نفذ قضاة تونس، اليوم، “يوم غضب”، بكامل محاكم البلاد احتجاجًا على التعدي الذي لحق السلطة القضائية والانتهاك الصارخ لمقر المحكمة الابتدائية ببن عروس وقضاتها، وذلك على خلفية الوقائع الخطيرة التي جدت بالمحكمة المذكورة الإثنين الماضي من النقابات الأمنية التي ما فتئت تثبت في كل مرة تغولها على الدولة، حتى باتت بلا حسيب ولا رقيب حسب منتقديها.
وشهدت المحاكم التونسية تأخير انطلاق الجلسات مدة ساعتين، فيما نفذ كل من القضاة العدليين والإداريين والماليين، وقفة احتجاجية، بالزي القضائي أمام المحكمة الابتدائية ببن عروس التي شهدت الحادثة.
محاصرة مقر محكمة
تعود وقائع الحادثة المذكورة التي كانت سببًا مباشرًا في إعلان قضاة تونس اليوم، “يوم غضب”، إلى إقدام العشرات من العناصر الأمنية المحسوبة على النقابات الأمنية على محاصرة مقر المحكمة الابتدائية ببن عروس بالضاحية الجنوبية للعاصمة بأسلحتهم وأزيائهم وسياراتهم المهنية، بسبب إحالة 5 أمنيين من زملائهم إلى التحقيق من أجل شبهة تعذيب، مطالبين بضرورة الإفراج عنهم.
دعت النقابة جميع الأمنيين إلى عدم المثول مستقبلاً أمام الجهات القضائية بخصوص القضايا المرتبطة بممارستهم لمهامهم الأمنية
وكان القضاء قد فتح تحقيقًا ضد 5 عناصر من الشرطة، إثر شكوى تقدم بها أحد الموقوفين عن طريق محاميه على خلفية تعرضه لاعتداءات جسدية، وكذلك بناء على ما تضمنه تقرير الطبيب الشرعي الذي أثبت تعرض المشتكي للعنف الذي نجم عنه وجود 22 كدمة في جسده، فضلاً عن إصابته بجروح أخرى في يديه نتيجة شظايا بلورية، وأمام الضغط، انتهت الجلسة بإطلاق سراح الموقوفين، وقادت بعدها النقابات الأمنية “مسيرة انتصار” احتفالية.
وجاء التجمهر بعد دعوة نقابة موظفي الإدارة العامة للأمن العمومي إلى “الاستنفار والحضور” بكثافة أمام المحكمة، ودعوتها جميع الأمنيين إلى عدم المثول مستقبلاً أمام الجهات القضائية بخصوص القضايا المرتبطة بممارستهم لمهامهم الأمنية.
استنكار واسع
هذه الحادثة أثارت استنكار العديد من الأحزاب والمنظمات المدنية في تونس، حيث وصف المجلس الأعلى للقضاء في تونس تجمهر أمنيين حاملي السلاح أمام المحكمة الابتدائية بمدينة بن عروس بـ”ضرب استقلالية السلطة القضائية” وطالب بتركيز جهاز أمني لـ”حماية المحاكم”، فيما دعت رابطة حقوق الإنسان وزارة الداخلية إلى تحمل مسؤوليتها و”فتح تحقيق جدي”.
وقال المجلس الذي يعتبر أعلى هيئة قضائية في تونس إن من شأن هذه الممارسات زعزعة الثقة في الجهاز القضائي بما يهدد مقومات وأسس النظام الجمهوري الديمقراطي، محملاً السلطة التنفيذية المسؤولية عن تدهور الوضع الأمني بالمحاكم.
فيما أثار التجمهر غضب نقابة القضاة، معتبرةً إياه “ضغطًا مباشرًا على القضاء” مشددة على أنه يشكل تجاوزات ترقى إلى مرتبة الجرائم المنظمة وتتطلب التصدي لها ولمرتكبيها، وفق القانون، لضمان عدم تكرارها، وحملت النقابة الحكومة مسؤوليتها في تأمين المحاكم وممارسة صلاحياتها الرقابية والتأديبية بما يضع حدًا لمثل هذه السلوكيات المخالفة لمبادئ دولة القانون.
