ترجمة وتحرير: نون بوست
في التاسع عشر من شهر شباط/ فبراير، أثارت الأخبار حول ما يدور في ساحة المعركة، متعددة الجبهات في سوريا، مرة أخرى، دهشة وحيرة المراقبين في جميع أنحاء العالم. فقد أعلن مسؤولون من وحدات حماية الشعب الكردية أنهم توصلوا إلى اتفاق مع الحكومة السورية يقضي بالسماح للقوات الموالية للحكومة بدخول مدينة عفرين، المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد في شمال غرب سوريا، بهدف “الدفاع عن وحدة الأراضي السورية والحدود” ضد ما أطلقوا عليه اسم “الغزو” التركي.
تغيّر قواعد اللعبة
قبل شهر، شنت تركيا حملة جوية وبرية على عفرين تهدف بالأساس إلى تطهير الحدود التركية من “إرهابيي وحدات حماية الشعب”. والجدير بالذكر أن أنقرة تعتبر وحدات حماية الشعب امتدادا لحزب العمال الكردستاني المحظور، الذي يشن حملة دموية منذ ثلاثة عقود على الأراضي التركية. بعد الإعلان الصادر عن وحدات حماية الشعب، بثت وسائل الإعلام السورية صورا لجنود الحكومة السورية، الذين دخلوا إلى المنطقة على الرغم من القصف التركي العنيف، والترحيب الذي تلقوه من قبل المقاتلين الأكراد والمدنيين في عفرين. لكن سرعان ما تم كبح جماح هذا التحرك، الذي اعتبره البعض بمثابة تغيير في قواعد لعبة الصراع الدائر بين تركيا والأكراد والولايات المتحدة وروسيا للسيطرة على شمال سوريا، بشكل فعال في غضون 24 ساعة.
خلال 20 من شباط / فبراير، صرّح الرئيس رجب طيب أردوغان في لقاء مع الصحفيين في أنقرة أن تركيا نجحت في إحباط عملية نشر قوات الحكومة السورية في منطقة عفرين. وحيال هذا الشأن، أوضح الرئيس التركي أنه تحدّث إلى كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني حسن روحانى وقد توصلوا الى اتفاق حول هذه المسألة. كما أكّد أردوغان أن الحكومة السورية ووحدات حماية الشعب قامتا بإبرام اتفاق تعاون دون التشاور مع روسيا التي تسيطر في الوقت الحالي على المجال الجوي لعفرين.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الإيراني حسن روحاني في سوتشي في 22 من شباط/ فبراير سنة 2017
وأردف أردوغان أنه “لسوء الحظ، كما تعلمون، تتخذ هذه المنظمات الإرهابية أحيانا خطوات خاطئة ومن تلقاء نفسها، لكننا لا نستطيع السماح بذلك”.
روسيا: الحامي الأساسي
على الرغم من إصرار أردوغان على أن الحكومة السورية ووحدات حماية الشعب قد توصلا إلى اتفاق دون موافقة موسكو، إلا أنه من الصعب أن نصدق أن دمشق اتخذت هذه الخطوة الجريئة دون استشارة حاميها الأساسي. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ بداية الحملة العسكرية التركية في عفرين، في أواخر شهر كانون الثاني/ يناير، كانت روسيا، وإن كان ذلك بشكل سري، تدعم طموحات تركيا في شمال سوريا.
فضلا عن ذلك، أعطت موسكو الضوء الأخضر للعملية التركية في سوريا، التي أطلق عليها اسم “غصن الزيتون”، من خلال السماح لها باستخدام المجال الجوي لعفرين لمهاجمة معاقل وحدات حماية الشعب، في حين أعلن عن انسحاب القوات الروسية من هذه المنطقة. ومن هذا المنطلق، لسائل أن يسأل، لماذا تغير موقف روسيا بصفة مفاجئة وسمحت للحكومة السورية بالتدخل؟
مع بعض التشجيع من جانب روسيا، قد يقبل أردوغان أن تتولى الحكومة السورية زمام الأمور في عفرين في نهاية المطاف، على الرغم من أن هذا الأمر بعيد كل البعد عن المثالية من منظور الرئيس التركي
منذ الهزيمة التي مُني بها تنظيم الدولة في سوريا، كان الهدف الأساسي لروسيا يتمثل في الخروج بسرعة من ساحة المعركة دون تعريض وحدة أراضي سوريا إلى الخطر. ولتحقيق ذلك، طلبت روسيا من وحدات حماية الشعب تسليم عفرين إلى الحكومة السورية مقابل تقديم ضمانات أمنية لها، إلا أن القادة الأكراد السوريين رفضوا هذا الاقتراح في العديد من المناسبات.
في نهاية المطاف، قررت موسكو أن تغض الطرف عن هجوم تركيا على عفرين، في محاولة منها لإرضاخ وحدات حماية الشعب لإرادتها وخلق وضعية تُمكن الحكومة السورية من التوجه لإنقاذ الأكراد وإعادة تأكيد سيطرتها على شمال سوريا، حيث تقع العديد من حقول النفط. وبناء على هذه الخطة، سيحدث ما تطمح له روسيا دون أن تُضطر دمشق إلى فتح جبهة قتال أخرى ضد مواطنيها. وقد ذُكر في وقت سابق أن إبرام الاتفاق بين وحدات حماية الشعب ودمشق قد تأخر لأن “الأكراد رفضوا إلقاء أسلحتهم”، حيث كان ذلك الشرط المسبق الذي وضعته الحكومة السورية مقابل نشر قواتها في المنطقة للتصدي للعملية العسكرية التركية الجارية.
