لا يزال اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي يثير الخلاف بين الطرفَين رغم مرور نحو عقدَين على توقيعه، بالنظر إلى أن البلد المغاربي يصرّ على مراجعة واسعة لبنود هذا الاتفاق حيث أنه الخاسر الأكبر في هذه الصفقة، فيما يصرّ التكتل الأوروبي على الالتزام بما تم الاتفاق عليه عام 2005، ويهدد باللجوء إلى التحكيم الدولي جراء ما يصفه بـ”الحواجز” التي تعترض دخول سلعه إلى الجزائر.
وإذا كان الطرفان يتجهان إلى تعزيز تعاونهما في مجال الطاقة بتوسيعه من البترول والغاز إلى الطاقات المتجددة والنظيفة وعلى رأسها الهيدروجين الأخضر، إلا أن الخلاف يظل مستمرًّا بينهما بشأن الحركة التجارية المتعلقة بالاستيراد والتصدير، وكذا بشأن الجانب الإنساني المتعلق بالهجرة وتنقل الأشخاص.
ورطة جزائرية
في منتصف حزيران يونيو الجاري، أعلن الاتحاد الأوربي أنه يعتزم مباشرة إجراءات لتسوية الخلافات مع الجزائر التي يتهمها بفرض قيود على صادرات دوله نحو الجزائر، وكذا الاستثمارات التي يقيمها بالبلد الأفريقي.
وأعلنت المفوضية الأوروبية وقتها في بيان أن “الاتحاد الأوروبي أطلق إجراء لتسوية الخلافات بحق الجزائر“، مضيفة أن “الهدف هو بدء حوار بنّاء بهدف رفع القيود في عدة قطاعات من المنتجات الزراعية إلى السيارات”.
وانتقد الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص “نظامًا لتراخيص الاستيراد توازي مفاعيله حظر استيراد، ومساعدات مشروطة باستخدام قطع مصنّعة محلية لمصنعي السيارات، وفرض سقف للمشاركة الأجنبية في الشركات المستوردة للمنتجات إلى الجزائر”.
وتشترط الجزائر وجود تصنيع محلي بنسبة إدماج تصل إلى 30% على الأقل في قطاع السيارات وقطع الغيار لقبول استيراد مركبات من الخارج، بما فيها الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى الإبقاء على اعتماد قاعدة 51/49 بالنسبة إلى لاستثمارات الأجنبية التي تمسّ القطاعات الإستراتيجية كالطاقة والمناجم والموانئ وغيرها، وهو ما يراه الاتحاد الأوروبي تراجعًا عن الاتفاق الموقع بين الطرفَين الذي ينصّ على تحرير المبادلات التجارية.
حجم الخسائر المتراكمة للشركات الإسبانية وصلت إلى 3.8 مليارات يور، وهي الخسائر التي من الصعب تعويضها لأن هذه السوق تم فقدها لفائدة المنتجين المحليين وشركاء من تركيا والبرتغال وإيطاليا
وأعلن الاتحاد الأوروبي أنه “نظرًا إلى الجهود التي لم تفضِ إلى حلّ ودّي للمسألة، اتخذ الاتحاد الأوروبي هذه المبادرة للحفاظ على حقوق الشركات والمصدرين الأوروبيين العاملين في الجزائر والمتضررين منها. كما تضر التدابير الجزائرية بالمستهلكين الجزائريين بسبب حصر خيار المنتوجات المتاح من دون مسوّغ”.
واعتبر الاتحاد الأوروبي أن القيود المفروضة تنتهك التزامات الجزائر بموجب اتفاقية الشراكة بين الطرفين الموقع عليه عام 2002، ودخل حيز التنفيذ عام 2005، غير أن الجزائر دعت في أكثر من مرة إلى إرجاء تنفيذه، ومراجعة بنوده بما أنها الخاسر الأكبر في هذا الاتفاق.
تضع الاتفاقية إطارًا للتعاون في جميع المجالات، بما في ذلك التجارة، والإجراء الذي تم الإعلان عنه منصوص عليه في الاتفاقية، وفي حال عدم التوصل إلى حل يحق للاتحاد الأوروبي أن يطلب إنشاء لجنة تحكيم.
ورغم محافظته على تمركزه كأكبر شريك للجزائر بحيازته على 50.6% من المعاملات التجارية للبلد المغاربي عام 2023، إلا أن صادرات الاتحاد الأوروبي نزلت من 22.3 مليار يورو عام 2015، السنة التي بدأت فيها الجزائر إجراءات تقشف وتقليص الاستيراد، إلى 14.9 مليار يورو فقط عام 2023، ما شكّل انتكاسة لبعض الدول التي كانت تغرق الجزائر بسلعها، بالنظر إلى أنها خسرت هذه السوق إما للمنتجين المحليين الجزائريين وإما لدول منافسة في مقدمتها تركيا والصين.
