على الرغم من أنّ معظمنا يبدو مبتهجًا بقدوم الشتاء والمطر والأجواء المصاحبة له، إلا أنّنا لا نلبث أن نتحوّل إلى أشخاص سلبيي المزاج حياله، راغبين بانتهائه، وكلما امتدَ أكثر تبدأ تظهر علينا أعراض الكآبة والحزن والإحباط، أو الرغبة بالبقاء في البيت والنوم لساعاتٍ أكثر، عوضًا عن الرغبة غير المنتهية بالأكل، لا سيما الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية.
تتنوّع الأعراض المرتبطة بالاكتئاب الموسمي بداية من مشاعر اليأس، وحتى أفكار الانتحار، مرورًا بفقدان الاهتمام بالأنشطة العملية، والانسحاب من التفاعل الاجتماعي، ومشاكل النوم والشهية، وصعوبة في التركيز واتخاذ القرارات
نتحدث هنا عن الاضطرابات العاطفية الموسمية ” Seasonal affective disorder“، والمعروفة أيضًا باكتئاب فصل الشتاء أو الشجن الشتوي أو الاكتئاب الموسمي، وتحدث سنويًا بشكلٍ دوريّ في الوقت نفسه من العام بدءًا من أواخر الخريف إلى أوائل الربيع، وتبلغ ذروتها في فصل الشتاء.
وفقًا للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات والأمراض العقلية “DSM” فتتنوّع الأعراض المرتبطة بالاكتئاب الموسمي بداية من مشاعر اليأس، وحتى أفكار الانتحار، مرورًا بفقدان الاهتمام بالأنشطة العملية، والانسحاب من التفاعل الاجتماعي، ومشاكل النوم والشهية، وصعوبة في التركيز واتخاذ القرارات، وانخفاض الدافع الجنسي، ونقص الطاقة، وتأتي جميع هذه الأعراض على شكل نوباتٍ اكتئابية متعددة.
علم النفس التطوّري: اكتئاب الشتاء وسيلةً للنجاة والبقاء
يقدّم علم النفس التطوري إحدى النظريات التي قد تساعدنا في فهم الاكتئاب الموسمي، إذ يوفّر التطور سردًا ولو بسيطًا للكثير من الخصائص البشرية، بما في ذلك العواطف والسلوكيات، كما أنّ لتفكير الدارويني في الطب يمكن أن يساعد أيضًا على فهم أصول العديد من الأمراض.
الاكتئاب الموسمي حالة عاطفية؛ فإذا أردنا أن نفهمه في ضوء التطور علينا أولًا النظر في المشاعر والعواطف المرتبطة فيه. ومبدئيًا يمكننا القول أنّ الحالات العاطفية المختلفة عبارة عن استجابة لإشارات، داخلية كانت أو خارجية، والتي بدورها ترتبط إمّا بنوعٍ من التحفيز الإيجابي أو السلبي كضررٍ أو أذى، وقد تطورت كآليات دفاع تساعد الأفراد على الاستمرار في حياتهم على نحوٍ أفضل، فالخوف هو العاطفة الذي يدفع الفرد للفِرار أو اتخاذ قرار تجنبًا لوضعٍ خطير، في حين تؤدي المتعة إلى تشجيعه على تكرار ذلك السلوك أو التصرّف الذي أدى لذلك الشعور. كما يمكن فهم العديد من المشاعر الأخرى مثل الغضب والحزن والاشمئزاز على نحوٍ مماثل.
من وجهة نظر تطورية، يكمن الفرق الأكثر أهمية بين الاضطرابات العاطفية الموسمية وغيرها من أنواع الاكتئاب هو الطريقة غير النمطية التي يتجلى فيها. فكلٌّ من أنواع الاكتئاب الأخرى قد تكون نتيجة تطورات غير مؤاتية أو ملائمة للإنسان البدائي، في حين يمكن اعتبار الاكتئاب الموسمي تطوّرًا مفيدًا قبل ملايين السنين، على الرغم من أنّه يعد مظهرًا من مظاهر الإحباط في المجتمعات الحديثة ويشكّل مشكلة كبيرة وحقيقية للملايين من الأشخاص في جميع أنحاء العالم. فكيف يمكن أن نفهم الاكتئاب الموسمي؟
كان الإنسان البدائي يميل لمثل هذا النوع من المشاعر المرتبطة باكتئاب الشتاء كمبدأ لحفظ طاقة الجسم في أوقات البرد القارصة التي كانت ترتبط بالمجاعات ونقص الغذاء والنباتات ومصادر الصيد وغيرها
يتسم هذا النوع من الاكتئاب متشابهًا مع غيره من الاكتئاب بنقص الطاقة وانخفاض التمتع بالأنشطة، لكن وخلافًا لبقبة الأنواع فيمتاز اكتئاب الشتاء بحاجة الجسم للطعام ذي الطاقة العالية مثل الكربوهيدرات والدهون، والحاجة إلى مزيد من النوم أكثر من المعتاد، الأمران اللذان يؤديان بدورهما إلى زيادة الوزن، في حين أنّ الاكتئاب العام يتّسم بنقص الشهية وعدم القدرة على النوم.
