيمة التجارة بين نظام السيسي والاحتلال الإسرائيلي بنسبة 35%، لتصل إلى 800 مليون دولار، مقابل 562 مليون دولار في الشهور ذاتها من العام السابق، وفق بيانات جهاز الإحصاء المصري.

كما حققت “إسرائيل” فائضًا تجاريًا مع مصر بقيمة 754 مليون دولار خلال الشهور الأربع، ونمت واردات مصر من “إسرائيل” بنسبة 42%، خاصة الغاز الطبيعي.

وبحسب تصريحات لزعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي في أواخر مايو/أيار الماضي، فإن “العدو الإسرائيلي لا يزال يستفيد بشكل كبير من العلاقات الاقتصادية مع مصر، ولا تزال السفن المصرية التي تذهب بالبضائع إلى العدو الإسرائيلي متقدمة على كثير من البلدان، ومثل هذا لا ينبغي، بعد كل ما حصل للشعب الفلسطيني وصولًا إلى ما يحدث من تحدي إسرائيلي لمصر ومن قتل للجنود المصريين واعتداء على الجيش المصري”.

تصريحات الحوثي تتطابق مع تحقيق صحفي نشره موقعا “ميدل إيست آي” و”عربي بوست” بشكل مشترك، يكشف قائمة المنتجات العربية المصدرة لدولة الاحتلال منذ بدء الحرب في غزة، حتى في الوقت الذي واجهت فيه “إسرائيل” إدانة دولية ودعوات لمقاطعة تجارية بسبب اتهامات بالإبادة الجماعية واستشهاد أكثر من 37 ألف فلسطيني.

يكشف التحقيق عن تورط 37 شركة مصرية في التجارة مع “إسرائيل” بإجمالي 206 منتجات غذائية مصرية متوافقة مع الشريعة اليهودية، تتضمن عشرات الأصناف من الخضراوات والفواكه المجمدة والسكر والعصائر التي وصلت لمستوردين إسرائيليين، وتم اعتمادها خلال فترة العدوان الإسرائيلي على غزة، وتسويقها وبيعها في الأراضي المحتلة في الوقت الذي تُباع بعض هذه المنتجات بالسوق المصرية، ويُخصص بعضها الآخر للتصدير للخارج فقط.

قائمة المنتجات صادرة عن الحاخامية الكبرى في “إسرائيل”، وهي مؤسسة دينية معترف بها من القانون باعتبارها السلطة الروحية لليهود في “إسرائيل”، ومخولة بإصدار شهادات “الكوشير” الإلزامية، التي تشير إلى الامتثال للقانون اليهودي، وتسمح ببيع المنتجات الغذائية الموافقة للشريعة اليهودية في معظم المتاجر ومحلات السوبرماركت الإسرائيلية.

ومن أبرز الشركات المصرية المصدرة للاحتلال، هي شركة “فرج الله” التي يرأسها رجل الأعمال المصري فرج عامر، رئيس نادي سموحة لكرة القدم والرئيس السابق للجنة الصناعة بمجلس النواب، وتشمل منتجات “فرج الله”، وهي إحدى أكبر شركات إنتاج المواد الغذائية في مصر، عصائر وخضراوات مجمدة (منها البامية والملوخية) يتم تصديرها لشركة “أدير (Adir)” في تل أبيب، وتُباع على الرفوف في السوبرماركت الإسرائيلية وعلى الإنترنت.

ووفقًا لتغريدة نشرها الصحفي الإسرائيلي الشهير إيدي كوهين، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وتضمنت صورًا من منتجات شركة “فرج الله” وشركة “راية فودز”، قال إنها تصل إلى “إسرائيل” من خلال شركات مصرية، فإن “الشركات المصرية تتنافس مع بعضها البعض لدخول الأسواق الإسرائيلية وبيع بضاعتها هناك”، وهو ما ألمح إليه عامر في تصريحات صحفية قال فيها “يا ريت مصر كلها تصدّر لإسرائيل وناخد الفلوس من حبابي عينهم، لو أنا بصدر الخضار لتل أبيب هتنفعهم بإيه ما هي مالية العالم”.

وقبل ذلك بسنوات، وفي أبريل/نيسان عام 2019، أثارت “فرج الله” أيضًا الكثير من الجدل الذي أحاط بالشركة وصاحبها بعد انتشار صور منتجاتها في “إسرائيل”، وتثبت تورطها في تصدير منتجاتها إلى دولة الاحتلال رغم نفي عامر وقتها تصدير منتجات شركته إلى “إسرائيل”، وتأكيده على أنها تُصدر إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.

تشمل الشركات المصرية أيضًا التي ثبت تورطها في تصدير منتجاتها إلى “إسرائيل” شركة “أجرو جرين (AGRO GREEN)” المصدرة للزيتون المصرى، ولديها 40 منتجًا بما في ذلك الفراولة المجمدة والخرشوف والفاصوليا والبامية المجمدة، معتمدة للبيع في “إسرائيل”.