ورغم أن هذا الانزعاج الأوروبي يعبّر عن الاتحاد بأكمله، إلا أن متابعين يعتقدون أن دولًا بعينها كانت وراء هذا الاحتجاج، وبالخصوص تلك التي عرفت تراجعًا لافتًا لوجودها في الجزائر مثل فرنسا التي أفشلت الحكومة عام 2020 صفقة استحواذ توتال على أصول أنداركو الأمريكية في الجزائر، وذلك بالتهديد للجوء إلى حق الشفعة الذي يقرّه القانون الجزائري بشأن القطاعات الاستراتيجية التي من بينها الطاقة، والذي يمكّن الحكومة من شراء أصول أي مؤسسة أجنبية حاولت بيع أصولها لمؤسسة لا ترغب بها الحكومة الجزائرية.
وتعدّ إسبانيا من أكثر الدول تضررًا من القيود الجزائرية، وبالخصوص عقب الخلاف الذي حدث بين البلدين عام 2022، لما أعلنت حكومة بيدرو سانشيز تغيير موقفها بشأن الحل لقضية الصحراء الغربية، والانحياز إلى المقترح المغربي بدل القبول بالإجراءات الأممية.
إذ أعلن مجلس الأمن القومي الجزائري برئاسة الرئيس عبد المجيد تبون، المنعقد في 6 يونيو/ حزيران 2022، “التعليق الفوري لمعاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون مع إسبانيا، التي تمَّ التوقيع عليها في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2002″، إضافة إلى سحب السفير الجزائري بمدريد للتشاور، بسبب تغيُّر الموقف الإسباني من النزاع في الصحراء الغربية.
وخسرت عدة قطاعات إسبانية سوقها في الجزائر رغم استئناف العلاقات هذا العام، حيث أشارت صحيفة “إندبندنتي” الإسبانية إلى أن قطاع السيراميك الإسباني لوحده يخسر نحو 20 مليون يورو منذ بداية الأزمة مع الجزائر حتى الآن، مضيفة أن حجم الخسائر المتراكمة للشركات الإسبانية وصلت إلى 3.8 مليارات يور، وهي الخسائر التي من الصعب تعويضها لأن هذه السوق تم فقدها لفائدة المنتجين المحليين وشركاء من تركيا والبرتغال وإيطاليا.
إعادة تقييم الحسابات
لا يظهر على الإطلاق أن الجزائر سترضخ حتى الآن للتهديدات الأوروبية، كونها ترى أنها تملك أوراق رابحة حتى لو قررت بروكسل الذهاب إلى التحكيم الدولي، وهو ما يبدو مستبعدًا في الوقت الحالي لأن بيان الاتحاد الأوروبي نفسه تحدث عن “بدء حوار” لحلّ الخلاف التجاري بين الطرفَين.
وفي أول ردّ رسمي على التهديدات الأوروبية، قال وزير التجارة الجزائري، الطيب زيتوني، الثلاثاء في تصريح للتلفزيون الجزائري الحكومي، إن “الجزائر لم تغلق الاستيراد، فما ننتجه لا نستورده. أما المنتجات التي لا ننتجها نقوم باستيرادها والدليل أن وارداتنا تبلغ سنويًا 45 مليار دولار منها أزيد من 22 مليار دولار من الاتحاد الأوروبي”.
ولا تتطابق الأرقام المقدمة من وزير التجارة الجزائري مع تلك المقدمة من الاتحاد الأوروبي، فالأول أشار إلى واردات بقيمة 22 مليار دولار، فيما تتحدث بروكسل عن انخفاض صادراتها نحو البلد الأفريقي إلى 14.9 مليار يور.
وتابع زيتوني أن “الجزائر قامت بترشيد الاستيراد ولم تقم بغلق الاستيراد الذي يعدّ أمرًا غير معقول”، مبينًا أن “الاكتفاء الذاتي الذي حققته الجزائر في مادة القمح هذه السنة سيمكنها من اقتصاد 1.2 مليار دولار، ما يعني تقليص فاتورة استيراد هذه المادة، وأن ذلك لا يمكن أن يوصف بأنه منع للاستيراد”.
وأوضح وزير التجارة أن ”الجزائر بلد سيد، وليس له مديونية خارجية ولا تحتاج إلى إملاءات. لدينا شركاء نتعامل معهم سواء الدول التي لها لنا معها شراكات ثنائية أو الاتحاد الأوروبي أو الفضاءات الاقتصادية التي ننتمي إليها في القارة الأفريقية أو الدول العربية”.
وأشار زيتوني إلى أن ترشيد الاستيراد وحماية الإنتاج المحلي سياسة اقتصادية غير مقتصرة على الجزائر فقط، إنما معتمدة عبر كافة دول العالم، ومنها الاتحاد الأوروبي.
