في مثل تلك الأوقات من كل عام على مدار السنوات العشر الماضية، كانت الأجواء المخيمة على المشهد المصري تكتسي بألوان الاحتفاء الكرنفالي الممنهج بذكرى تظاهرات 30 يونيو/حزيران، تلك التي خرج فيها ملايين المصريين يطالبون برحيل الرئيس الأسبق محمد مرسي.
وكان الإعلام بشتى انتماءاته والذي دخل معظمه حظيرة التأميم، ومعه الأحزاب الكرتونية المستأنسة، بجانب مؤسسات المجتمع المدني المدجنة، وكلاء تلك الاحتفالات التي دومًا ما كانت تعزف على وتر تمجيد الجمهورية الجديدة بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي كان يتلقف تلك المناسبات لاستعراض إنجازاته على مدار سنوات حكمه العشرة، متباهيًا بما قدم، مشددًا على أن ما أنجزه ما كان يمكن إنجازه في مئات السنين.
اليوم ومع الذكرى الحادية عشر لتلك التظاهرات، التي رفع فيها المشاركون قائمة من المبررات والأسباب، لم يتغير منها أي شيء رغم مرور عشر سنوات كاملة عليها، إن لم تكن وصلت إلى مستويات من السوء والانحدار غير مسبوقة في التاريخ المصري، يبدو أن الأجواء ليست كما كانت خلال السنوات الماضية، فهناك حالة من القلق وسط دعوات للتظاهر والمطالبة برحيل السيسي الذي أغرق المصريين في وحل من الأزمات.
الشارع يغلي
تأتي الذكرى الحادية عشر لتلك التظاهرات في وقت يغلي فيه الشارع المصري بسبب الكوارث الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية التي حولت حياة المصريين إلى جحيم حقيقي، حيث قطع الكهرباء بالساعات في هذا الجو الحارق، ولهيب جنوني لأسعار السلع والخدمات، وتآكل سرطاني لقيمة مدخرات المصريين، وانهيار سريع الانزلاق للعملة المحلية (الجنيه) أمام العملات الأجنبية.
وكان نتاجًا لكل ذلك أن زُج بالملايين من الشعب المصري إلى مستنقع الفقر والعوز، (60% من المصريين تحت مستوى خط الفقر وفق بعض التقديرات غير الرسمية) وتآكلت الطبقة المتوسطة، وهي رمانة الميزان في أي مجتمع، بصورة تهدد التماسك المجتمعي وتنذر بانفلات عقد الاستقرار والأمن الداخلي.
كما اكتشف المصريون بعد عشر سنوات من مشاركتهم في تلك الاحتجاجات أن المبررات والأسباب التي خرجوا لأجلها (الحرية والعيش وارتفاع أسعار الغاز والبنزين وانقطاع التيار الكهربائي وارتفاع معدلات التضخم والإقصاء السياسي والاجتماعي وتهديد الأمن المائي والقومي وسد النهضة والحدود.. إلخ) لم يتغير منها شيء، بل على العكس زادت حدتها وتطرفها إلى مستويات لم يشهدها المصريون في حياتهم، حيث زادت أسعار السلع والخدمات الرئيسية الحيوية بمعدلات تجاوزت في بعض الأحيان 2000%.
الأمر زادت حدته بإثقال كاهل الدولة بحمل ثقيل من الديون الخارجية تجاوزت الـ160 مليار دولار، فضلًا عن خدمة الدين التي تبلغ هي الأخرى ما لا يقل عن 50 مليار دولار، الأمر الذي أجبر الحكومة على تخصيص ما يزيد على 80% من حجم الموازنة المخصصة للشعب لسداد خدمة الدين.
اللافت في الأمر أن السلطة الحاكمة لم تعترف بهذا الفشل على المستويات كافة، رغم معايشة المواطن له على مدار الساعة، محاولة إلقاء الكرة في عدة ملاعب لتبرئة ساحتها، تارة في ملعب الإخوان، وتارة في ملعب المؤامرات الخارجية، وثالثة في ملعب الظروف الإقليمية والدولية، وهي المبررات التي ما عادت تنطلي على مواطن.
وبينما يدعو إعلام النظام وأذرعه السياسية والاجتماعية للاحتفاء بذكرى 30 يونيو/حزيران، مستعرضًا إنجازات الجمهورية الجديدة، إذ بالشعب المصري عن بكرة أبيه غارق في الظلام بالساعات يوميًا في هذا الجو الحارق، في تناقض فج، فرغ الاحتفاء من مضمونه وحوله إلى أضحوكة وسخرية لدى الجميع.