عقاب الفلسطينيين مقابل مكافأة المحتل

زيادة صادرات البضائع المصرية إلى دولة الاحتلال تأتي في وقت تتكدس فيه المساعدات على الحدود ويشتد الجوع على سكان غزة، بعد غلق المعابر أمام دخول شاحنات المساعدات وانخفاض أعداد الطائرات التي تلقي صناديق المساعدات على القطاع، والازدحام الشديد على المراكز التي توزع الطعام بالمجان على الأهالي رغم عدم كفايته أو احتوائه على العناصر الغذائية الأساسية وشكاوى الجرحى من صعوبة الاستشفاء نتيجة نقص الأدوية والأطعمة التي يحتاجها الجسم للتعافي.

تعنت الاحتلال في إدخال شاحنات المساعدات من مصر إلى غزة، واستخدامه التجويع كسلاح من أسلحة حرب الإبادة التي يمارسها في غزة، وما سبَّبه هذا الأمر من مجاعة غير مسبوقة بين سكان القطاع بعد فشله في تحقيق أيًا من أهدافه عبر العمل العسكري، لم يمنع السيسي من وقف شاحنات البضائع المتجهة إلى “إسرائيل”، بل دفعه إلى استغلال الأزمة في زيادتها بشكل كبير.

هذا بالإضافة إلى فتح شركة “ميدكون لاينز” للشحن البحري خط شحن بحري جديد بين الموانئ المصرية والإسرائيلية لتسهيل عمليات الشحن بينهما مباشرة، ونقل كميات من البضائع التي تحتاجها تل أبيب، التي تعاني من الحصار البحري الذي يفرضه الحوثيون في اليمن على حركة النقل البحري إليها، ما أدى إلى ردود فعل غاضبة اتهمت نظام السيسي بالغدر والخيانة ومعاونة الاحتلال في قتل الفلسطينيين.

حددت مصر و”إسرائيل” هدفًا للتجارة الثنائية السنوية (باستثناء صادرات السياحة والغاز الطبيعي) بنحو 700 مليون دولار بحلول عام 2025

وفي نهاية العام الماضي، ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن مصر ستنضم إلى الجسر البري لنقل البضائع من دول خليجية إلى “إسرائيل” للالتفاف على الحوثيين الذين تسببت هجماتهم على السفن التجارية في البحر الأحمر في انخفاض شحن الحاويات عبر المنطقة بنسبة 90% خلال 3 أشهر فقط (بين ديسمبر/كانون الأول وفبراير/شباط الماضيين).

المفارقة هنا أنه على الرغم من توتر العلاقات بشكل متزايد بين القاهرة وتل أبيب، تكثف التعاون في مجال الطاقة والأمن بينهما منذ بدء الحرب في غزة، ورغم رفض المصريين العلاقات مع “إسرائيل”، تحافظ مصر على علاقاتها الأمنية معها، كما تشترك معها في المصالح الأمنية بقطاع غزة، وكذلك في سيناء وشرق البحر الأبيض المتوسط، وترى القاهرة أن حماس تشكل تهديدًا خطيرًا وتقيد المعابر من وإلى غزة.

المساعدات تتكدس أمام الجانب المصري من معبر رفح في انتظار الدخول.

في العام الماضي، زادت صادرات الغاز الإسرائيلي المتفق عليها إلى مصر إلى ما يقدر بنحو 1.5 مليار دولار، أي أكثر من ثلاثة أضعاف قيمة التجارة مجتمعة في جميع السلع الأخرى، لكنها توقفت منذ بداية الحرب الأخيرة على غزة، ما أدخل البلاد في حالة من الفوضى فيما يخص الطاقة وانقطاع الكهرباء.

وفي عام 2023، نمت التجارة الإسرائيلية مع مصر بنسبة 56% لتصل إلى 477 مليون دولار وفقًا لمكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، وارتفعت بنسبة 168% (من 71 مليون دولار إلى 191 مليون دولار) على أساس سنوي في الربع الرابع، وتمتلك “إسرائيل” فائضًا تجاريًا مع مصر يزيد على 100 مليون دولار، وفقًا لتقرير معهد أبراهام لاتفاقات السلام، وهو منظمة مقرها الولايات المتحدة تعمل على تعزيز العلاقات الدبلوماسية والتجارية الوثيقة.

وفي عام 2022، حددت مصر و”إسرائيل” هدفًا للتجارة الثنائية السنوية (باستثناء صادرات السياحة والغاز الطبيعي) بنحو 700 مليون دولار بحلول عام 2025، ارتفاعًا من نحو 300 مليون دولار في عام 2021، حسبما أعلنت وزارة الاقتصاد والصناعة الإسرائيلية.

وبموجب الخطة المقترحة، يقوم البلدان بشكل مشترك بتطوير معبر العوجا (نيتسانا) بينهما كمركز لوجستي إقليمي ومنطقة عمل مشتركة، وتطوير مشروعات مشتركة في مجال الطاقة الخضراء، وزيادة عدد الرحلات المباشرة، والانخراط في التعاون في مجال البحث والتطوير، مع قيام “إسرائيل” بزيادة وارداتها من المواد الغذائية والأسماك الطازجة ومواد البناء من مصر وصادرات الحلول والتقنيات الزراعية.

وكانت القاهرة وسيطًا رئيسيًا بين “إسرائيل” وحماس في الحرب الحالية على غزة، وحافظت في الوقت نفسه على علاقات سلمية مع “إسرائيل” على مدى السنوات الـ45 الماضية منذ معاهدة السلام عام 1979، لكن العلاقات كانت فاترة في معظمها، ثم تحسنت مؤخرًا في السنوات القليلة الماضية وإن جاء ذلك على حساب الفلسطينيين.

ومع ذلك، أصبحت العلاقات بين البلدين متوترة بشكل متزايد منذ أكتوبر/تشرين الأول بسبب مخاوف القاهرة من مخطط تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وهي الفكرة التي روج لها السياسيون الإسرائيليون، وزادت حدتها في ظل نزوح غالبية سكان غزة وتوغل قوات الاحتلال داخل القطاع المحاصر.

وفي شهر مايو/أيار الماضي، تصاعدت التوترات الحدودية المتزايدة عندما استولت قوات الاحتلال على معبر رفح الحدودي الاستراتيجي، وهو المنفذ البري الوحيد بين غزة ودولة عربية، واستشهد جنديان مصريان على يد جيش الاحتلال عند المعبر قبل إغلاقه بشهر، لكن رد الجهات الرسمية المصرية كان ضعيفًا حتى الآن.

أدَّت كل هذه الحوادث إلى انهيار الروح المعنوية لجنود وضباط مصريين على الحدود بين سيناء وغزة وشعورهم بالعجز والإحباط وخذلان النظام وقيادات الجيش لهم بعد الصمت والتفريط في دماء الشهداء وتقاعس القيادات عن محاسبة “إسرائيل” على جرائمها المستمرة منذ بداية هجومها على غزة المجاورة في أكتوبر/تشرين الأول.

اعترف إبراهيم العرجاني بتحصيله رسومًا من الفلسطينيين الراغبين في دخول مصر عن طريق معبر رفح عبر شركته “هلا” التي حققت ما لا يقل عن 88 مليون دولار مقابل إجلاء أكثر من 20 ألف شخص 

وتحدث جنود عن ممارسات جيش الاحتلال الوحشية ضد المدنيين في قطاع غزة، وعجزهم المستمر عن تقديم المساعدة لهم، وأظهروا عدم رضاهم عن طريقة تعامل النظام مع الحرب، وموقف حكومتهم تجاه “إسرائيل”، خاصة بعد استشهاد زملائهم الذين لم يحظوا بتكريم أو جنازة عسكرية أو اعتراف رفيع المستوى من الجيش، بما في ذلك القيادات العليا بحكومة السيسي، ولم تتحدث وسائل الإعلام المرتبطة بالدولة عن وفاتهم.

وتدخلت الشؤون المعنوية لتهدئة الضباط والمجندين، وبررت موقف القيادات بتفويت الفرصة على مخطط الاحتلال الذي أراد دفع مصر للمشاركة في الحرب، لكن تبريرات الشؤون المعنوية لم تسهم في تهدئة الجنود، وانخفضت الروح المعنوية لديهم إثر مخاوف مشابهة لمصير المجندين.

وعلى بعد أمتار من غزة، لم يجرؤ السيسي على اتخاذ أي إجراء تصعيدي ضد الاحتلال، ويُقارن موقف بلاده بموقف دول أخرى في ناحية أخرى من العالم، مثل المالديف، وهي واحدة من أبرز الوجهات السياحية في العالم ومشهورة بجزرها الساحرة، ورغم أن السياحة تمثل أهم وأكبر مصدر للعملة الأجنبية فيها، فإنها حظرت دخول حاملي جوازات السفر الإسرائيلية إلى أراضيها، بسبب جرائم الإبادة الجماعية في غزة، في خطوة جريئة تعتبر الأولى من نوعها في معاقبة الاحتلال الذي يواجه موجة غضب حول العالم.

وفي مقابل تعاطف دولي مع فلسطين واعتراف دول أوروبية عديدة بها، وعلى عكس ما فعلته المالديف، ما زال السياح الإسرائيليين مرحب بهم في مصر، وما زال السيسي يحافظ على علاقته بدولة الاحتلال، وحتى اليوم لم يسحب السفير المصري من تل أبيب، ولم يقطع العلاقات، ويوجه حكومته للبدء في إنجاز مشروع سياحي يهدف لجذب مزيد من السياح “الإسرائيليين”، الذي يجسد قصة مسار خروج بني إسرائيل من مصر.

واستمرارًا لزيادة معاناة الفلسطينيين لصالح “إسرائيل”، وبعد أشهر من النفي الرسمي لرشاوى معبر رفح، اعترف إبراهيم العرجاني، المعروف بقربه من أسرة السيسي وعلاقاته بالأجهزة السيادية، لأول مرة بتحصيله رسومًا من الفلسطينيين الراغبين في دخول مصر عن طريق معبر رفح عبر شركته “هلا” التي حققت ما لا يقل عن 88 مليون دولار في غضون أسابيع مقابل إجلاء أكثر من 20 ألف شخص من غزة وفقًا لصحيفة “ذا تايمز” البريطانية.

