شكلت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الجزائر كعادتها منعرجًا جديدًا في علاقات التعاون بين البلدين اللذين تتعزز شراكتهما عامًا بعد عامٍ أكثر فأكثر، بعد أن شهدت هذه المرة توقيع 7 اتفاقات تعاون تعكس نية الطرفين في أن يكون الاستثمار متبادلاً من خلال مذكرة تفاهم بين شركة سوناطرك الجزائرية وشركتي رونيسانس وباييجان التركيتين على بناء منشأة للبتروكيماويات بقيمة مليار دولار في تركيا.
واستعرض أردوغان مع المسؤولين الجزائريين في مقدمتهم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مختلف الملفات ذات الاهتمام المشترك وسبل تعزيز العلاقات بين البلدين خلال زياته التي تدوم 3 أيام.
7 اتفاقات
توجت زيارة الرئيس التركي إلى الجزائر بالتوقيع على 7 اتفاقات شراكة وتعاون ومذكرات تفاهم تتمثل في بروتوكول تعاون بين جامعة سطيف ومعهد “يونوس أيرمي” التركي لتطوير اللغة التركية بالجزائر التي أدرجت في السنوات الأخيرة ضمن المنهاج الجامعي الجزائري بالنظر إلى الدور الذي صارت تلعبه أنقرة في العالم اقتصاديًا وسياسيًا وكذا لتزايد السياح الجزائريين الذين يتوجهون إلى بلاد العثمانيين.
ووقع الجانبان أيضًا مذكرتي تفاهم بين مجمع سوناطراك الجزائري الطاقوي والشركات التركية بوتاس ورونيسونس وباييجان. وقال أردوغان إن الاتفاق بين سوناطراك ورونيسانس وباييجان الذي يتضمن بناء منشأة للبتروكيماويات في المنطقة الحرة بأضنة بتركيا تصل قيمته لمليار دولار، وكشف أن المنشأة ستنتج 450 ألف طن من البروبلين سنويًا باستخدام مواد خام توردها الجزائر، مما سيخفض اعتماد بلاده على البتروكيماويات المستوردة من الخارج بنسبة 25%.
جدد أردوغان في زيارته الخامسة إلى الجزائر دعوة رجال أعمال بلاده إلى الاستثمار بقوة في الجزائر التي وصفها بـ”جزيرة الاستقرار السياسي والاقتصادي في البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا”
وتمثلت الاتفاقات الأخرى في اتفاق تعاون في السياحة وبروتوكول تعاون لتثمين التراث الثقافي المشترك بين الجزائر وتركيا، ومذكرة تفاهم وتعاون في مجال الفلاحة، إضافة إلى مذكرة تفاهم وتعاون بين المعهد الدبلوماسي للعلاقات الدولية الجزائري والأكاديمية الدبلوماسية بوزارة الخارجية التركية.
وبرأي مراقبين، ما يميز هذه الاتفاقات أنها خرجت عن نطاق التعاون المعتاد الذي يجمع بين البلدين الذي كان ينحصر في الغالب في الطاقة والبنى التحتية والصناعة، وتعداه لقطاعات الثقافة والتعليم العالي وكذا السياحة والفلاحة، هذين القطاعين اللذين تعول عليهما الجزائر كثيرًا لتنويع اقتصادها للخروج من التبعية للبترول، وتبحث من أجلهما عن الاستفادة من التجارب الأجنبية في هذا المجال خاصة أنها تتوفر على إمكانات سياحية وفلاحية تعد بتعاون فعال.
تحدي 10 مليارات دولار
جدد أردوغان في زيارته الخامسة إلى الجزائر دعوة رجال أعمال بلاده إلى الاستثمار بقوة في الجزائر التي وصفها بـ”جزيرة الاستقرار السياسي والاقتصادي في البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا”.
وقال أردوغان في افتتاح أشغال منتدى رجال أعمال جزائريين وأتراك إن الجزائر التي تعتبر “جزيرة الاستقرار السياسي والاقتصادي في منطقة البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا تنعم بفرص استثمار متنوعة ومهمة وعلى رجال أعمال تركيا ومؤسساتها أن تطور نشاطها في هذا البلد الشقيق”.
وأكد أردوغان أنه سيعمل بمعية بوتفليقة على بذل كل الجهود لرفع مستوى التبادلات التجارية بين البلدين من 3.5 مليار دولار حاليًّا إلى 5 مليارات دولار في أقرب وقت ثم إلى 10 مليارات دولار في مرحلة لاحقة.