في واقع الأمر، يؤكد هذا النشاط مخططات موسكو والحكومة لتحويل العملية العسكرية التركية إلى فرصة سانحة لدمشق من أجل الإطاحة بالقيادة الكردية من عفرين، أو الحد من استقلالية هذا الجيب على الأقل. مؤخرا، يبدو أن الحكومة السورية توقفت عن محاولة إعادة تأكيد سلطتها في عفرين لبعض الوقت، وليس مؤكدا بعد ما إذا تم استبعاد دمشق خارج اللعبة على نحو دائم.
مع بعض التشجيع من جانب روسيا، قد يقبل أردوغان أن تتولى الحكومة السورية زمام الأمور في عفرين في نهاية المطاف، على الرغم من أن هذا الأمر بعيد كل البعد عن المثالية من منظور الرئيس التركي. ففي الواقع، يؤمن أردوغان أن وحدات حماية الشعب أكثر من مجرد خطر وجودي.
ثمن لا مفر من دفعه
في حين أعرب الرئيس التركي عن استيائه بشكل علني إزاء تحالف دمشق الجديد مع وحدات حماية الشعب، قد يخدم هذا التطور مصالح تركيا على المدى الطويل. منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا، أعلنت الحكومة التركية بشكل مباشر دعمها للمعارضة التي تهدف للإطاحة بحكم الرئيس السوري بشار الأسد في سوريا. في الأثناء، اعتبر الجيش التركي عملية ” غصن الزيتون” بمثابة خطوة “للدفاع عن النفس”، مؤكدا على أن تركيا تحترم وحدة أراضي سوريا.
تجمع المواطنين خارج مسجد لحضور مراسم تشييع جنازة جندي تركي قتل أثناء عملية غضن الزيتون ضد منطقة عفرين السورية، في إسطنبول، تركيا في 11 من شباط / فبراير سنة 2018
في حال تمكنت موسكو من ضمان التخلص من وحدات حماية الشعب بشكل دائم من عفرين، حتى لو كان ذلك يعني أن السيطرة على المنطقة ستكون من نصيب الحكومة السورية من جديد، قد توافق تركيا على التراجع. ويعزى ذلك إلى أن هذا السيناريو سيؤمن طريق خروج أقل من مثالي بالنسبة لأنقرة، لكنه على الأقل لا يزال مقبولا.
وتجدر الإشارة إلى أن الشعب التركي لا يزال يؤيد عملية “غصن الزيتون” بشكل كبير بعد مضي شهر من انطلاق أولى التحركات صوب سوريا، حيث ترى الأغلبية الساحقة أن هذا الأمر مجرد تكلفة لا مفر من دفعها من أجل ضمان الأمان. في المقابل، دفعت تركيا بالفعل ثمنا آخر، حيث لقي 32 جنديا تركيا حتفهم خلال أطوار هذه العملية. ومع استمرار عدد الضحايا في الارتفاع، سيأخذ الدعم إزاء هذه الحملة العسكرية في التراجع. وفي هذا السياق، أثبت التحول الأخير على مستوى التحالفات بشكل مفاجئ أنه مفيد لكل من دمشق وأنقرة، الطرفان اللذان عرفا بصراعهما المتواصل في خضم النزاع السوري منذ سنة 2011.
في صراع معقد مثل هذا، يكاد يكون من المستحيل التنبؤ بملامح شبكة التحالفات والمنافسات في سوريا في كل مرحلة جديدة من الحرب
بالنسبة للأكراد، قد يحيل السماح لحكومة دمشق بالتدخل إلى أنهم سيخسرون قدرا معينا من الاستقلالية التي لم يدخروا جهدا للحصول عليها. لكن ذلك سيسمح على الأرجح بإنقاذ حياة الآلاف من المدنيين عن طريق تجنب نزاع طويل الأمد، حيث أن حرص تركيا على قتال الجيش السوري سيتلاشى في حال الإطاحة بوحدات حماية الشعب من حدودها الجنوبية الشرقية.
في شأن ذي صلة، تصر تركيا على أنها تبذل قصارى جهدها لتجنب وقوع خسائر في صفوف المدنيين في خضم هذا النزاع، بيد أن التقارير الأخيرة تفيد أن العشرات من المدنيين، بما في ذلك عدد من الأطفال، فقدوا حياتهم خلال الشهر الأول من العملية. وقد أكد مجلس الصحة الكردي، الذي يعد هيئة محلية تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، أن عدد القتلى المدنيين وصل إلى 150 شخصا. من جانبها، أوضحت منظمة هيومن رايتس ووتش أن الهجمات الثلاث التي شنتها تركيا في عفرين بتاريخ 21 و27 و28 من شهر كانون الثاني / يناير أودت بحياة 26 مدنيا فقط، من بينهم 17 طفلا.
في صراع معقد مثل هذا، يكاد يكون من المستحيل التنبؤ بملامح شبكة التحالفات والمنافسات في سوريا في كل مرحلة جديدة من الحرب. خلافا لذلك، يتمثل الأمر الوحيد الذي يبدو مؤكدا في استمرار الاضطرابات في المنطقة، وتواصل معاناة الشعب السوري.
المصدر: ميدل ايست آي