تحصل شركة “هلا” السياحية التي يديرها العرجاني على آلاف الدولارات من الفلسطينيين الذين يريدون الخروج من قطاع غزة

وفي حوار مع صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، أقر العرجاني بأن زيادة الطلب في زمن الحرب على الخروج من رفح إلى القاهرة أجبر الشركة على رفع أسعارها، وزيادة قيمة الرسوم إلى 5 آلاف دولار لتنسيق خروج الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 16 عامًا، و2500 دولار لمن تقل أعمارهم عن ذلك، وهي المبالغ التي حاول العرجاني التشكيك في صحتها.

واعترف العرجاني بأنه ليس سوى شريك في “هلا”، وهو ما دفع محللون للحديث عن ارتباط مسؤولين وجهات رسمية بعملها، خاصة مع إصرار نظام السيسي على تجاهل دورها في ابتزاز الفلسطينيين والمحاولات الرسمية لنفي تحصيل أي رسوم منهم رغم وجود المئات من شهود العيان وما وثقته وسائل الإعلام المختلفة عن هذا الموضوع.

تواطؤ عربي

رغم الدعوات الدولية لمقاطعة الاحتلال الإسرائيلي وداعميه، إلا أن الروابط التجارية بين “إسرائيل” ودول عربية أخري لم تتأثر، إذ لم تكن مصر الدولة العربية الوحيدة التي زادت من تجارتها مع الاحتلال، بل تتنافس معها 5 دول عربية أخرى تصدر منتجاتها للاحتلال، وتظهر البيانات التجارية تقلب وارداتها إلى “إسرائيل” على الرغم من الإدانة العالمية لحربها في غزة.

ووفقًا للتقرير السنوي لعام 2023 الصادر عن معهد اتفاقيات أبراهام للسلام، يبدو أن الحرب أثرت على تجارة “إسرائيل” مع الدول العربية بدرجة أقل من تجارتها مع بقية العالم، ففي حين انخفضت تجارة “إسرائيل” مع دول العالم بنسبة 18% (من 43 مليار دولار إلى 36 مليار دولار) في الربع الأخير من عام 2023، انخفضت التجارة مع الدول العربية بنسبة 4% فقط، من 937 مليون دولار إلى 903 ملايين دولار.

ويسلط التحقيق الذي نشره موقع “ميدل إيست آي” و”عربي بوست”، الضوء على الروابط التجارية المستمرة بين “إسرائيل” وعدد من دول المنطقة، بما في ذلك الأردن والمغرب وتونس والسعودية والإمارات، منذ بدء الحرب في غزة في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.

ووفقًا لقاعدة بيانات المنتجات المعتمدة للكوشير، والتي نشرتها الحاخامية الكبرى في “إسرائيل”، تمت الموافقة على شهادات “كوشير” جديدة لمئات المنتجات الغذائية (442 منتجًا) التي تصنعها شركات في الدول العربية خلال الحرب الأخيرة التي تشنها “إسرائيل” على غزة، ولا يزال الكثير منها يباع في “إسرائيل”، وتشمل الخضراوات والفواكه المجمدة أو المعلبة والزيوت والعصائر والطحينة والسكر والمشمش والتونة والمكرونة والفول السوداني.

وفي حين تتصدر مصر القائمة بعدد المنتجات المصدرة، يأتي المغرب في المرتبة الثانية (113 منتجًا)، تليه الإمارات (99 منتجًا) والأردن (19 منتجًا)، كما تشير البيانات لاستيراد الاحتلال 2925 منتجًا غذائيًا من دول إسلامية مثل تركيا وباكستان.

وتضم قاعدة البيانات عشرات الشركات العربية المصنعة لهذه المنتجات، من بينها 25 شركة مغربية، و5 شركات أردنية، و4 شركات إماراتية، و7 شركات أجنبية بعضها تصدر منتجاتها إلى الخارج فقط، وتتاجر مع شركات إسرائيلية من منشآت إنتاج في الإمارات، لكن عددًا صغيرًا من المنتجات من الشركات في تونس والسعودية معتمدة حاليًا على أنها “كوشير”.

وتشمل أهم الشركات الإماراتية الكبرى التي تم اعتماد بضائعها على أنها “كوشير”: شركة “البركة” للتمور، التي تم اعتماد 38 منتجًا من منتجاتها حاليًا، بما في ذلك 18 منتجًا تم اعتمادها في الشهر الخامس من الحرب، وشركة “هانتر فودز (Hunterfoods)” المنتجة لرقائق البطاطس والوجبات الخفيفة الأخرى، والتي وصل 18 منتجًا من منتجاتها إلى المستوردين الإسرائيليين، بما في ذلك بعض المنتجات المعتمدة في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي.