دعوات للتظاهر ومطالبات بالتنحي
وفي ظل تلك الأجواء الملبدة بغيوم الاحتقان والغضب الشعبي من الوضع المعيشي الصعب الذي يحياه المصريون، خرجت العديد من الدعوات للتظاهر والاحتجاجات سواء في 30 يونيو/حزيران أو 3 يوليو/تموز، وهناك من دعا للتظاهر منتصف أغسطس/آب القادم، في محاولة لتغيير المياه الراكدة في مستنقع السياسة المتجمد.
وينطلق الداعون لتلك التظاهرات من ركيزة الوضع الاقتصادي الصعب الذي يزداد سوءًا يومًا تلو الآخر، وتحميل المواطن ما يفوق قدراته وإمكاناته، وابتعاده بشكل كبير عن قائمة أولويات السلطات الحاكمة التي تضع نصب عينيها عدة اعتبارات ليس من بينها مصلحة الشعب لا سيما محدودي الدخل منهم وهم الغالبية العظمى.
كذلك وصول الشعب إلى اليقين الكامل بأنه بعد عشر سنوات كاملة من الحكم فشل النظام الحالي في تحقيق أحلام ورغبات المصريين، حيث تبخرت الوعود أمام مكثفات الواقع المرير، وتقلصت الطموحات من منارات الريادة والرخاء إلى عتبات الكفاف في ظل الأداء الرسمي المتواضع الذي لم يحقق أي منجز يتلمسه المواطن بعيدًا عن قائمة الإنجازات التي يرددها النظام وإعلامه والتي تخدم حفنة قليلة من الشعب.
ومع تكبيل الدولة بقيود الديون والأقساط لسنوات طويلة قادمة، مع افتقاد الرؤية وغياب التخطيط، وتجاهل فقه الأولويات، كانت دعوات رحيل النظام وتنحيه عن السلطة، وأن تُمنح سلطة جديدة الفرصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، فما هو صعب اليوم قد يكون مستحيلًا في الغد إذا صارت الأمور على ما هي عليه.
القلق يخيم على المشهد
على مدار 10 سنوات كاملة لم يستشعر النظام الخطر والتهديد من الشارع كما يستشعر به اليوم، رغم الدعوات المتكررة قبل ذلك للخروج والتظاهر، يقينًا منه أن الشعب وصل إلى مرحلة من فقدان الأمل في أي تغيير محتمل في ظل إصرار السلطة على المضي قدمًا في ذات السياسات رغم إثبات فشلها بكل المقاييس، علاوة على التثبت من كسر الشعب لحاجز الخوف خلال الآونة الأخيرة وفشل انتهاج سياسات التخوين والعمالة والأخونة التي كانت تؤتي ثمارها في السابق.
كما تسبب صلف النظام وعدم اعترافه بالفشل وإلقاء الكرة في ملاعب الآخرين، في إصابة الشارع بالصدمة، حتى الداعمين له في السابق، ممن اكتووا بنار الأسعار ولهيب انقطاع الكهرباء وتفريغ جيوبهم مما فيها لأجل سداد ما عليهم من رسوم يومية متضاعفة بشكل عشوائي.
ومن ثم خرجت دعوات بعنوان “طوفان مصر”، و”ثورة الكرامة” وغيرها، للمطالبة بالخروج والتظاهر للتعبير عن الرفض القاطع لطريقة إدارة الدولة، والمناداة بإعادة النظر فيها، سواء على مستوى الأشخاص أم السياسات، فيما خلع الكثير من المصريين عباءات الخوف والقلق من التنكيل والاستهداف الأمني لتمتلئ ساحات منصات التواصل الاجتماعي بمقاطع الغضب والتنديد والهجوم على الرئيس والحكومة والنظام بأكمله، في تطور لم يكن مشهودًا في السنوات الماضية.
وفي المقابل وأمام استشعار السلطة للقلق بدأت في نشر مدرعات الأمن وقوات الشرطة في الميادين الرئيسية والشوارع المحورية، فيما جيش الإعلام واللجان الإلكترونية جهودهما لتهدئة الشارع من خلال تمرير سرديات تحسن الوضع نسبيًا خلال المرحلة المقبلة، بزعم أن ما فات كان بمثابة “السبع العجاف”، وها هي مصر على أبواب “السبع سنبلات الخضر”.
وبعيدًا عما يمكن أن تُسفر عنه تلك الدعوات، سواء اُستجيب لها أم لا، لكن المشهد لم يعد كما كان خلال العشرية الماضية، فحالة الاحتقان والغضب الشعبي ما عاد يجدي معها نفعًا تلك المسكنات التقليدية التي اعتادها النظام، فضلًا عن عصاه الغليظة التي يرعب بها كل من يفكر أن يغرد خارج السرب، لتتحول ذكرى 30 يونيو/حزيران وغيرها من تلك الأحداث، من ذكريات احتفاء وتلميع واستعراض إلى أجواء قلق وترقب.