وذهبت النقابة إلى حد القول بأن التغاضي عن مثل هذا التجمهر يشكل تواطؤًا سلبيًا، مشددة على أنه سيقع النظر في التحركات الممكنة، في صورة عدم تأمين المحاكم حالاً، واتخاذ الإجراءات الملائمة إزاء مرتكبي مثل هذه الاعتداءات.
رفض كبير لممارسات النقابات الأمنية في تونس
من جهتها قالت الرابطة التونسية لحقوق الإنسان إن التجمهر يمثل اعتداءً صارخًا على استقلال السلطة القضائية وتدخلاً سافرًا في أعمال القضاء واعتداءً مباشرًا على حرمة المحاكم وقضاتها، كما أنه يساهم في زعزعة الثقة في الجهاز القضائي.
ودعت الرابطة إلى فتح تحقيق، وحملت السلطة التنفيذية ووزارة الداخلية مسؤولية الأحداث واتخاذ التأديبات اللازمة لوضع حد لتغول بعض الأمنيين وبعض النقابات بتحريضها على استعمال العنف وعدم الامتثال لقرارات القضاء.
كذلك أصدرت سبع منظمات وطنية، من بينها النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان والجمعية التونسية للمحامين الشبان، بيانًا مشتركًا، نددت فيه بتغول ما يسمى النقابات الأمنية التي باتت تشكل تهديدًا واضحًا على السلم الاجتماعي في الوطن، وحمّلت السلطة التنفيذية مسؤولية تطهير السلك الأمني ومحاسبة من ثبتت إدانتهم.
بدورها عبرت حركة النهضة الشريك في الائتلاف الحاكم في بيان لها عن “رفضها لما صدر عن بعض المحسوبين على بعض النقابات الأمنية من تحرك في محكمة بن عروس ومحاصرة لمقرها”، مؤكدة ضرورة وضع حد لهذه التصرفات التي تضعف الدولة وتسيء لصورة تونس، ونبهت الحركة في نفس البيان لخطورة بعض التصرفات المنفلتة وإساءتها لصورة المؤسسة الأمنية ودورها الجمهوري وتدعو الى محاسبة المسؤولين عن ذلك.
“تمرد” متواصل
حادثة محاصرة المحكمة وتهديد الأمن البلاد، لم تكن الحادثة الأولى التي تستهدف مؤسسات الدولة التونسية، ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، هددت النقابات الأمنية برفع الحماية الأمنية عن نواب البرلمان ورؤساء الأحزاب الممثلة في مجلس نواب الشعب، في حال لم يتم عرض مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح أمام أنظار النواب في جلسة عامة في ظرف 15 يومًا.
وقبل ذلك، قامت بعض العناصر المحسوبة على النقابات الأمنية بطرد “الرؤساء الثلاث” من ثكنة العوينة سنة 2013، وهم على التوالي رئيس الدولة، حينها، منصف المرزوقي ورئيس الحكومة علي العريض ورئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر، وهي الحادثة التي كشفت للرأي العام خطورة بعض النقابات الأمنية المسيسة على الانتقال الديمقراطي في البلاد.
كثيرًا ما نظمت النقابات الأمنية مظاهرات ومسيرات وقفات احتجاجية أمام قصر الحكومة بالقصبة والجمهورية بقرطاج والبرلمان بباردو
وبعد أقل من 3 سنوات من تلك الحادثة، خرج مئات الأمنيين في مسيرة غاضبة للمطالبة بتحسين أوضاعهم الاجتماعية، لكن سرعان ما تحول الأمر إلى ترديد شعارات سياسية تطالب بطرد رئيس الحكومة حينها، حبيب الصيد، قبل أن يقتحموا قصر الحكومة بالقصبة ويتسلقوا بعض جدرانه، في حادثة دفعت وزارة الداخلية ورئاسة الحكومة إلى فتح بحث تحقيقي بشأن ما حدث لكن دون نتائج تذكر.