وتصدر الإمارات التمور إلى “إسرائيل” منذ توقيع اتفاق أبراهام في 13 أغسطس/آب 2020، الذي جعلها أول دولة خليجية تطبع علاقاتها مع “إسرائيل”، ومع ذلك، ووسط تجاهل دماء الفلسطينيين، واجهت الدولة الخليجية قبل أيام قليلة نزاعًا دبلوماسيًا بشأن شحنة تمور منزوعة النوى مخصصة لاستخدام الإماراتيين في السفارة ومقر إقامة السفير في تل أبيب، لكن وزارة الزراعة الإسرائيلية حظرتها لأسباب تتعلق بالمخاطر الزراعية، وهو القرار الذي أثار غضب أبو ظبي، ووصفت الأزمة بأنها “صدع حقيقي”.

تمور إماراتية معروضة للبيع في سوبر ماركت في مدينة عكا شمالي “إسرائيل”.

وفي المغرب، تشمل أهم الشركات الحاصلة منتجاتها على شهادة “كوشير”، شركة “أطلس لزيوت الزيتون”، وهي واحدة من أقدم الشركات في البلاد، ووصل 16 منتجًا من منتجاتها إلى مستوردين إسرائيليين، وشركة المنتجات البحرية “Talekroup”، التي وصل 26 من منتجاتها إلى “إسرائيل”، وشركة “COSUMAR” المحتكرة لإنتاج وتسويق مادة السكر في المغرب منذ نحو قرن، وهناك شركة مغربية أخرى مدرجة في قاعدة البيانات، وهي “ريو دي أورو (RIO DE ORO)” المتخصصة في تصنيع المنتجات البحرية وتصديرها، ويقع مقرها في ميناء الداخلة بأقصى جنوب المملكة المغربية.

ومن المثير للجدل أن المنتجات من تونس والسعودية، الدولتان اللتان تفتقران إلى إقامة علاقات دبلوماسية أو تجارية رسمية مع “إسرائيل”، تظهر أيضًا في قاعدة بيانات شهادات الكوشير التي تضمنت أسماء شركتين عُثر على منتجاتهما معروضة للبيع في متاجر إسرائيلية عبر الإنترنت.

وتحمل شهادة واردات السكر الأبيض اسم الشركة السعودية “درة (Durrah)” باعتبارها الشركة المصنعة، وكذلك الأمر بالنسبة لشركة “مونا فود (MOONA FOOD)”، وهي شركة تونسية منتجة للتونة والسردين حصلت 4 من منتجاتها على شهادة “كوشير”، لكنها ادَّعت أن منتجاتها وصلت إلى السوق الإسرائيلية عبر عمليات استيراد غير مباشرة أو من خلال أطراف ثالثة لا سيطرة لها عليها، نظرًا لأن منتجاتها يتم تصديرها إلى أكثر من 20 دولة.

وفي حين يدل حجم شهادات “الكوشير” المعتمدة للمنتجات العربية على أن قوة التجارة المستمرة بين “إسرائيل” ودول المنطقة لا تزال قائمة منذ بداية الحرب في غزة، تنكر بعض الشركات الصادرات المباشرة إلى “إسرائيل”، وتدعي أن منتجاتها ربما وجدت طريقها إلى الأسواق الإسرائيلية عبر وسطاء (شركات وموزعين) من بلدان ثالثة.

وقالت شركات أخرى إن منتجاتها كانت مخصصة للأسواق الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة وداخل “إسرائيل”، لكن المستوردين الفلسطينيين المقيمين في “إسرائيل” أو الأراضي المحتلة لا يُطلب منهم الحصول على شهادة “الكوشير” للمنتجات المبيعة حصريًا في الأسواق الفلسطينية، وبموجب قوانين استيراد الأغذية الإسرائيلية، تقع مسؤولية الحصول على شهادات الكوشير على عاتق المستورد.   

لكن هذه الادعاءات تدحضها أحدث البيانات التي نشرها مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، والتي توفر نظرة ثاقبة حول مدى الروابط التجارية بين “إسرائيل” وعدد من دول المنطقة، والتي توطدت – على عكس المتوقع – منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة قبل أكثر من 8 شهور.

ووفقًا لتقرير المكتب الإسرائيلي، ارتفعت الصادرات الإماراتية إلى “إسرائيل” أيضًا إلى 242 مليون دولار في مايو/أيار 2024، مقارنة بـ238.5 مليون دولار في مايو/أيار 2023، وفي الوقت نفسه، واصلت الصادرات الأردنية إلى “إسرائيل” ارتفاعها في العام 2024، لتصل إلى 35.7 مليون دولار في مايو/أيار 2024 مقارنة بـ32.3 مليون دولار في نفس الفترة من العام الماضي.

وعلى الرغم من الاستنكار العالمي ضد الحرب الوحشية التي تشنها “إسرائيل” على غزة، تحافظ الإمارات على علاقاتها مع “إسرائيل”، وتدافع عن تطبيعها معها، مستشهدة بالمخاوف الإنسانية للفلسطينيين، وتبرر موقفها كأداة دبلوماسية للتفاوض من أجل الحصول على مساعدات إنسانية عاجلة للفلسطينيين في الأراضي المدمرة.

