الفيلسوف الذي ادعى نقاده أنه أصابه الجنون قبل أن تنتهي حياته القصيرة في بداية القرن العشرين، وهو الفيلسوف الذي أثارت فلسفته الجدل خصوصًا بالنسبة للأديان؛ حيث آمن الفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه بالقوة أو “إرادة القوة” على حساب إرادة الإله والأديان والأخلاق والقيم، وهو ما كان عنوان أشهر كتبه “Will to Power” الذي كان أساسًا لفكر وفلسفة نيتشه.
يؤمن فكر نيتشه بالقوة في مختلف صورها سواء كانت عسكرية أو اقتصادية أو جسدية أو سياسية، ولكن القوة الأساسية التي يُركز عليها هي القوة التي يرتكز عليها الإنسان لكي يؤسس القيم التي يتبعها في حياته، التي يُسميها نيتشه في فكره “إعادة تقييم القيم” ليكون للإنسان قيم بنماذج جديدة تختلف تمامًا عن القيم التي تعلمها من محيطه العائلي أو محيطه البيئي أو التي تعلمها من نظام التعليم أو من الأديان ليتجاوز نظام القيم المتعارف عليه للإنسان العادي فيما يسميه نيتشه “الرجل المتفوق” أو “الخارق”، وهو الرجل الذي يتعالى على أي قواعد أخلاقية أو قانونية وأي محددات تضبط سلوك الإنسان وعنفوانه وتقيد حريته.
كان أبرز ما قدمه فكر نيتشه هو نقد النظام الأخلاقي الحديث، كما جاء في كتابه “جينالوجيا الأخلاق”، انتقد فيه نيتشه القيم الأخلاقية الأوروبية منذ المسيحية مرورًا بالليبرالية والاشتراكية تنحدر من مصدر واحد، هذا المصدر يراه نيتشه ثقافة المستضعفين.
كما ذكرنا سابقًا فإن الفيلسوف الألماني يؤمن بإرادة القوة، ويرى أن الغريزة مصدر قوة الإنسان التي تمنحه السرور والنشوة والقوة، يرى نيتشه أن الغريزة وحدها التي تحرك الإنسان سواء كان من خلال فعل الفرد القوي أو انفعال الفرد الضعيف، ليس هناك مجال للحديث عن الحرية والأخلاق والضمير والمسؤولية، إن الغريزة هي العلة الأولى والأخيرة لأي حدث.
القيم والأخلاق والدين: “حجة المستضعفين”
لوحة مرسومة لنيتشه للفنان إدوارد مونش
لا يؤمن نيتشه بأي قواعد أخلاقية أو قانونية أو دينية تضبط سلوك الإنسان، وذلك لأنه يراها تُقيد حريته، حيث كان الصالح هو القوي النبيل والفاسد هو الضعيف المغلوب قبل ظهور المسيحية وبالتالي فإن فكر نيتشه يعتمد على أن الأخلاق الصالحة هي أخلاق الأشراف والأسياد الذين لا تُقيد حريتهم أي ضوابط وقواعد، أما رجال الدين فيراهم نيتشه أنهم لجأوا للدين كحجة لإضعاف أنفسهم ليلفقوا “وهم” الضمير والمسؤولية الأخلاقية.
ترفض النيتشوية بعنف قيم العقلانية الأنوارية التي أنتجت منظومات عملت على الحد من حرية الإنسان
إن الثقافة الحقيقية عند نيتشه هي تلك التي تمنح الإنسان القوة والسرور والنشوة، بينما تهدف “الثقافة المصطنعة” إلى عرقلة الحياة وتقييد حرية الإنسان بمجموعة من الضوابط التي يصفها نيتشه بالمصطنعة أما عن “الثقافة الحقيقية” فهي التي تخضع للحياة وتخدم قانونها الأساسي، قانون الاستمرار، أما ما يسمى بالثقافة منذ ألفي سنة، فيراها نيتشه فاسدة خادعة.
هل يقدم نيتشه حلولًا بديلة؟
تمثال نيتشه في ألمانيا
لا يحاول فكر نيتشه تقديم حلول بديلة لمنظومة الأخلاق والثقافة الأوروبية الحديثة، وإنما يحاول “إعادة تقييم القيم” وتحديدًا القيم الأخلاقية، التي تُحدد كل ما هو خير وشر التي قسّمها نيتشه إلى “أخلاق السيد” و”أخلاق العبيد”.
بالنسبة لفريدريك نيتشه فإن أخلاق السادة تميل بشكل أساسي لخلق قيم جديدة ووجهات نظر مختلفة عن الحياة أكثر منها تقمع أخلاق وقيم المجموعات الأكثر ضعفًا، فهي تتيح للإنسان التصرف طبقًا لغرائزه ولا تُقيد من حريته، وعلى العكس فإن “أخلاق العبيد” تميل بشكل أساسي لخلق وهم الضمير والمسؤولية الأخلاقية التي تضع قيود وحواجز للتصرف طبقًا لغرائز الإنسان التي استمدها نيتشه مما كان سائدًا قبل انتشار الدين المسيحي بين أخلاق الصالحين التي تُمثل “أخلاق السادة” وأخلاق الفاسدين التي تمثل “أخلاق العبيد”.
