بداية الجدل
بثت هيئة الإذاعة البريطانية، بي بي سي، في الـ24 من فبراير الماضي، فيلمًا عن “سحق المعارضة في مصر”، حمل الفيلم شهادة والدة فتاة تسمى “زُبيدة”، تقول الأم إنها مختفية منذ أبريل/نيسان من العام الماضي، حكت الأم في المقطع تفاصيل اعتقال زبيدة التي جرت عام 2014، وأنها تعرّضت لتعذيبٍ وانتهاكات جسدية ونفسية كبيرة.
بدايةً، لا شك أن النظام المصري الحاليّ يقوم تقريبًا بكل انتهاكات حقوق الإنسان التي نصت عليها المعاهدات الدولية، من اعتقالٍ تعسفي وعشوائي، لإخفاء قسري، وتصفية جسدية، ناهيك عن المحاكمات التي تفتقر لأقل سبل العدالة، وكذلك المحاكمات العسكرية للمدنيين واستمرار الحبس الاحتياطي، وتقوم آلة النظام الإعلامية بالتحريض على المعارضين للنظام والتحريض على امتهان كرامتهم الإنسانية.
مثلًا، في أثناء كتابة هذا المقال، وصلتنا أخبار من القاهرة، تفيد باعتقال أم زبيدة من منزلها، بعد أن أكدت شهادتها لبي بي سي.
كل هذا غير مستغرب بالنسبة للنظام المصري الذي اعتمد الإخفاء القسري كوسيلة تعامل مع المعارضين له، عشرات الحالات، صحفيين وناشطين وباحثين ومواطنين لا ناقة لهم ولا جمل في الصراع السياسي الدائر في مصر، كل هذا عادي، أما غير العادي الذي مثل مفاجأة لكل المتابعين، إعلان الإعلامي عمرو أديب، مساء الإثنين الماضي، إجراء حوارٍ مع “زبيدة” التي تدعي بي بي سي أنها مختفية قسرًا.
ظهرت والدة زبيدة، بعد حوار أديب بيوم واحد على قناة مكملين، ذكرت فيه أنها تعرف سعيد وجمعهما تعاون سابق، عن طريق استكمال سعيد، لكفالة زبيدة من قسم شرطة العجوزة، الذي قبض عليها منه، حينما ذهبت لاستخراج “فيش وتشبيه”
ظهرت زبيدة، وبجانبها شخص اسمه سعيد، قالت إنه زوجها ومتزوجان منذ مارس من العام الماضي، أي قبل إعلان اختطافها بشهر تقريبًا، وأظهر أديب صورة عقد الزواج مؤكدًا أن شقيق زبيدة الأكبر، شاهد على هذا العقد، بصفته وليها، كما ظهر طفل على قدم سعيد، ادعى الثلاثة أنه لم يتجاوز الـ15 يومًا، كما ادعى أديب أن المقابلة تجري في منزل سعيد، في منطقة فيصل بالجيزة، وأن المنزل ملكه، وأضاف سعيد، أنهم سينتقلون اليوم أو غدًا للعيش في بيت آخر يملكونه.
تتابعت المعلومات من حوار أديب، لتضيف تضاربًا واضطرابًا غير محسوب في سياق القصة، يزيد على الاضطراب الحاصل من إعلان ظهور البنت المختفية معه في برنامجه.
وقبل البداية في تحليل وسرد المعلومات التي حصلنا عليها عن طريق مصادرنا الموثوقة داخل مصر وخارجها، أحتاج للتأكيد على عدة أمور مهمة، نحن هنا لسنا في معرِض إدانة لا زبيدة ولا والدتها، سعينا في هذا التقرير لتوخي الحذر كثيرًا والتعامل مع كم هائل من المعلومات يتضارب بعضها البعض محاولين الاستناد على ما يسعنا تأكيده فقط من مصادرنا الموثوقة.
مصدر خاص ذكر لـ”نون بوست”، أن زبيدة تعرضت لاغتصاب داخل مقر الاحتجاز الذي جرى توقيفها فيه، فترة الـ28 يومًا، التي تحدثت عنها الأم، وهذا الاغتصاب نتج عنه حمل
ظهرت والدة زبيدة، بعد حوار أديب بيوم واحد على قناة مكملين، ذكرت فيه أنها تعرف سعيد وجمعهما تعاون سابق، عن طريق استكمال سعيد لكفالة زبيدة من قسم شرطة العجوزة الذي قبض عليها منه حينما ذهبت لاستخراج “فيش وتشبيه”، وأيضًا قالت، إنها تحدثت قبل خمسة أشهر مع سعيد هاتفيًا، وسألته عن ورود أي معلوماتٍ له عن مصير ابنتها، لكنه عاد لها لينفي.
وهنا، فنحن أمام روايتين: الأولى لأم زبيدة التي تنكر كل ما جاء على لسان ابنتها في الحوار، والثانية رواية عمرو أديب الذي عاد وأكد أنه التقى زبيدة وزوجها في مقر للأمن تابع لوزارة الداخلية، وليس بيتها.
