كتب أحد رواد وادي السيليكون السابقين آندرو كين في كتاب له عنوانه “كيف يقتل الإنترنت إبداعنا؟” عن ثقافة “الأي شيء” الذي وصفها بعد ملاحظته للاتجاه الذي يسير عليه المحتوى الرقمي على الإنترنت، وخصيصًا التدوين من خلال مقاطع الفيديو المصورة على يوتيوب.
لم يؤمن الكاتب كين بمبدأ “حكمة المجموعة” التي بُني عليها أغلب محتوى الإنترنت الرقمي، إذ رأي أنه من شأنها أن تُدمر المحتوى المحترف والإبداعي وتفسح المجال أمام الإسفاف في المحتوى.
يُعتبر كتاب “كيف يقتل الإنترنت إبداعنا” نظرة مستقبلية لما سينتشر من محتوى رديء الجودة على منصات التدوين الرقمي وأهمها يوتيوب، إذ نُشر الكتاب مع بداية التدوين الرقمي على الإنترنت في عام 2007، إلا أن توقعاته لك تبعد كثيرًا عما انتهى إليه شكل التدوين الرقمي في أيامنا الحاليّة، لتتحول “ثقافة الإنترنت” إلى ثقافة يتخللها محتوى رديء الجودة.
استطاعت سياسة التدوين على يوتيوب (vlogs) جذب ملايين المستخدمين حول العالم من أجل نشر محتوى خاص بهم على قنواتهم على المنصة، وساعدهم ذلك على ربح الأموال من خلال الإعلانات وتخطي أعداد المشاهدات الملايين، مما دفعهم إلى الاعتماد على أكثر الطرق التي تجذب المشاهد للمحتوى الموجود على يوتيوب، للاستفادة من صيحة “النقر” وهي جذب عدد كبير من المشاهدين للنقر لمشاهدة المحتوى فور قراءتهم لعنوانه، وهو ما يكون في الأغلب محتوى للتسلية لا أكثر يعتمد على المقالب والنكات أو محتوى جنسي يعتمد على استغلال جسد المرأة بشكل خاص لجذب ملايين المشاهدات.
يُسمي خبراء التدوين الرقمي المحتوى رديء الجودة على أنه محتوى سهل وغير معرفي
بينما يستخدم الكثيرون التدوين الرقمي على منصات الإنترنت المختلفة لعرض محتوى متنوع في جميع المجالات ويخص كثير من الفئات العمرية والطبقات المجتمعية، يستخدم آخرون المنصات نفسها للترويج لمحتوى مُسف، وهو ما يسميه خبراء التدوين على الإنترنت بـ”المحتوى السهل”، وهو المحتوى الذي يبعد تمامًا عن توصيف المحتوى المعرفي أو الثقافي، ويقترب أكثر من المحتويات التي يصفها البعض بالتافهة أو رديئة الجودة التي تعتمد على جذب المشاهد للنقر على زر مشاهدة فقط لجلب مزيد من المشاهدات.
أين المحتوى العربي على الإنترنت؟
على الرغم من بلوغ عدد المتصفحين العرب على الإنترنت ما يُمثل 5% من عدد المتصفحين بشكل إجمالي، فإن المحتوى العربي على الإنترنت لا يُمثل سوى 3% من إجمالي المحتوى الرقمي على الإنترنت، ومع انتشار التدوين الرقمي بشكل واسع بين المستخدمين، كان جزءًا كبيرًا من هذا المحتوى العربي محتوى رديء الجودة، اعتمد فيه المستخدمون على التقليد الأعمى للمحتويات الغربية، بل حاولوا إنتاجها بلغات غير عربية لتوائم المشاهد من كل الجنسيات وتساعد صاحب المحتوى على نشر مدوناته بشكل أكبر ليحصد عدد أكبر من المشاهدات.
لم تكن قناة “يوتيوب سبيس دبي” الوحيدة التي تثري المحتوى العربي على الإنترنت من خلال المحتوى رديء الجودة وغير المعرفي أو غير المرتقي
يقول لانس بوديل مدير “يوتيوب سبيس” في أحد لقاءاته عن “يوتيوب سبيس دبي”، أول إستديو خاص بيوتيوب في الشرق الأوسط، إن منطقة الشرق الأوسط تتمتع بأكثر المجتمعات حيوية على يوتيوب، ولديها العديد من مقدمي المحتوى الموهوبين هناك، كما أن التعاون مع مدينة دبي للإستوديوهات سيساعد على تقديم الدعم القوي لمُقدمي المحتوى المبدعين، وأيضًا سيعمل على استمرار نمو المحتوى العربي على شبكة الإنترنت.