لم يخف أردوغان اقتناعه أن قطاعات الفلاحة والسياحة والطاقات المتجددة والأشغال العمومية والسكن بالجزائر تشكل فرص استثمار مهمة لشركات بلاده
وسبق لأردوغان أن وعد في زياراته السابقة أن تبلغ استثمارات بلاده في الجزائر نحو 10 مليارات دولار في حال توفر المناخ المناسب لولوج المستثمرين الأتراك إلى السوق الجزائرية.
وأشار إلى أن محادثاته مع الوزير الأول أحمد أويحيى سمحت بـ”تجديد الإرادة الثنائية من أجل تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين والرفع من حجم التبادلات التجارية الذي يبقى ضعيفًا، إلى 5 مليارات دولار في أقرب وقت ثم إلى 10 مليارات دولار فيما بعد وهكذا حتى يبلغ أرفع المستويات”.
ولم يخف أردوغان اقتناعه أن قطاعات الفلاحة والسياحة والطاقات المتجددة والأشغال العمومية والسكن بالجزائر تشكل فرص استثمار مهمة لشركات بلاده، وأن الوقت قد حان لتحويل الاتفاقات لواقع ملموس في الميدان.
ودعا أردوغان إلى ضرورة عقد اللجنة المشتركة بين البلدين في أقرب الآجال بهدف إعطاء نفس جديد وتطوير التعاون الاقتصادي حتى يبلغ مستوى العلاقات السياسية والتاريخية المميزة التي تربط البلدين.
وبدا أروغان على عكس باقي مسؤولي الدول الغربية متفهمًا للإجراءات التي سنتها الجزائر لحماية اقتصادها، خاصة قاعدة 51/49 الخاصة بالاستثمار الأجنبي، وهو مؤشر إيجابي بحسب خبراء الاقتصاد سيسمح بتطوير الشراكة بين البلدين إلى مستويات متقدمة.
وقال أردوغان في هذا الإطار: “الجزائر تضمن وتحمي الاستثمارات الأجنبية التي تقام على أرضها، وعلى رجال الأعمال الأتراك استغلال الفرصة للاستفادة من الإجراءات التحفيزية المختلفة التي يمنحها هذا البلد الواسع للمستثمرين”.
أشار الوزير الأول الجزائري أحمد أويحيى إلى وجود نحو 800 مؤسسة تركية تعمل في العديد من القطاعات بالجزائر التي تعد البلد الرابع في العالم الذي حصلت فيه المؤسسات التركية على أكبر عدد من العقود
ارتياح جزائري
أكد الوزير الأول الجزائري أحمد أويحيى إرادة بلاده تطوير شراكتها الاقتصادية مع تركيا ورفعها إلى مستوى امتياز علاقتهما السياسية، وقال أويحيى: “حكومتي ستسهر على الإسراع في إنجاز كل ما تم الاتفاق عليه بين البلدين لكي نصل بالعلاقات الاقتصادية إلى مستوى الامتياز”.
وأضاف أن الرئيس بوتفليقة يستقبل في الرئيس التركي صديقًا وقائد بلد كبير وشقيق تتقاسم معه الجزائر علاقات تاريخية تطبعها الصداقة والتعاون متعدد الأشكال، وأوضح أن معاهدة الصداقة والتعاون التي تربط البلدين منذ 2006 سمحت بوضع أسس علاقات مكثفة ومتعددة الأشكال من تشاور سياسي وتعاون تقني وصولاً إلى علاقات اقتصادية جد قوية.
وأردف قائلاً “يتضح ذلك في المجال الاقتصادي أن تركيا هي الزبون السادس والمورد التجاري السابع للجزائر بحجم إجمالي للمبادلات اقترب من 4 مليارات دولار سنة 2017”.
وأشار إلى وجود نحو 800 مؤسسة تركية تعمل في العديد من القطاعات بالجزائر التي تعد البلد الرابع في العالم الذي حصلت فيه المؤسسات التركية على أكبر عدد من العقود لإنجاز مشاريع بمبلغ يقدر بنحو 3.5 مليار دولار سنة 2015 على سبيل المثال.