“فعلوا بها كل ما يُغضب الله”
في مقابلتها مع بي بي سي، قالت أم زبيدة إنه حينما تعرضت ابنتها للإخفاء القسري للمرة الأولى في الـ15 من يوليو عام 2016، في فترة استمرت 28 يومًا، وجدت جروحًا على جسدها، وعلامات صعق بالكهرباء، وأخبرتها أنهم اعتدوا عليها، “لقد فعلوا بها كل شيء يغضب الله، كل شيء”.
بعد ذلك، تغيرت زبيدة ولم تعد ودية ومؤنسة، حيث أكدت والدتها أنها “لم تعد ترغب في رؤية الناس، وحاولت عزل نفسها، في الحقيقة، لم تعد سعيدة كما في الماضي، وأصبحت تختبئ تحت السرير وتصرخ؛ لذلك توجب علينا أخذها إلى مستشفى الأمراض النفسية”.
“كانت مدمرة نفسيًا، وحالتها النفسية والجسدية تحتاج لرعاية، وساعدتها الطبيبة في دخول مستشفى للأمراض النفسية قضت فيها ثلاثة أشهر، وبعدها علمنا من والدتها أنها اعتقلت للمرة الثانية”، يقول المصدر، ويؤكد هنا رواية الأم التي أكدت ذلك في المقابلة
هنا، بدأنا البحث، مصدر خاص ذكر لـ”نون بوست”، أن زبيدة تعرضت لاغتصاب داخل مقر الاحتجاز الذي جرى توقيفها فيه، فترة الـ28 يومًا، التي تحدثت عنها الأم.
وتابع المصدر أن هذا الاغتصاب نتج عنه حمل، كان على زبيدة التخلص منه عن طريق إحدى الطبيبات “الموثوقات”، ففي سبتمبر عام 2016، وبعد خروج زبيدة من مقر أمن الدولة بنحو شهرين من توقيفها – حسب رواية الأم -، ذهبت لهذه الطبيبة التي أجرت لها فحص “سونار”، أثبت أن في بطنها جنين عمره شهرين.
ويضيف مصدرنا، أن هذه الطبيبة المسؤولة عن هذا النوع من الحالات، حينما تتعرض بنت للاعتداء داخل مقر احتجاز، فإن هذه الطبيبة تتعامل مع الحالة، سواء كانت البنت عذراء، فسيتعلق الأمر بإجهاض الجنين، في حالة وجود حمل أو القيام ببعض العمليات التي تتعلق بالعذرية، وإذا لم تكن البنت عذراءً قبل الاعتداء، متزوجة أو أرملة أو مطلقة، فسيتلزم الأمر إجهاض الجنين فقط.
“كانت مدمرة نفسيًا، وحالتها النفسية والجسدية تحتاج لرعاية، وساعدتها الطبيبة في دخول مستشفى للأمراض النفسية قضت فيها ثلاثة أشهر، وبعدها علمنا من والدتها أنها اعتقلت للمرة الثانية”، يقول المصدر، ويؤكد هنا رواية الأم التي أكدت ذلك في المقابلة.
هناك تساؤل آخر، ظهرت أم زبيدة تنفي ما جرى على لسان ابنتها، لماذا لم يظهر شقيق زبيدة الأكبر بنفسه لينفي أنه لم يقم بالشهادة على وثيقة الزواج وأنه لم يحضر العقد؟
أخبرنا مصدرنا، نظرًا لقربه من دوائر لجان متابعة ملف المعتقلين على ذمة قضايا تتعلق بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، أن حالة زبيدة ليست الحالة الأولى التي يثبُت تعرضها للاغتصاب، عمليًا، تتعرض كل الفتيات في مقرات الاحتجاز المصرية إلى أشكال متعددة من الاعتداء، تبدأ بالاعتداء اللفظي وقد تصل إلى التحرش الجسدي والاغتصاب، “التعامل مع هذه الحالات يتم بسريةٍ تامة، حتى إن جزءًا كبيرًا من الأهالي ليسوا على دراية بما حدث، خصوصًا أننا في مجتمع محافظ، له من العادات والتقاليد ماله”.
توقف مصدرنا عن سرد المعلومات التي لديه، حتى إعلان الأم اعتقال ابنتها للمرة الثالثة، مما دفعنا لسلك مسارٍ آخر، قد يكون منافيًا تمامًا لرواية الأم.
روايةٌ أخرى
ذكرت الأم، أن جيرانها قد أخبروهم، أن رجالاً مسلحين وملثمين جاؤوا في سيارة للشرطة وأخذوها وكان لدى ابنتها الهاتف المحمول لشقيقها الأصغر الذي تمكنت من خلاله من إجراء مكالمة سريعة لأحد أقربائها الذي قال إنه سمع الشرطة تعرضها للإهانة.
