نقلت وسائل إعلامية عن نائب وزير الدفاع الأمريكي ديفيد تراشيتنبيرغ قوله “إن تفويض الكونغرس عام 2001 لمكافحة الجماعات الإرهابية المتطرفة، يأذن للولايات المتحدة بالبقاء في العراق وسوريا لأكثر من 20 سنة” وفي هذا الإعلان الصريح والبعيد عن التحفظات الدبلوماسية، تبدي الولايات المتحدة وبشكل صريح رغبتها بالبقاء إلى أمد غير محدد بالمنطقة، استدراكاً منها لحقيقة خسرانها لنفوذها بالمنطقة (أو تكاد) لصالح إيران وروسيا، بعد كل الجهود والأموال الطائلة التي بذلتها منذ 2003 وإلى الآن.
جهود التحالف الدولي تستثمرها طهران
التخويل المشار إليه، جاء بعد احداث ضرب برجي التجارة العالميين عام 2001، والذي يعطي للحكومة الامريكية الحرية بفعل ما هو مناسب لمحاربة الجماعات الإرهابية. وبموجبه احتلت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق، وعمدت الولايات المتحدة لتشكيل التحالف الدولي لمحاربة داعش. وفي ظل هذا التخويل ما زال جيش الولايات المتحدة يتواجد في أفغانستان وفي العراق، وفي سوريا. وبموجب هذا التخويل تقصف الطائرات المسيرة الامريكية في اليمن وفي الصومال وفي دول عربية وإسلامية أخرى.
أشارت الولايات المتحدة إلى أن هذه الحرب ستكون طويلة، وكانت حريصة لإيجاد المبررات القوية للاستيلاء على المنطقة، يشاطرها بهذا الهدف النظام الإيراني الذي بالرغم من انه لم يكن عضواً بهذا التحالف، إلا انه أصبح من أكبر المستفيدين من جهود هذا التحالف. فقد استطاعت الاستيلاء على الأراضي التي كانت بحوزة داعش في العراق ونسبة كبيرة من الأراضي التي بحوزة هذا التنظيم في سوريا.
واستثمرت طهران جهود التحالف للحفاظ على أنظمة حكم موالية لها في العراق وسوريا. للدرجة التي أصبح ظهور دولة إيرانية كبرى أمراً ليس بالبعيد، تمتد فيه من شبه القارة الهندية وتنتهي بالبحر الأبيض المتوسط.
السياسة المتخبطة لآخر ثلاثة رؤساء أمريكيين جعلت النفوذ الأمريكي بالمنطقة في أسوء حالاته
كانت الولايات المتحدة تأمل من حربها على الإرهاب تعزيز نفوذها وتقويته في المنطقة، لكنها وجدت نفسها في حالة تحجيم لهذا النفوذ لصالح روسيا وإيران في سوريا، ولصالح إيران حصراً في العراق. ووجدت الولايات المتحدة نفسها وحيدة في المنطقة، لا يواليها أحد على الأرض إذا ما استثنينا الاكراد. وحتى الكرد لم تعد علاقتهم بهم قوية بالدرجة الكافية كما كانت سابقة بسبب تداعيات الاستفتاء الكردي الفاشل على الاستقلال والذي رفضته أمريكا بشدة، وأكراد سوريا الذين تراهن عليهم أمريكا حالياً، كان ثمنه باهظاً حينما خسرت أقوى حليف لها وهو تركيا.
فهل نشهد أفول النفوذ الأمريكي بالمنطقة لصالح النفوذ الروسي وحليفته إيران؟ تلك الدولة التواقة لإعلان قيام إمبراطورتيها الفارسية المنشودة؟ وفي ذلك يقول ثعلب السياسة الامريكية هنري كيسنجر: “بمجرد هزيمة تنظيم داعش، واستيلاء إيران على المناطق المستعادة من هذا التنظيم، فإن النتيجة يمكن أن تؤدي إلى ظهور إمبراطورية إيرانية راديكالية جديدة”. الامر الذي بدأت إيران فعلاً للترويج له علناً، حينما قال عضو المجلس الأعلى للثورة الثقافية “حسن رحيم أزغدي”: “نتدخل في البلدان الصديقة لأمريكا، لنسقط أنظمتها وتصبح تحت سيطرتنا، وقد آن الأوان لإعلان إمبراطورية فارس، نعم نريد أن نقيم إمبراطورية”. فهل هناك وضوح أكبر من هذا التصريح ليصف حال التمدد للنفوذ الإيراني وانحسار النفوذ الأمريكي في المنطقة؟.