على الرغم من التوقعات المتفائلة التي توقعها الجمهور العربي حيال إنتاج “يوتيوب سبيس دبي”، فالنتيجة كانت مخيبة للآمال، إذ ركزت القناة إنتاجها من المدونات على يوتيوب (Vlogs) على تزييف الواقع العربي من خلال مدونات للتفاخر بأفخم السيارات التي يشتريها الناس في الإمارات وعن أغلى أنواع مستحضرات التجميل وكيفية استخدامها، أو عن حياة أغنى أغنياء أطفال العرب المُرفهة.
لم تكن قناة “يوتيوب سبيس دبي” الوحيدة التي تعرض المحتوى العربي على الإنترنت من خلال المحتوى رديء الجودة وغير المعرفي أو غير المرتقي، لقد انتشر الإسفاف في المحتوى العربي من خلال التدوين الرقمي بشكل فيروسي (Viral) بين المستخدمين من مختلف الجنسيات والأعمار.
احتفل المدوّن “عيساوي“ من فلسطين بوصول مشاهدات مقاطع الفيديو التي يصورها لنفسه إلى أكثر من مليون مشاهدة، وإن ألقيت نظرة على هذا المحتوى الذي يحتفل بوصوله لعدد ضخم من المشاهدات ستجد أنه لن يخرج عن إطار التحديات والمزح والمقالب التي يقوم بها مع عائلته أو أصدقائه أو غرباء في الشارع.
أما عن “محمود بيطار” فلم يكن محتوى قناته على يوتيوب بعيدًا كثيرًا عن المحتوى الذي تُقدمه قناة “يوتيوب سبيس دبي”، حيث يتمحور محتواه الذي يتابعه مئات الآلاف من المتابعين على الحياة المرفهة، وبالأخص في منطقة الخليج أو للمواطنين الخليجيين وتحديدًا في مدينة دبي، إلا أنه تطور في محتواه قليلًا ليعرض ما لا تستطيع قناة رسمية مثل “يوتيوب سبيس دبي” عرضه، وهو “التنمّر”.
استطاع العديد من المدونين الشخصيين اكتساب ملايين من المشاهدات لمقاطعهم على منصة يوتيوب من خلال التنمر والسخرية من المحتوى الذي ينشره مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، في هذا المقطع يتنمر “محمود بيطار” من مقطع انتشر على تلك المواقع، واتخذ منه مادة جيدة للتربّح من يوتيوب من خلال المشاهدات المتزايدة لمحتوى يُصنف في ثقافة الإنترنت أنه محتوى رديء الجودة.
لم يسلم الأطفال والمراهقون من انتشار ثقافة المحتوى الرديء الجودة على يوتيوب، بل صاروا أيضًا من بين المدونين الساعين نحو ذرع يوتيوب، والوصول إلى عشرات الملايين من المشاهدات لما يصورنه من مقاطع للفيديو لا يخرج محتواها عن المزحات والمقالب والتحديات.
هنا قناة “دايلر” لأحد المراهقين الذي وصلت المشاهدات على قناته لعشرات الملايين من المشاهدات، لا تحتوي فيديوهات “دايلر” على قيمة حقيقة، بل مجرد تصوير لحياة مُقدمها المرفهة يتخللها مجموعة من التحديات والمقالب بين المراهقين وبعضهم، تكمن مشكلة هذا النوع من المحتوى على المدونات الرقمية (vlogs) إلى تأثيره السلبي على المشاهدين الأطفال، إذ إنه يحفزهم على فعل المثل باعتباره قدوة لهم وسيودون تقليده ليصلوا إلى نفس مستوى الشهرة التي وصل صانع المحتوى إليهم.
يقوم دايلر في هذا المقطع بتشجيع الأطفال مثله على ترك المدرسة، لأن التعليم لن يفيدهم في حياتهم المستقبلية، والأهم هو البحث عن وسيلة لربح الكثير من المال.
لا يتكون المحتوى العربي على يوتيوب من هذه الفئة فحسب، فهناك أمثلة عديدة لقنوات تحاول تقديم محتوى راقٍ وثقافي يثري المحتوى العربي على الإنترنت بشكل إيجابي، منصات مثل الدحيح الذي يتناول العلوم الفيزيائية والفلسفية بشكل ممتع، أو منصة أخضر التي تحاول دمج المعلومات الموجودة في الكتب مع التقنيات البصرية الممتعة، أو منصة الأسبتالية وهي منصة تقدم محتوى طبي بشكل مُبسط، أو منصة ألش خانة التي تُقدم محتوى سياسي بشكل ممتع منذ ثورة يناير المصرية.
على الرغم من أن محتوى تلك المنصات الأخيرة يفوق في المستوى المعرفي والثقافي المنصات الأخرى التي تُقدم المحتوى السهل الرديء الجودة، فإن أعداد المشاهدات فيها لا تصل إلى نصف أعداد المشاهدات التي يتربح من ورائها أصحاب المحتويات التي يصفها البعض بالساذجة، والتي تثير حفيظة المهتمين بجودة المحتوى العربي على الإنترنت، حيث يرونها تقتل الروح الإبداعية والإيجابية للمحتوى العربي.