تكاد تكون هذه الرواية بها بعض الشكوك، خصوصًا أنه لا يوجد نشاط سياسي لزبيدة، يجعلها تتعرض لكل الأشكال من القمع، عُدنا مرة أخرى لمقابلة عمرو أديب التي أجراها مع زبيدة وزوجها.
في المقابلة، عرض أديب وثيقة زواج تجمع بين زبيدة وسعيدة، يشهد عليها شقيقها الأكبر؛ مما دفعنا أكثر للتشكيك برواية أم زبيدة، حيث إنه من المستحيل أن يكون شقيق زبيدة يعلم أنها متزوجة ولم يخبر والدتها، أنها فقط على قيد الحياة أو أنها فقط بخير، لكن يبدو أن عدم رضا الأم عن هذه الزيجة قد يكون دفعها لاختلاق هذه الرواية، خصوصًا أنها ستصدق، حيث تعرضت بالفعل زبيدة للتوقيف والإخفاء القسري.
فاجأنا، مصدر إخواني سابق، ترك الجماعة عام 2017، أن سعيد كان ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين وكان ضمن المسؤولين عن تنظيم التظاهرات وتأمينها في منطقة الوراق بالجيزة
يمكن مثلًا تلمّس ذلك التخمين، من لقاء أديب أيضًا، حينما سأل سعيد عن إمكانية أن تزور أم زبيدة ابنتها فأخبره سعيد “تيجي، بس بالأدب”، أيضًا هناك تساؤل آخر، ظهرت أم زبيدة تنفي ما جرى على لسان ابنتها، لماذا لم يظهر شقيق زبيدة الأكبر بنفسه لينفي أنه لم يقم بالشهادة على وثيقة الزواج وأنه لم يحضر العقد؟
دفعتنا هذه الشكوك، للبحث عن مصدر قريب الصلة بجماعة الإخوان المسلمين في محافظة الجيزة، وبالخصوص في منطقة فيصل التي قيل في مقابلة أديب، إن زبيدة وزوجها يعيشان هناك.
قبل شهر، التقيت بأحد الحقوقيين المصريين العاملين في الملف منذ سنوات، الذي يرأس مركزًا حقوقيًا مهتمًا بتوثيق الانتهاكات التي يتعرض لها المعارضون في مصر، سألت الرجل بالاسم عن حالة زبيدة، كان رد الرجل صريحًا أنهم لم يوثقوا حالتها وأنهم لا يعلمون شيئًا عن قصتها، ففي قصتها بعض العوار الذي يشوبها وبناءً عليه لم ينشر مركزه ومراكز أخرى، أي شيء عنها.
زاد فضولي، فطلبت منه التأكد، فأرسل لإحدى الزميلات العاملات في الملف بشكل محدد، وأراني الرسالة على هاتفه، وكانت موافقة تمامًا لما أخبرني به، وهو أنهم لم يتوصلوا إلى أنها مختفية لسببٍ سياسي أو أمني، مؤكدًا أن التوثيق له مراحل يمر بها، وتختبر القصة عن طريق أكثر من طريقة، حتى تتأكد صحة وجود الإخفاء أم لا.
يستكمل المصدر، أنه يرجّح أن سعيد عرض الزواج على زبيدة سترةً لها، لكن أمها رفضت هذا الأمر، مما دفعهم للزواج سرًا بمعرفة الأخ الأكبر فقط دون باقي الأسرة
فاجأنا، مصدر إخواني سابق، ترك الجماعة عام 2017، أن سعيد كان ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين وكان ضمن المسؤولين عن تنظيم التظاهرات وتأمينها في منطقة الوراق بالجيزة، وهو على علاقة وثيقة بأسرة زبيدة، وكانت تربطهم علاقات جيدة.
يستكمل المصدر، أنه يرجّح أن سعيد عرض الزواج على زبيدة سترةً لها، لكن أمها رفضت هذا الأمر، مما دفعهم للزواج سرًا بمعرفة الأخ الأكبر فقط دون باقي الأسرة.
لكننا بهذا الترجيح واجهنا مصدرنا بعدد من الأسئلة كانت كالتالي: هل من المنطقي أن تظل الأم تبحث عن ابنتها لأكثر من عشرة أشهر دون أن يخبرها الأخ أو الزوج؟ ألم تفكر زبيدة للحظة واحدة، أن تتصل بأمها لتخبرها فقط أنها بخير؟ وهي الأسئلة التي لم يجب عنها مصدرنا.
نحن أمام حالة للأسف، مصدرها الأساسي وسبب مشكلتها انعدام الشفافية التي ينتهجها النظام المصري، إضافةً إلى استمرار القمع تحت كل الذرائع، لكن تقارير عالمية، تثبت كل يوم، ارتكاب النظام المصري لجريمة الإخفاء القسري وجريمة الاعتقال التعسفي وجريمة التحريض والعنف الممنهج ضد المعارضين، كلها حقائق لن تنفيها قصةٌ أو اثنين، لم يثبت كذبهما.