وفي صائفة العام الماضي، عرف تمرد النقابات الأمنية شكلاً جديدًا، حيث ألغت هذه النقابات دون وجه حق، حفلات أحد فناني الراب (تونسي) من المهرجانات التونسية، نتيجة تأديته لأغنية راب تنتقد بعض تصرفات قوات الأمن، كما أجبرت هذه النقابات المشرفين على أحد أكبر المهرجانات في تونس على منحهم وعائلاتهم تذاكر دخول مجانية للحفلات بعد أن هددتهم بعدم تأمين حفلات المهرجان حال لم يتم الاستجابة لمطلبهم.
وكثيرًا ما نظمت النقابات الأمنية مظاهرات ومسيرات وقفات احتجاجية أمام قصر الحكومة بالقصبة والجمهورية بقرطاج والبرلمان بباردو، في تحدٍ لقانون الطوارئ المعمول به في تونس الذي يحجر الاجتماعات التي من شأنها الإخلال بالأمن أو التمادي في ذلك وكل مخالفة لأحكام هذا الأمر تعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين ستة أشهر وسنتين وبخطية تتراوح بين 60 دينارًا و2500 دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط.
علاقة النقابات الأمنية بالدولة؟
هذه الحادثة وسلسلة التهديدات السابقة التي أصدرتها هذه النقابات ونفذت بعضها دون محاسبة القائمين عليها، تؤكد حسب عديد من المتابعين للشأن العام في البلاد، ابتعاد النقابات الأمنية عن أهدافها المهنية ودورها الاجتماعي، إلى فرض إملاءاتها على مؤسسات الدولة وتقزيم عملها أو حتى إلغاء وجودها وأخذ دور بعضها.
النقابات الأمنية في تونس تحولت إلى وسيلة لإرباك عمل الحكومات المتعاقبة في البلاد ومؤسسات الدولة وتهديد لوحدة وانضباط المؤسسة الأمنية
ويعتبر المرسوم 42 المؤرخ في 25 من مايو 2011 في عهد حكومة الباجي قايد السبسي، أول مرسوم حكومي يسمح بإنشاء نقابات أمنية وينص هذا المرسوم في الفصل 11 منه على الآتي: “لأعوان قوات الأمن الداخلي الحق في ممارسة العمل النقابي، ويمكن لهم لهذا الغرض تكوين نقابات مهنية مستقلة عن سائر النقابات المهنية واتحاداتها، يحجر على أعوان قوات الأمن الداخلي، في ممارستهم العمل النقابي الإضراب عن العمل أو تعطيل سيره بأي وجه”، وتشكلت منذ ذلك الوقت أكثر من 5 هيئات نقابية أمنية في مختلف الفروع الأمنية التونسية.
تتسم العلاقة بين النقابات الأمنية ومؤسسات الدولة بالتوتر
يؤكد العديد من الخبراء، أن النقابات الأمنية في تونس تحولت إلى وسيلة لإرباك عمل الحكومات المتعاقبة في البلاد ومؤسسات الدولة وتهديد لوحدة وانضباط المؤسسة الأمنية، حتى إن علاقة هذه النقابات مع مؤسسات الدولة أصبحت تقوم على الابتزاز وتبادل المصالح، وكثيرًا ما لجأت هذه النقابات الأمنية إلى التصريح للإعلام بمعطيات أمنية حساسة تمس الأمن القومي للبلاد، دون أن تتحرك السلطات للمحاسبة.
وتعتبر تونس واحدة من بين الدول القلائل في العالم والوحيدة في العالم العربي التي سمحت بالعمل النقابي الأمني بشرط ألا ينخرطوا في العمل السياسي وتقتصر مطالبهم واهتماماتهم على تحسين الوضعية الاجتماعية لمنخرطيهم كما لا يمكنهم الانضمام إلى المنظمات الشغيلة، إلا أن هذه النقابات تجاوزت ذلك.