المطلع على فترة الحكم العثماني والمهتم بتاريخ الخلافة الإسلامية ككل يعرف جيدًا أن الكتابة في تلك المنطقة التاريخية تحديدًا تتسم بشيء من الملائكية والرومانسية التاريخية التي تعرض الخلفاء والقادة المسلمين غاية في العدل، غاية في الحكمة، غاية في الشجاعة والذكاء، وتتجاهل الكثير من الحقائق المتعلقة بهذا العصر وأنه اتسم ببعض الموبقات والأخطاء شأنه شأن أي دولة فعلت الصواب وارتكبت الخطأ أيضًا.
رواية “رحلة نصر الدين”، واحدة من تلك الأعمال المتعلقة بفترة حكم الخلافة العثمانية، عمل أدبي جديد نشر هذا العام، وتعرضت في سردها لحقبة نهاية الدولة العثمانية وبعض أحداث سقوطها التي انقسمت بين العثمانيين من جهة والانجليز من جهة والعرب من جهة ثالثة.
ثلاث فصول هي قوام الرواية التي تحدث في الرحلة الأخيرة لقطار الحجاز، التي خرجت من إسطنبول متوجهة للمدينة المنورة، الرحلة التي لم يُكتب لها وصول والوجهة التي لم تبلغها أبدًا.
رستم، يحيى، فاطمة، عباس وآخرون، هم أبطال الرواية، البعض يتحدث بنفسه والبعض يروى عنه، يقلهم جميعهم قطار الشرق، لكل شخص فيهم حكايته الخاصة المختلفة عن الآخرين لكن رابطًا خفيًا، يربطهم جميعًا دون أن يعلموا.
عن ظروف كتابة الرواية، يقول المؤلف “أيمن حويرة” الباحث في التاريخ الإسلامي: “بدأت القصة في الربع الأول من عام 2014، كانت الذكرى الـ90 لسقوط الخلافة قد مرت منذ أيام وما زال الوجع حاضرًا، كنت قد كتبت قبلها بعامين خاطرة قصيرة اسميتها “حكاية الشيخ نصر الدين والسبع بنات” لخصت فيها بإيجاز قصة الدولة الإسلامية منذ أسسها محمد صلى الله عليه وسلم وحتى سقوطها بعد ثلاثة عشر قرنًا، كان أبطالها أهم المحطات التي مرت بها الدولة الإسلامية بداية من المدينة المنورة، ومرورًا ببغداد ودمشق وغزة والقاهرة وإشبيلية والبوسنة وانتهاء بإسطنبول”.
حينها فكرت في أن أخرج بهذه الفكرة من ضيق الخاطرة إلى رحابة الرواية وأن استبدل بهذه الأبطال الرمزية شخصيات تتنفس، تحب وتكره، شخصيات تنبض بالحياه”
“بدا أن لعنة ما اصابت العالم الإسلامي كله ، وأن عصور السيادة قد انتهت –ربما بلا رجعة -، بل لم تتوقف المصائب عند هذا الحد ولم يكن الخطر أوروبيا فقط ، بل لقد انضم العرب لقائمة أعداء بني عثمان وأشعلوا ثورة في الحجاز تحت قيادة شريف مكة في 1916
الرواية متماسكة الأحداث وذات اللغة القوية ارتكزت على فكرة أساسية وهي عرض الأيام الأخيرة في عمر الخلافة الإسلامية بشكلها المجرد، عرض للأحداث والوقائع كما هي دون تجميل، أو التماس أعذار.
وعن تلك الركيزة يقول المؤلف: “لم تكن خارطة الدولة الإسلامية حينها تشي بسيطرة العثمانيين على مقاليد الأمور، لم تبدُ الدولة كدولة من الأساس. سقطت ليبيا فريسة للاحتلال الإيطالي عام 1911، وقبلها احتلت بريطانيا مصر، في الوقت نفسه التي أعلنت فيه فرنسا الحماية على المغرب. لم تكن الدولة بحاجة لمؤامرة من البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا بيكو لتنقسم إلى دويلات ترزح تحت نير الاحتلال، ولم تكن اتفاقيتهم هي مأساة دولة الخلافة الإسلامية في أواخر أيامها حيث بدا أن الدولة كانت لتسقط سقوطًا حرًا حتى ولو لم يكد لها الكائدون. لذلك لم يلق نصر الدين باللوم كله على المحتل الغربي، ولم يدّعِ أن العثمانيين كانوا ملائكة ولا العرب كانوا شياطين، وإنما حاول أن يترك المجال لمن ينوب عن كل منهم للدفاع عن نفسه، بل لم يكتف بذلك وإنما ترك النطق بالحكم النهائي في هذه القضية للجمهور، أحضر شهود النفي والإثبات، ووضع الجميع في قفص الأتهام، وجمع أقوال الجميع وشهادتهم وخطها في رحلته.. ورحل.”..
“ربما يكون الباشا السبب في ما نحن فيه، لو كان استسلم وترك المدينة دون معارك، لربما كان الوضع الآن أفضل كثيرا”
تلك الرواية هي العمل الأدبي الأول للكاتب، لذلك يطغى عليها الجانب التقريري أكثر من العاطفي، تمتلئ بكم غير قليل من المعلومات التاريخية والأحداث السياسية التي ساعدت في تشكيل المنطقة الآن، لذا فالقارئ سيجد فيها مادة دسمة تتطلب الكثير من الصبر والتركيز من أجل ربط الأحداث بعضها ببعضها وبشخصيات الرواية .
أيضًا بعض الوقائع السياسية تتطلب البحث والقراءة في الكثير من تفاصيلها من أجل الإلمام بما يرويه المتحدث وتخيل ما يدور حوله الحديث ومكانه من مواقع أثرية أو مناطق بعينها.
“أنا أحبك حقا، أكن لك إعجابا بالغا، لكني أعشق صربيا، أحلم بمملكة مترامية الأطراف، تضم كل أراضي السلافيين التي انتزعها أجدادك من أجدادك، انتزعها أجدادك المسلمين من أجدادك الصرب“
الرواية فتحت المجال أمام نوع جديد من الكتابة في التاريخ الإسلامي الذي يجب أن يُرى بمنظور الحياد والشفافية وهذا ما عبر عنه المؤلف بالقول: “رحلة نصر الدين هي رحلتي أنا، رحلتي مع التاريخ منذ قررت الانضمام يومًا لمدرسة “تاريخنا ناصع البياض” ومرورًا بمرحلة “لقد أخطأنا لكننا ما زلنا ملائكة” ووصولًا للإنزواء في عزلة مع قلة من من يؤمنون بضرورة كتابة التاريخ كما كان ومن يعتقدون ببشرية أبطاله، رحلتي التي لولا هذه الخاطرة التي تحولت إلى رواية لربما لم تكن بهذه الروعة ولا هذا الإخلاص، رحلتي التي أتمنى ألا تكون الرحلة الأخيرة”.