ومن هذه النقطة نستطيع استنتاج أنّ الإنسان البدائي كان يميل لمثل هذا النوع من المشاعر كمبدأ لحفظ طاقة الجسم في أوقات البرد القارصة التي كانت ترتبط بالمجاعات ونقص الغذاء والنباتات ومصادر الصيد وغيرها. لذلك فكانت مشاعر الحزن المرتبطة بذلك الموسم هي الطريقة المثلى لتجنّب الموت والمجاعات، وذلك بالتركيز على الأطعمة ذات الطاقة العالية دون غيرها من جهة، وتكييف الجسم على الطاقة المنخفة والأنشطة القليلة، بهدف أن تكفل آليات الدفاع هذه بقاءه على قيد الحياة خلال مواسم الشتاء القاحلة، كما أنها تزيد من إمكانية خصوبته في الربيع، ما يعني قدرةً أكبر على تمرير الجينات للأجيال اللاحقة.
وبما أنّ علم النفس التطوّري ينصّ على أنّ جيناتنا تطوّرت تبعًا للحياة التي عاش عليها الإنسان الأول، فيمكننا القول أنّ هذه الأنواع من الاكتئاب لها صلة وراثية، إذ طوّرها أجدادنا لضمان بقائهم على قيد الحياة ثمّ انتقلت إلينا كمواد وراثية، وهذا قد يفسر سبب تعرض معظم الأفراد ككلّ لانحدارٍ في المزاج وزيادة في النوم خلال أشهر الشتاء.
شعاع الشمس: الضوء يسحب الهرمونات
يرجع علماء الفسيولوجيا السبب وراء اكتئاب الشتاء إلى أنّ غياب الشمس لفتراتٍ طويلة قد يؤدي لآثارٍ سلبية على الجسم تنطوي على عددٍ من الهرمونات، منها الميلاتونين والسيروتونين، التي يرتبط إفرازها الشمس أساسًا وتؤثر بدورها بشكل مُباشر على حالة الشخص المزاجية وشهيته، وبالطبع معدّلات النوم الذي يحصل عليها.
العديد من الدراسات التصويرية والأبحاث التي أُجريت على القوارض المختلفة، توصلت لوجود علاقة بهرمون السيروتونين وتعرّض الجسم لكميات مباشرة من أشعة الشمس الطبيعية التي تأتي في مجموعة متنوعة من الأطوال الموجية الضوئية، وبشكلٍ خاص الطيف الأزرق الذي يلعب دورًا في إفراز السيروتونين من الخلايا العصبية جذع الدماغ من جهة، ويتحكّم في إيقاعات الساعة البيولوجية لدينا من جهة أخرى.
قد تفسّر فرضية السيروتونين أيضًا الأسباب التي تجعل النساء أكثر عرضةً للاكتئاب الموسمي والعام أكثر من الرجال، إذ يرتبط الهرمون الرئيسي عند النساء استراديول بناقل السيروتونين في الجسم، وبالتالي فتغيّر نسبة هرمون الاستراديول خلال مراحل معينة مثل سن البلوغ أو ما بعد الولادة، يمكن أن تؤثر على الطريقة التي يتم فيها إنتاج السيروتونين، ومن ثمّ على الحالة المزاجية.
ولاختلاف مكان الفرد من خطّ الاستواء نصيبٌ في احتمالية إصابته بهذا النوع من الاكتئاب، نظرًا إلى تبدل أنماط الضوء ودرجات الحرارة والمُناخ مع اختلاف فصول السنة، فنسبة الإصابة به في الدول التي تقع بعيدًا عن خط الاستواء أكبر بكثير من تلك التي تقع بالقرب منه، حيث تتمتع تلك المناطق الجغرافية بساعات نهار طويلة مُنتظمة وضوء وفير طوال أيام السنة.
الضوء هو المشكلة والعلاج
اكتئاب الشتاء مشكلة حقيقية تتطلّب علاجًا جادًا في حالات كثيرة. ويعدّ التعرّض للضوء العلاجَ الرئيسيّ لهذا النوع من الاكتئاب، نظرًا لكون غياب الضوء هو المشكلة الأساسية. وبالتالي فإنّ تعريض الجسم لكميات محددة من الضوء الساطع يمكن أنْ يُحدث تغييرًا في المواد الكيمائية بالدماغ والمرتبطة بالحالة المزاجية، ولهذا السبب تقوم العديد من الدول التي تفتقر لساعات النهار إلى تركيز شدة الضوء في الأماكن العامة، كوسيلة للحدّ من أعراض الاكتئاب الموسميّ المنتشرة بكثرة.
كما يفيد العلاج النفسي في حالات الاكتئاب، خاصة “السلكويّ المعرفيّ” الذي يهدف بمساعدة طبيب متخصص إلى تحديد وتغيير الأفكار السلبية وتعلم طرق التعامل مع المشاعر والسلوكيات السلبية المرتبطة بها، ووإدارة الإجهاد النفسي. وقد يحتاج ذلك العلاج أيضًا للجوء لاستخدام الأدوية ومضادات الاكتئاب المعروفة باسم “مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية SSRI“، التي تعدّ فعالة في علاج الحزن والاكتئاب من هذا النوع.، ويمكن أن تتزامن مع التعرض للضوء في أوقات محددة.