ينتظر الطرف الجزائري من تركيا أن تساهم في نقل خبرتها في مختلف الميادين الاقتصادية خارج المحروقات إليها
وبدوره، أشاد وزير الصناعة والمناجم الجزائري يوسف يوسفي بمختلف المبادرات والمشاريع التي أنجزها المستثمرون الأتراك في الجزائر الذين أثبتوا من خلالها أن الجزائر وجهة استثمارية واعدة بفضل ما تمنحه من امتيازات ومحفزات للمستثمرين الحقيقيين وما تزخر به من مزايا، معطيًا مثالاً بمصنع الحديد والصلب بوهران الذي دشن في 2013 ومشروع مصنع النسيج الذي تتواصل أشغال إنجازه بولاية غليزان غرب البلاد وينتظر أن يدخل مرحلة الإنتاج مارس القادم.
ولم يخف يوسفي رغبة بلاده في الاستفادة من التجربة التركية في ولوج الأسواق الأجنبية وفي مجال المناولة الصناعية.
شراكة متبادلة
أظهرت زيارة أردوغان إلى الجزائر أن البلدين يريدان أن يكون تعاونهما الاقتصادي مبني على قاعدة “رابح – رابح”، وهو ما يظهره اتفاق الاستثمار الذي حظيت به سوناطراك لإقامة وحدة للبتروكيماويات في أضنة، مما يعني أن الشراكة بين البلدين لن تكون مبنية على تدفق الاستثمارات التركية على الجزائر، إنما أيضًا فتح الأبواب لهذه الأخيرة لدخول السوق التركية والاستفادة من الفرص المتاحة.
وتسعى سوناطراك إلى توسيع استثماراتها خارج البلاد؛ فبعد وجودها في البيرو واستثماراتها في ليبيا ومشاريع مرتقبة في النيجر والعراق ستدخل بهذا الاتفاق السوق التركية أيضًا.
وفي المقابل، ينتظر الطرف الجزائري من تركيا أن تساهم في نقل خبرتها في مختلف الميادين الاقتصادية خارج المحروقات إليها، خاصة أن أردوغان أكد أن بلاده مستعدة لمساعدة الجزائر لتجاوز أزمة النفط الذي انعكست أسعاره المنخفضة على الدول المنتجة للبترول.
وبرأي مراقبين، فإن الأرضية لتحقيق تعاون اقتصادي بمستوى العلاقات السياسية بين البلدية متوفرة خاصة أن مسؤولي البلدين حرصوا في خطاباتهم على وصف الآخر بالبلد الشقيق وليس الصديق فقط، وهي كلمات لها مدلولات قوية في العرف والتعاون الدبلوماسي بين الدول، ويجب أن تترجم بمشاريع استثمار إضافية لرفع التعاون الثنائي للوصول إلى مبادلات تجارية تعادل 10 مليارات دولار مثلما وعد أردوغان.
الجزائر تطمح إلى تعاون مبني على مصلحة متبادلة لا أن تكون سوقًا فقط للمنتجات التركية لكي تكون أنقرة فعلاً بديلاً عن الشريك الأوروبي خاصة الفرنسي الذي يبقى إلى اليوم يعتبر الضفة الجنوبية للمتوسط مجرد مستهلك لسلع مصانعه لا شريكًا اقتصاديًا
ويعتقد متابعون للملف الجزائري التركي أن تفعيل عمل منتدى رجال الأعمال الجزائري التركي وعقد اجتماعات اللجنة العليا للشراكة بين البلدين من شأنها المساهمة في تحقيق ذلك، خاصة أن البلدين مدركان لحاجة بعضهما البعض في تحقيق إستراتيجية بلديهما.
فأنقرة التي تريد أن توسع وجودها الاقتصادي والسياسي في إفريقيا تعول على الدعم الجزائري في ذلك، وهو ما يبدو من خلال اختيارها المحطة الأولى لأردوغان في جولة تشمل مالي والنيجر جارتي الجزائر والسنغال التي يتبع سكانها الطريقة التيجانية التي يوجد مقر مؤسسها في منطقة عين ماضي بولاية الأغواط جنوب الجزائر، وسبقها بمحادثات مع رئيس حكومة الوفاق الوطني في ليبيا فايز السراج.
أما الجزائر فتطمح إلى تعاون مبني على مصلحة متبادلة لا أن تكون سوقًا فقط للمنتجات التركية لكي تكون أنقرة فعلاً بديلاً عن الشريك الأوروبي خاصة الفرنسي الذي يبقى إلى اليوم يعتبر الضفة الجنوبية للمتوسط مجرد مستهلك لسلع مصانعه لا شريكًا اقتصاديًا.