وفي عام 2023، شكَّل حجم تجارتها مع “إسرائيل” نحو ثلاثة أرباع تعاملات “إسرائيل” مع الدول العربية، وبينما انخفضت التجارة الإسرائيلية الإماراتية بنسبة 14% في الربع الأخير من عام 2023، وهو أقل من الانخفاض في التجارة بين “إسرائيل” وبقية العالم، ومع ذلك، شهدت نموًا بنسبة 17% على أساس سنوي.

هذا النمو التجاري ترجمته الإمارات في مارس/آذار 2023 إلى اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة مع “إسرائيل”، لتصبح أول اتفاق للتجارة الحرة بين “إسرائيل” ودولة عربية، وكان رد وزير الدولة الإماراتي للتجارة الخارجية، ثاني الزيودي، على سؤال بشأن العلاقات الاقتصادية بين بلاده و”إسرائيل” بعد أيام قليلة من عملية “طوفان الأقصى”، والذي قال فيه: “نحن لا نخلط بين الاقتصاد والتجارة والسياسة”، خير دليل على خروج الإمارات عن السياسة العربية المتبعة تجاه القضية الفلسطينية على مدى عقود.

وفي الأردن، انخفضت التجارة بنسبة 16% في عام 2023، حيث شهد الربع الأخير من عام 2023 انخفاضًا بنسبة 42% مقارنة بالربع الرابع من عام 2022، ومع ذلك، وفقًا لمعهد اتفاقات أبراهام للسلام، يبدو أن الانخفاض لا علاقة له بالحرب، ويعود إلى حد كبير إلى زيادة الطلب الإسرائيلي على المنتجات الطازجة في أواخر عام 2022.

تشمل الصادرات الأردنية لـ”إسرائيل” أصنافًا مختلفة من الخضراوات

تُقدَّر قيمة الواردات من الإمارات خلال الأشهر الخمس الأولى من العام الجاري بنحو 1.2 مليار دولار، بانخفاض من 988 مليون دولار، في حين بلغت قيمة الواردات من الأردن 129.1 مليون دولار، بانخفاض من 184 مليون دولار، وكانت قيمة واردات البلدين العربيين في مايو/أيار 2024 أعلى مما كانت عليه في مايو/أيار 2023.

وفي الوقت نفسه، نمت تجارة “إسرائيل” مع المغرب منذ تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل” من خلال “اتفاقيات أبراهام” لعام 2020، وزاد حجم التجارة المغربية مع “إسرائيل” بأكثر من الضعف في عام 2023 مقارنة بعام 2022، وبلغت قيمة الواردات من المغرب خلال الأشهر الخمس الأولى من العام الجاري 7.4 مليون دولار، وهو ما يظهر مرونة العلاقات التجارية بين البلدين رغم الحرب بين “إسرائيل” وحماس.

يأتي هذا الارتفاع القياسي في حجم الصادرات العربية إلى دولة الاحتلال في وقت تواصل فيه الأخيرة شن حربها على القطاع، ويواجه كل سكان غزة تقريبًا خطر انعدام الأمن الغذائي الحاد في ظل تقييد الاحتلال دخول المساعدات الإنسانية وفقًا لتقديرات أوروبية.

ووفقًا للمنسق العام للجنة الوطنية لحركة المقاطعة “BDS” محمود نواجة، لا يمكن اعتبار نمو التجارة بين هذه الدول العربية و”إسرائيل” سوى تورط وتواطؤ في الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والإبادة الجماعية في غزة تحديدًا، وهذا لا يعكس موقف الشعوب العربية التي كانت تدعو إلى المقاطعة الكاملة، في حين تدعم هذه الدول النظام الاستعماري الإسرائيلي بتوجيه من الولايات المتحدة.

وعلى عكس الدول العربية المتاخمة لـ”إسرائيل” والأراضي الفلسطينية المحتلة، مثل مصر والأردن، اللتين تتمتعان بعلاقات تجارية راسخة مع “إسرائيل” مبنية على علاقات دبلوماسية طويلة الأمد مع “إسرائيل”، وجدت الإحصاءات الإسرائيلية أن الصادرات التركية إلى “إسرائيل” انخفضت بأكثر من النصف عام 2024 مقارنة بالعام السابق وسط الإجراءات والقيود التي فرضتها وزارة التجارة التركية على الصادرات في خطوة لردع “إسرائيل” عن مواصلة استهدافها سكان القطاع.

ووسط دعوات عالمية لمقاطعة “إسرائيل” بسبب هجومها على غزة، أوقفت الحكومة التركية الشهر الماضي جميع أشكال التجارة مع “إسرائيل”، بما في ذلك صادرات المواد الغذائية، وانخفضت صادراتها إلى “إسرائيل” إلى 116.8 مليون دولار في مايو/أيار 2024 مقارنة بـ376.6 مليون دولار في مايو/أيار 2023.

