كثيرًا ما ينتابنا الألم والحسرة على ضياع الأندلس، ونلقي التهم على حكامها المتخاذلين عن الدفاع عنها، فالأندلس التي تغنى بها الشعراء، أصبحت عبارة عن حبر على ورق وأطلال مساجد وقصور وشواهد قبور متناثرة هنا وهناك، ثم نتساءل كيف تاريخ عمره ثمانية قرون يختفي هكذا؟
وحتى نضع يدنا على الأسباب الحقيقية وراء ضياع الأندلس، علينا أولًا أن نتعرف محمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور الذي كتب على قبره “أثاره تنبيك عن أخباره حتى كأنك بالعيون تراه … تالله لا يأتيك الزمان بمثله أبدًا ولا يحمي الثغور سواه”.
هو محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري، وكان جدُّه عبد الملك المعافري من العرب الفاتحين الذين دخلوا الأندلس مع طارق بن زياد، فنزل بالجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس، واستقرَّ بها، وكما يذكر المؤرخون فإن أبي عامر كان ذا طموح كبير وهمة عالية وذكاء وقَّاد، وعمل كاتبًا للقاضي محمد بن إسحاق ابن السليم الذي رأى من نبوغه ما جعله يوصي به عند الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، وقد تدرج ابن أبي عامر في الوظائف في دولة الخلافة وأثبت نفسه بكل جدارة، مما دعا الخليفة وقت ذاك الحكم المستنصر بالله أن يوليه وكالة ابنه هشام المؤيد بالله.
كان ينقص أبي عامر الشرعية أو المشروعية، فهو أمام العامة في قرطبة عاصي الخلافة ومغتصب للسلطة، لذلك مثلت تلك الحملات العسكرية بالنسبة له الشرعية التي يسعى إليها
وعندما توفي الخليفة الحكم المستنصر بالله عام 976 ميلاديًا، اجتمع كل من الحاجب جعفر المصحفي وأم الخليفة الصغير صبح البشكنسية وهي الشخصية القوية في القصر ومحمد بن أبي عامر، وقرروا إخفاء خبر وفاة الخليفة حتى لا تحدث بلبلة وتضيع الخلافة من يد الطفل الصغير هشام المؤيد بالله، وسرعان ما اتفقوا على التخلص من أخ الخليفة المغيرة الذي كان في العقد الثالث.
وكما تذكر المصادر التاريخية فقد تطوع بن أبي عامر لهذه المهمة، وقام بشنقه بخيط من الحرير، وبذلك زالت أولى العقبات أمام ابن أبي عامر للوصول للسلطة، وسرعان ما تطورت الأمور، حيث قام ابن أبي عامر بإلقاء الحاجب جعفر المصحفي بالسجن برضى من صبح البشكنسية، وقد توفي جعفر المصحفي في السجن، وقيل إنه قتل، وكتب بعض أبيات الشعر التي تصف حاله قبيل وفاته:
وكانت على مر الأيام نفسي عزيزة … فلما رأت صبري على الذل ذلت
وقلت لها يا نفس موتي كريمة … فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت
أما المسمار الأول الذي دق في نعش الاندلس، ويمكن أن نعتبره المعول الأول في سقوط الاندلس، عندما قام محمد بن أبي عامر بحجب الخليفة الصغير هشام المؤيد بالله وأمه في القصر في عام 997 ميلاديًا، واستئثاره بالحكم لنفسه، حيث يمكن أن نعتبر هذا الحدث بمثابة انقلاب إن صح التعبير، إضافة إلى أنه يمكن أن نؤرخ لبداية انحدار الأندلس نحو الهاوية.
ورغم أن سنوات محمد بن أبي عامر في الحكم كانت سنوات عز وقوة للأندلس، حيث إنه قاد أكثر من خمسين حملة عسكرية ضد الإسبان في أرجاء شبه الجزيرة الأيبيرية، حتى إنه كاد يقضي على وجودهم، وتفسيرنا هنا لحملاته العسكرية أنه رغم قوته وشدة بأسه، كان ينقصه الشرعية أو المشروعية، فهو أمام العامة في قرطبة عاصي الخلافة ومغتصب للسلطة، لذلك مثلت تلك الحملات العسكرية بالنسبة له الشرعية التي يسعى إليها.
نحن لا نتهم ابن أبي عامر بل ننقل الأحداث كما وقعت، فحبه للسلطة واستغلاله للظروف وكل هذه الأمور يمكن أن نعتبرها بداية الانحدار بالنسبة للأندلس نحو الهاوية كما أشرنا سابقًا
محمد بن أبي عامر خلال حكمه أسس جيشًا نظاميًا يعتمد عليه في حروبه وفي الحفاظ على السلطة، هذا الجيش كان جله من المغاربة الذين تميزوا بالقوة وشدة البأس في ساحات المعارك، لكن هذا الجيش أدخل الأندلس في حالة من الفوضى بعد وفاته، فعبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر الملقب ببن شنجول حاول الاستئثار بالحكم والخلافة لنفسه، فثار ضده عامة قرطبة وقتلوه، فوجد هذا الجيش نفسه في وضع لا يحسد عليه، فحاول استعادة قرطبة، وحاصرها عدت مرات، ووقعت عدة معارك طاحنة، وانتهى الأمر بأن دخلت الأندلس في حالة من الفوضى والاضطرابات، حيث عرفت هذه الفترة عند المؤرخين بعهد ملوك الطوائف، وتميز هذا العهد بحالة من الصراع بين ملوك الطوائف واستنجادهم بالإسبان ضد بعضهم البعض.
وهنا نحن لا نتهم ابن أبي عامر بل ننقل الأحداث كما وقعت، فحبه للسلطة واستغلاله للظروف وكل هذه الأمور يمكن أن نعتبرها بداية الانحدار بالنسبة للأندلس نحو الهاوية كما أشرنا سابقًا، أصدق تعبير يمكن أن يعبر عن أوضاع الأندلس في مرحلة الانحدار ما قاله الشاعر أبو لقاء الرندي في رثاء الأندلس:
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان
أين الملوك ذوو التيجان من يمن وأين منهم أكاليل وتيجان
وأين ما شاده شداد في إرم وأين ما ساسه في الفرس ساسان
وأين ما حازه قارون من ذهب وأين عاد وشداد وقحطان
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا