أخيرًا وبعد طول تجاذب تتجه تونس قريبًا إلى تنظيم أول انتخابات محلية لها بعد الثورة، فإعادة البناء المؤسساتي بدأت من فوق، فتجددت المؤسسات المركزية ولم تتجدّد الهيئات المحلية، فتدهورت الخدمات وتضاعف الضغط على السلطة المركزية وعلى نواب الشعب الذين فرض عليهم دور الوسيط الخدماتي.
تعددت أسباب تأجيل الاستحقاق بما نقل الحيرة إلى مربع المسار السياسي منطقة الأمان الأساسية للتونسيين، ولكن الآن، وبعد تقديم القائمات اطمأن التونسيون وأصدقاؤهم أن الانتخابات ستحصل، وفي الموعد المحدد.
المعطيات الأولية
خلال تشريعيات 2011 و2014 تقدمت مئات القائمات في الدوائر السابعة والعشرين ولذلك توقع كثيرون حصول طوفان من الترشيحات وقد اتسع التنافس إلى 350 دائرة، ولكن ذلك لم يحصل ولم تتقدم سوى 2173 قائمة.
ليست الفرص ولا الرغبة في التنافس هي التي تنقص، فهذه الانتخابات تضع على محك أكثر من سبعة آلاف مقعد كما توجد أجيال من التونسيين تطمح إلى التموقع السياسي؛ غير أن تعقد إجراءات القانون الانتخابي شكلت غربالاً صارمًا، فلم يكن من السهل تجميع شروط تمثيل المرأة بالتناصف وتمثيل الشباب وذوي الاحتياجات الخاصة.
مهما يكن فقد فتحت هذه المحطة الانتخابية فرص الانخراط السياسي لثلاثين ألف سيفوز أكثر من ألفين وخمسمئة بمقاعد في المجالس المنتخبة بما يجدد الطبقة السياسية
هذا الغربال حد من عدد الترشيحات، كما كشف مدى مصداقية الشعارات المرفوعة، فلم ينج من شرط التناصف سوى حركة النهضة المتهمة بالمحافظة، فيما سقطت كل الأحزاب والائتلافات التي تنسب نفسها للحداثة والتقدم.
ولئن كان المعروض دون المأمول إلا أنه يبقى مقبولاً، وقليلة هي الدوائر التي تقتصر المنافسة فيها على قائمتين (5) أو ثلاث قائمات (31).
خريطة الترشيحات كشفت كذلك حقيقة الحالة الحزبية، بما يؤكد أن الأحزاب بنية تتجاوز الحضور الإعلامي أو الافتراضي لترتكز على ماكينات وشبكة علاقات ودوائر نفوذ تفعل خاصة في المواعيد الانتخابية (حالة نداء تونس)، أو على المناضلين والهيكلة القارة والعمل الميداني المستمر (حالة النهضة).
ومهما يكن فقد فتحت هذه المحطة الانتخابية فرص الانخراط السياسي لثلاثين ألف سيفوز أكثر من ألفين وخمسمئة بمقاعد في المجالس المنتخبة بما يجدد الطبقة السياسية، وسيبقى الآخرون على ذمة المحطات القادمة بما يفتح أفقًا حقيقيًا للتمكين السياسي للشباب، ونصيب النساء في رئاسة المجالس المنتخبة سيكون أعلى من نسبة الشباب، كما أن هذه الانتخابات دفعت الأحزاب السياسية إلى الانفتاح على كفاءات مستقلة.
مفاجأة ما قبل الانتخابات
قبل أن تفتح صناديق الاقتراع أبوابها حصلت مفاجآت لعل أكبرها تقديم حركة النهضة لمرشح يهودي في قائمة مسقط رأس الزعيم بورقيبة.
ستبقى نسبة المشاركة إحدى أهم معطيات هذه الانتخابات
الحركة اعتبرت الخطوة تكريسًا لخيارها في الانفتاح على المستقلين، وتجسيدًا لمسارها التجديدي وتبنيها لخيار التخصص والتمييز بين المناشط السياسية والمناشط المجتمعية، كما اعتبرته انخراطًا في تنزيل خيار الدولة المدنية الديمقراطية الاجتماعية الحاضنة لكل مواطنيها، بل اعتبرته قطع طريق أمام إمكانية التسرب الصهيوني للبلد، إذ إن التمييز بين اليهودية والصهيونية وإدماج المواطنين اليهود في النسيج السياسي والاجتماعي هو الذي يسحب البساط من دعاوى المظلومية والإقصاء الذين تستثمر فيهما وتتمعش منهما الصهيونية.
هذه الخطوة وجدت ترحيبًا من كثيرين ولكنها وجدت اعتراضًا من أوساط تنتسب إلى الحداثة كما وجدت اعتراضًا من أوساط محافظة داخل البلاد وخارجها، فالحدث أخذ حجمًا مهمًا في الداخل والخارج بما يؤكد مجدّدًا أن السياسة هي قاطرة صنع الأحداث وكاشفة المواطن التي يجب على العقل العربي الاشتغال عليها عميقًا وخاصة الدين ودوره في الحياة العامة والمؤسسات الدينية وموقعها ودورها.