وتضررت الواردات الإسرائيلية من الخضار والفاكهة بسبب استهداف الحوثيين في اليمن بعض السفن المتجهة نحو مينائي حيفا وإيلات، كما أدَّى الموقف التركي حيال العدوان على غزة إلى تراجع صادرات أنقرة من الأغذية التي كانت تصل تل أبيب.

ومع ذلك، لم تحذُ أي دولة عربية حذو تركيا، وبدلًا من ذلك، قالت الصحافة العبرية، في مطلع يناير/كانون الثاني الماضي، إنه بسبب الحرب على غزة استوردت “إسرائيل” 500 طن من الطماطم من الأردن في أسبوع واحد لتعويض النقص الذي حدث من خفض كميات الخضراوات والفواكه المستوردة من تركيا.

وقفة احتجاجية في الأردن منددة بالتطبيع الاقتصادي مع “إسرائيل”

ومنذ منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، أصبح قانون حماية المستهلك يلزم التجار في “إسرائيل” بتحديد بلد المنشأ للسلع الغذائية السائبة والمنتجات الزراعية غير المعبأة في الأسواق المحلية ومنافذ البيع ومواقع التسوق في الإنترنت بهدف تمكين المستهلكين من معرفة مصدر منتجاتهم، وتوفير الشفافية لأولئك الذين لا يرغبون في شراء بضائع من الدول المعادية لـ”إسرائيل”.

بعد هذا القرار، تداول إسرائيليون صورًا تظهر خضراوات أردنية المنشأ في الأسواق الإسرائيلية، وانتشرت هذه الصور في الأردن، وأثارت موجة من الاستهجان في الشارع الأردني لأنها تكشف أسماء الشركات الأردنية المصدرة لـ”إسرائيل”، ودعا ذلك اتحاد المزارعين في الأردن إلى السعي لوقف عمليات تصدير الخضار والفواكه لـ”إسرائيل” التي تتم عبر الوسطاء.

اقتصاد الاحتلال.. القادم أصعب

تكشف آخر الإحصائيات الرسمية أن الاقتصاد الإسرائيلي انكمش للربع الثاني على التوالي متأثرًا بتداعيات الحرب بشكل مباشر وغير مباشر، فقد شهد الربع الأول من العام الحالي انكماشًا بنحو 1.4% على أساس سنوي، وهو ما يفاقم أعباء حكومة الاحتلال التي تسعى لدعم اقتصادها في مواجهة تداعيات الحرب على غزة.

يأتي الانكماش بنسبة أقل من الربع السابق، حيث عانى الاقتصاد في الربع الأخير من العام الماضي انكماشًا بنسبة اقتربت من 22%، ما يعني أن تداعيات الحرب ما زالت تحد من نمو الاقتصاد، وتلقي بأعبائها على الإسرائيليين، حيث انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي بنسبة تتجاوز 3% على أساس سنوي، وفقد سوق العمل نحو 20% من قوته، بين من اُستدعي للقتال أو من غادر أو أُجبر على التوقف.

ويبدو أن قطاعي التكنولوجيا والسياحة من أكثرها تأثرًا بالحرب، فقد كشف تقرير صادر عن معهد الأبحاث “رايز إسرائيل” أن الاستثمار في قطاع التكنولوجيا – الذي يعد أحد أهم القطاعات الاقتصادية، ويضم نحو 6 آلاف شركة، ويساهم في نحو نصف الصادرات وثلث عائدات الضرائب – انخفض بنحو 30% منذ اندلاع الحرب على غزة، ويصف التقرير هذا التراجع بأنه “مثير للقلق ويدعو إلى تفعيل حالة الطوارئ”.

أمَّا في قطاع السياحة، فقد شوهد انخفاض حاد في عدد السياح وفقًا لبيانات مركز الإحصاء المركزي، فخلال الشهور الـ4 الأولى من العام الجاري، انخفض عدد السياح القادمين إلى “إسرائيل” لنحو 40% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، واكتظت الكثير من الفنادق بالنازحين الإسرائيليين.

كما ألقت الحرب بتداعياتها على قطاع الطاقة الإسرائيلي بشكل لم يسبق له مثيل، فقد أجُبرت وزارة الطاقة الإسرائيلية على إيقاف توريد الغاز من حقل تمار، الذي يقع على بعد 20 كيلومترًا من شواطئ عسقلان، ما يكبد قطاع الطاقة الحيوي خسائر بمئات الملايين من الدولارات أسبوعيًا بحسب تقديرات وسائل الإعلام الإسرائيلية.

تلاحق ثنائية الانهيار – نقص المنتجات الزراعية بنحو 80% وارتفاع أسعارها في أعقاب الحرب على غزة – قطاع الزراعة الإسرائيلي الذي تعرض للضربة الكبرى في تاريخه منذ بدء العدوان على غزة، وسط توقعات بأن تصبح قضايا الأمن الغذائي أكثر صعوبة كلما طال أمد الحرب.