يعتبر فكر “نيتشه” أن أخلاق العبيد تطورت معهم لتساعدهم على تحمل ظروف العبودية والضعف والفقر، وتمنحهم أمل أنهم سيتم مكافأتهم في المستقبل أو بعد الممات، والعكس صحيح بالنسبة لأخلاق السادة، وهنا يتضح تعارض الفيلسوف نيتشه الواضح مع الديانة المسيحية، إذ رأى أنها تحفز البشر أن يكونوا عبيدًا مستضعفين، من خلال تلقينهم قيم خاصة بالطاعة والتذلل وتقييد الغرائز والحريات.
لا تسعى النيتشوية إلى تقديم حل بديل عن الدين أو بديل عن الأخلاق والثقافة، فالحل بالنسبة للفيلسوف الألماني هو “حب المرء لقدره” وهو ما يُسميها نيتشه (Amor Fati)
يرى نيتشه أن المنظومة الأخلاقية التي يتضمنها الدين كذلك وسيلة لمزيد من خنوع البشر وإبعادهم كليًا عن التصرف بحسب غرائزهم، واعتبار تلك الرغبات والغرائز مفاهيم “منحرفة” يجب عليهم إخضاعها، التوفير الاقتصادي أو الزهد في رغبة الامتلاك وغيرها من المبادئ الأخرى التي تقيد أفعال الإنسان التي تجعل الحياة أكثر قسوة بحسب وصف نيتشه ليرغب الإنسان في التخلص من الحياة الحاليّة ليحصل على ما يشاء بعد الممات.
ولكن ما القيمة في هذه الحياة إذًا؟
كان نيتشه عازفًا للبيانو
سوف يتساءل الكثيرون بعد قراءة فكر نيتشه الذي ينتقد القيم الحياتية التي يتبعها الأغلبية عن قيمة الحياة الحاليّة إذًا؟ ما دام لا يقدم فكر نيتشه حلولًا بديلة، لا تسعى النيتشوية إلى تقديم حل بديل عن الدين أو بديل عن الأخلاق والثقافة، فالحل بالنسبة للفيلسوف الألماني هو “حب المرء لقدره” وهو ما يُسميها نيتشه (Amor Fati)، وهي ببساطة حب المرء الكامل للحياة بما تتضمنه من لحظات قاسية ومؤلمة وموجعة.
يفترض فكر النيتشوية أن الحياة التي نحياها لا تنتهي عند نقطة معينة، فإذا تخيلنا أن الوقت يسير بشكل دائري أو حلزوني وليس بشكل “شبه مستقيم” كما نتخيله، فهذا يعني تكرار الحياة التي عشناها وأنهيناها مرة تلو الأخرى ولكن بشكل مختلف، إلا أنها تتكرر وتعود من جديد مع بداية جديدة من نقطة النهاية.
أن أحيا كما أريد، أو لا أحيا مُطلقًا
– نيتشه
هذا يعني في فكر النيتشوية أن يقوم البشر بالتركيز الكامل والعميق على “هذه الحياة”، والاستمتاع بها وخوض تجربتها بما تحمله من تجارب موجعة ومُفرحة بدلًا من الانعزال الكامل عنها والتركيز على ما سيأتي بعدها في الحياة الأخرى، وهو ما يعتمد عليه نيتشه من نظرته الملحدة للأديان ووجود الرب بشكل عام.
ربما يكون نيتشه أكثر الفلاسفة الممتعين في التاريخ على الرغم من حدة انتقاداته اللاذعة للمنظومة الأخلاقية والمنظومة الدينية، فهو لم يكن فيلسوفًا فحسب، بل كان ممثلاً هزليًا وموسيقار، فكما أبرز في فكره، فهو في حياته العادية كان يقاوم أيضًا أي حلول سهلة لخوض تجربة الحياة، ربما لهذا اشتهر “نيتشه” بالفيلسوف المجنون، وذلك لخلط فلسفته وفكره الذي انتقده الكثيرون بسبب كون نيتشه ملحدًا، مع حياته التي عانى فيها بالمرض المستمر، لقد تعرض نيتشه في حياته لكثير من لحظات الانهيار، التي وثقت إحداها في فيلم (The Turin Horse) حينما عانى نيتشه من انهيار إثر رؤيته حصان يُضرب بالسوط.
لقد قضى نيتشه أغلب حياته مريضًا، فعرف عنه بأنه أصيب بمرض “الزُهري العصبي” وهو مرض يصيب الدماغ أو الحبل الشوكي بحسب ما ورد في مذكرات نيتشه، وهو المرض الذي قضى على حياته مبكرًا في بداية القرن التاسع عشر، اتخذ العديد من النقاد المرض كحجة لوصف نيتشه بأنه مجنون على الرغم من كونه أكثر الفلاسفة المؤثرين في القرن التاسع عشر الذي ما زل فكره يُناقش إلى اليوم في محاولة لشرحه وتفسيره.