النتائج المتوقعة
ستبقى نسبة المشاركة إحدى أهم معطيات هذه الانتخابات، ورغم أن استطلاعات الرأي تتوقع عزوفًا كبيرًا يوم الانتخابات، فإن سلوك الناخبين سيكون مرتبطًا بالمناخ الانتخابي وبقدرة الأحزاب على التواصل الميداني وتقديم برامج جاذبة بجرأة الأحزاب التي حكمت على تقديم نقد ذاتي في مواطن تقصيرها.
والمرجح أن تكون المنافسة على الصدارة بين النهضة والنداء، وسيكون للقائمات الحزبية الأخرى دور تعديلي، ولا يستبعد أن تحدث بعض القائمات المستقلة مفاجآت في دوائر محددة، وبالمقابل يصعب التكهن بتوزيع رئاسة المجالس الجديدة الذي سيكون خاضعًا للتحالفات.
ستكون لهذه الانتخابات نتائجها المباشرة على هندسة إدارة البلاد وعلى الاستعدادات للانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة2019
سنجد أنفسنا أمام اختبار مشهد 2014، فهل تتجه الخريطة إلى قدر من الاستقرار بحيث تترسخ مواطن نفوذ جغرافي وفئوي للكتل الكبرى وتظهر تباينات بين المدن الكبرى والمدن الصغرى أم أن هذه الخريطة لا تزال في حالة سيولة في انتظار امتحانات انتخابية قادمة!
الأرجح أن تواصل حركة النهضة التمسك بخيار التشاركية الواسعة، أما نداء تونس فسيجد نفسه بين ضرورة المحافظة على الاستقرار السياسي في البلاد حيث لا غنى عن النهضة، والرغبة في استرجاع ناخبيه التي تتطلب قدرًا من الاستهداف للنهضة.
وستحاول الأحزاب الأخرى تدارك نتائج المحليات باستهداف سياسة التوافق والإيغال في مهاجمة النهضة لافتكاك جزء من القاعدة الانتخابية للنداء.
هذه الإستراتيجيات سيكون لها تأثيرها على المشهد الحكومي، خاصة أن الرهان الأكبر سيكون على الرئاسيات وهي معركة سيتم اللجوء فيها لكل الوسائل في ديموقراطية لم تبلغ درجة مثلى من ضبط التنافس السياسي.
هذا الشوط الانتخابي الثاني الذي سيفتتح يوم السابع من مايو سيكون تحت ضغط الاستحقاق الاجتماعي الذي قد ينفجر احتجاجًا صارخًا ليعرقل كل المسار وقد ينفجر احتجاجًا هادئًا عقابًا للحكام يوم الانتخاب.
هذه الانتخابات ستعيد توزيع السلطة وستنقل البلاد من ثقافة الانتظار والأعناق المشرئبة إلى الأعلى والمنتظرة للحلول الفوقية إلى ثقافة المبادرة والأعين الباحثة عن الفرص تحت أقدامها
ستكون لهذه الانتخابات نتائج عميقة
فهي ستبني فعليًا المجال السياسي، وستتحول الأحزاب بالضرورة من أحزاب أفكار ومبادئ إلى أحزاب برامج، وستنقل عالم السياسة من المجرد إلى المحسوس، ومن الفضاء إلى الأرض، ومن التبشير إلى التدبير، وبهذا المعنى ستخفف من شحنة العدائية والمواجهة.
وهي ستجدد الطبقة السياسية وستفتح الأبواب أمام جيل لم يعرف معارك الماضي وستكون له فرصة للجلوس على طاولة واحدة، ليصبح التعايش واقعًا منغرسًا في العمق الاجتماعي لا مجرد أماني أو التقاءات فوقية أو عارضة.
وستصبح المواقع الحزبية مؤهلة للمسؤوليات في السلطة، كما يهيئ التموقع في السلطة التدرج في المهام الحزبية، وستصبح المسؤوليات الدنيا هي المعبر للمسؤوليات الوطنية، وهكذا يبنى المصعد السياسي.
وسيكون للتأنيث والتشبيب تأثير على المشهد في الأحزاب والمؤسسات في العقد القادمـ وهذا يعطي أهمية للمجال السياسي باعتباره قاطرة لتغيرات اجتماعية ويوفر جاذبية للشباب، وستتزايد أهمية المجتمع المدني، إذ تثبت التجربة التونسية أن للفاعلية فيه تأثيرها على التموقع في السلطة بمختلف مستوياتها.
هذه الانتخابات ستعيد توزيع السلطة وستنقل البلاد من ثقافة الانتظار والأعناق المشرئبة إلى الأعلى والمنتظرة للحلول الفوقية إلى ثقافة المبادرة والأعين الباحثة عن الفرص تحت أقدامها، قد تقاوم السلطة المركزية تمسكًا بامتيازاتها العريقة، وقد تسقط الهيئات المنتخبة نفسها في طرق الإدارة القديمة، ولكن المسار سيجد توازنه بعد فترة، وستتخفف السلطة المركزية من كثير من الضغوط وستكتشف السلطات المحلية ممكنات تنموية على الأرض فتثمنها، فتينع آلاف الورود المتمايزة في الباقة التونسية الواحدة.
في مناخ تخيم عليه الحيرة تأتي هذه الانتخابات لإعطاء دفع جديد للثورة التونسية، ولعل انفتاح المصعد السياسي بهذا الحجم وهذه القدرة على الإدماج يعين على فتح المصعد الاجتماعي، ورسالة السياسة الأولى هي إعطاء الأمل وفتح الآفاق.