وأدَّت تداعيات الحرب على قطاع الزراعة إلى أزمة في القوى العاملة هي الكبرى في تاريخه، ما فرض على المزارعين صعوبات مالية وخسائر قاسية، مع عودة 10 آلاف عامل أجنبي إلى أوطانهم، ولم يتمكن نحو 12 ألفًا من مناطق السلطة الفلسطينية من العمل بسبب إلغاء سلطات الاحتلال تصاريحهم، فضلًا عن تجنيد نحو 25% من أصحاب المزارع والعمال الإسرائيليين في الجيش.

وللمرة الأولى منذ عقود، يسعى أثرياء “إسرائيل” إلى الفرار منها، واُستبعدت “إسرائيل” من قائمة الدول الـ10 الأولى التي يهاجر إليها أصحاب الملايين، وذلك وفقًا لتقرير هجرة الثروات الذي تصدره شركة استشارات هجرة الاستثمار الدولية “هينلي آند بارتنرز”.

التقرير الذي يرصد صافي التدفقات الداخلة والخارجة من أصحاب الثروات فوق المليون دولار، كشف عن زيادة بنسبة 250% في عدد الأثرياء الإسرائيليين الذين تقدموا للحصول على إقامة بديلة ومواطنة في دول أخرى.

ويبدو جليًا أن ما يثير فزع الإسرائيليين بشكل أكبر هو أن هذا الانحدار يأتي بعد القمة التي وصلت إليها “إسرائيل”، ففي عام 2022، اجتذبت تدفقًا صافيًا لـ11 ألف مليونير، جعلها تحتل المرتبة الثامنة عالميًا بين أكثر الدول اجتذابًا للأثرياء، لكن في انعكاس مذهل، تهاوى العدد بعد الحرب إلى 200 مليونير فقط في العام الماضي، لتتراجع إلى المرتبة 12 عالميًا، وفي هذا العام، باتت “إسرائيل” طاردة للأثرياء حتى من بين سكانها.

ومع استمرار الحرب على غزة وتداعياتها من محاكم دولية واحتجاجات وسحب استثمارات، تداعت الصورة النمطية لـ”واحة الأمان والآمال والأعمال” التي دأبت “إسرائيل” على الترويج لها على مدى عقود، وتفاخرت بكونها وجهة للنمو والتكنولوجيا والازدهار في الشرق الأوسط، إذ دفع هذا الواقع نحو 200 من كبار قادة الأعمال في “إسرائيل” إلى إصدار بيان يطالبون فيه بتغيير الحكومة الأكثر تطرفًا، والتي يعتبرونها العدو الأول لـ”إسرائيل”.

كما دفعت مثل هذه التطورات مؤسسات مالية ووكالات تصنيف ائتماني إلى تقديم توقعاتها بأن تؤدي المشكلات العالقة في قطاعات أخرى مثل البناء والزراعة، إضافة إلى ارتفاع مستوى التوتر الأمني على الصعيد الإقليمي وحالة عدم اليقين وغياب الاستقرار السياسي محليًا، إلى إعاقة التعافي بالشكل المأمول هذا العام.

ولأول مرة على الإطلاق، خفضت وكالة “موديز” التصنيف الائتماني السيادي لـ”إسرائيل” في فبراير/شباط الماضي، بسبب المخاطر السياسية والمالية التي سببتها الحرب على غزة، التي يُتوقع أن تكلف دولة الاحتلال 69.8 مليار دولار بين عامي 2023 و2025، والتي زادت الإنفاق بنسبة 12.5% خلال عام 2023.

ونتيجة للحرب وعوامل سابقة لها، وجد الاقتصاد الإسرائيلي نفسه في مأزق غير مسبوق بعد أن تجاوزت نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي 62% العام الماضي، وسجلت الميزانية عجزًا تجاوز 4% من إجمالي الناتج المحلي خلال العام نفسه، بعد أن حققت فائضًا بنسبة 0.6% في عام 2022، وتُعزي الأسباب بالطبع إلى “طوفان الأقصى”.

ويبدو أن القادم هو الأصعب، حيث يُتوقع أن تشهد موازنة العام الجاري عجزًا بنسبة 8.6% (33 مليار دولار) من إجمالي الناتج المحلي، مع توقعات بأن يكون العجز في الموازنة خلال السنوات المقبلة أكبر بكثير مما كان متوقعًا قبل الحرب، على أن يشهد إجمالي الناتج المحلي في عام 2024 عجزًا بنسبة 65.7%، وفقًا لوكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني.

كذلك قدَّرت وكالة “ستاندرد آند بورز” الأمريكية التي خفضت تصنيف “إسرائيل” الائتماني الطويل المدى، أن ينمو إجمالي الناتج المحلي بنحو 0.5% هذا العام، لكن الجميع يتفق على أن استمرار حرب “إسرائيل” على غزة يأخذ الاقتصاد إلى مصير مجهول، لن تستطيع معه مصر وغيرها من الدول العربية المتواطئة أن تخرجه منه لتستمر الخسائر المادية والمعنوية والأخلاقية ما استمر العدوان.