يفرض الاتحاد الأوروبي من فترة إجراءات تقييدية على عدة شركات منافسة في مقدمتها الصينية، غير أنه يحاول إخراج قراراته من النطاق الاقتصادي، وربطها بعوامل سياسية تتعلق بحقوق الإنسان أو علاقة بكين بموسكو.
كما دعا وزير الخارجية أحمد عطاف في تصريح للصحافة مع نظيره النمساوي ألكسندر شالنبرغ بفيينا، إلى “حوار حقيقي من أجل دفع جهودنا نحو بناء شراكة متزنة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي، من شأنها احترام المصالح الحيوية لكل طرف وتراعي تمامًا تطلعات الجزائر في مجال التنمية الاقتصادية”.
ومن ضمن 110 مواد تحوزها اتفاقية الشراكة، توجد 32 مادة خاصة بالتجارة الخارجية وحرية نقل السلع والخدمات، وهو ما جعل الاتفاقية تخدم الاتحاد الأوروبي أكثر بعد أن تم إلغاء الرسوم الجمركية وتحرير المعاملات التجارية، بحسب الطرف الجزائري.
وفي 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أمر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الحكومة بإعادة تقييم اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي “بندًا بندًا وفق نظرة سيادية، ووفق مبدأ رابح-رابح”، مشددًا على ضرورة أن تراعي هذه المراجعة “مصلحة المنتج الوطني لخلق نسيج صناعي ومناصب شغل”.
حاجة متبادلة
على خلاف معظم القطاعات الاقتصادية الأخرى، يظل مجال الطاقة ميدان تعاون وثيق بين الاتحاد الأوروبي والجزائر، وبالخصوص بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي جعلت الجزائر الممون الرئيسي الموثوق لعدة دول أوروبية بالغاز، وهو ما فتح المجال لتوجُّه الطرفين لتوسيع هذه الشراكة للهيدروجين والكهرباء.
قال وزير الصناعة الجزائري علي عون، في شهر مايو/ أيار مايو الماضي، إن حجم التبادل التجاري بين الجزائر والاتحاد الأوروبي بلغ 46.5 مليار دولار خلال الأشهر الـ 11 الأولى لسنة 2023، تنفيذًا لاتفاق الشراكة الموقع بين الطرفَين، رغم أن “معظم الاستثمارات الأوروبية المباشرة بالجزائر لا تزال تقتصر على قطاع المحروقات”.
وفي فيينا، قال وزير الخارجية أحمد عطاف إن “الطاقات المتجددة والفلاحة والنقل عبر السكك الحديدية والصناعة والموارد المائية والصيدلة والعديد من المجالات التي أطلقت فيها بلادي مؤخرًا مشاريع مهيكلة يمكن تطويرها مع شركاء نمساويين”.
وأعلن عطاف أن “الجزائر تولي أهمية بالغة لمشروع “ساوث-2 كوريدو”، الذي سيربط شمال إفريقيا بقلب أوروبا بغية تقليص اعتماد المنطقتَين على الطاقات غير المتجددة.
وفي فبراير/ شباط الماضي، وقّع وزير الطاقة الجزائري محمد عرقاب ونائب المستشار الألماني ووزير الاقتصاد وحماية المناخ، روبرت هابيك، على اتفاق تطوير الهيدروجين ومشروع الممر الجنوبي للهيدروجين (Corridor Sud H2) الذي سيقام مشروعه التجريبي التحضيري في أرزيو بولاية وهران غربي الجزائر، وستساهم فيه الحكومة الألمانية بـ 20 مليون يورو.
ويتمثل مشروع الممر الجنوبي للهيدروجين في إنجاز أنبوب لنقل الهيدروجين عبر البحر الأبيض المتوسط، يشمل دول ألمانيا والنمسا وايطاليا وتونس والجزائر التي ستكون نقطة انطلاقه.
وحسب عرقاب، فإن الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة أساسية وهامة لتطوير فعّال لقطاع الهيدروجين النظيف في الجزائر، بالنظر إلى أن بلاده ستركز ابتداء من عام 2030 على إنجاز مشاريع على نطاق صناعي بطاقة إجمالية تفوق 1 مليون طن في السنة.
لا أحد يمكن أن ينفي الحاجة التجارية المتبادلة بين الاتحاد الأوروبي والجزائر، فالأخيرة قد استحوذت عام 2023 على حصة 19% من الغاز الطبيعي المصدّر عن طريق الأنابيب نحو هذا التكتل، الأمر الذي يجعل شراكتها مختلفة عن باقي الشراكات الموقعة مع الدول المغاربية، إلا أن تعزيز هذا التعاون إلى مجالات أخرى يتطلب وفق النظرة الجزائرية وجود جرأة أوروبية أكبر بتوسيع استثماراتها بالبلد المغاربي إلى قطاعات خارج المحروقات، وكذا معالجة ملف تنقل الأشخاص معالجة حقيقية، والتي تكون بالتخلي عن سياسات الهجرة المتشددة.