السياسة المتخبطة لأخر ثلاثة رؤساء أمريكيين جعلت النفوذ الأمريكي بالمنطقة في أسوء حالاته، ولم تستفيد من اسقاط الأنظمة في المنطقة، لكن إيران هي من استفادت، مدعومة من دولة كبرى هي روسيا التي تطمح هي الأخرى باستعادة نفوذها الغابر أيام الاتحاد السوفيتي، وقد عبر عن ذلك صراحةً الرئيس الروسي بوتين حينما قال: “إن زوال الاتحاد السوفياتي كان أكبر كارثة جيوسياسية حلت في القرن العشرين”. وبدلاً من أن تكون إيران الحليف الاوثق لأمريكا أصبحت من أكثر من منافسيها على النفوذ بالمنطقة، القول المأثور التقليدي القائل بأن عدو عدوك صديقك لم يعد ينطبق في الشرق الأوسط المعاصر، بل عدو عدوك قد يكون أيضا عدوك، كما عبر عن ذلك كيسنجر في مقالته الأخيرة.
لخّصت دراسة لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الاستراتيجية الأمريكية التي يجب اتباعها في العراق، وتمثلت بضرورة الإسراع في الحصول على ضمانة لبقاء القوات الأمريكية في العراق
الانتخابات العراقية القادمة وصراع النفوذ
لكن هل ما تقوم به الولايات المتحدة الآن من استدراك لخطأ استراتيجيتها بالشرق الأوسط، سيؤدي إلى لوقف تدهور نفوذها فيه، أم إن الأوان قد فات على ذلك؟ إن أكثر دولة من دول المنطقة التي يظهر فيها التنافس الإيراني الأمريكي بشكل واضح هو العراق، حيث تعول إيران على حسم موضوع العراق بشكل كامل لصالحها بسبب أهميته الكبرى لنجاح مخططها بالسيطرة على الشرق الأوسط.
ترامب يحاول أن يُنفذ نصائح كيسنجر بعد أن التقى به مؤخرًا لمناقشة قضايا الشرق الأوسط، تلك النصائح التي عبر عنها في مقاله الأخير بالقول:”إن الهيمنة المحتملة من قبل إيران هو التحدي الأكبر على الشرق الأوسط”، وهذا يفسر الجهود الحالية التي تبذلها الولايات المتحدة لتحجيم نفوذ إيران، لكنها تبقى جهود متواضعة لعدم امتلاك الولايات المتحدة أوراق قوة تستطيع استخدامها، يظهر ذلك جليًا في محاولتها الأخيرة في مجلس الامن لتحميل إيران مسؤولية امداد جماعة الحوثي بالأسلحة.
أما فيما يتعلق بالعراق فأن الامر أكثر صعوبة على الولايات المتحدة، فقد بدأت إيران مبكرًا بمحاولتها لإجلاء القوات الامريكية من العراق بعد ان استفادت من تلك القوات بالاستيلاء على الأراضي التي كانت بحوزة داعش وأصبح العراق (أو يكاد) جميعاً بالقبضة الإيرانية. وفي ذلك لخّصت دراسة لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الاستراتيجية الأمريكية التي يجب اتباعها في العراق، وتمثلت بضرورة الإسراع في الحصول على ضمانة لبقاء القوات الامريكية في العراق.
لكن ذريعة وجود “داعش” باتت بالية لكي تكون سببًا لبقاء قواتها، بالأخص بعد أن أعلنت الحكومة العراقية نهاية حربها على “داعش”، وبدأت المطالبات من قوى سياسية كثيرة مرتبطة بإيران تطالب الحكومة بالطلب من الولايات المتحدة سحب قواتها من العراق. وإصدار البرلمان العراقي مؤخرًا قرارًا يطلب فيه من الحكومة العراقية وضع جدول زمني لمغادرة القوات الأجنبية من العراق، ناهيك على التصريحات الإستفزازية التي يقوم بها قادة المليشيات في العراق حول خروج القوات الامريكية. فماذا هي فاعلة الولايات المتحدة وليس لديها خيارات كثيرة في العراق؟.
الولايات المتحدة بسياستها المتخبطة ما زالت تراهن على إخراج الحكومة العراقية بقيادة العبادي من العباءة الإيرانية
تراهن الولايات المتحدة اليوم على الذي تعتبره رجلها بالعراق حيدر العبادي، وتطمح أن يحقق فوزًا في الانتخابات القادمة ليطلب منها بعد ذلك البقاء، لكن هذا غير متوقع، بعد أن قامت إيران بدور محوري لضمان وصول حلفائها من المليشيات الى سدة الحكم. بينما أمريكا ليس لها لاعبين فاعلين على الساحة العراقية تستفيد منهم لتقوية نفوذها، وإذا ما سارت الأمور وفق هذا السيناريو فأن أول قرار للحكومة العراقية المقبلة سيكون هو الطلب من القوات الامريكية المغادرة من العراق لانتفاء الحاجة لها. فماذا سيكون الرد الأمريكي على تلك التداعيات وهي ترى ان العراق قد سقط كليةً بالحضن الإيراني؟
إن الخيارات التي يقدمها قادة الفكر الامريكيون لا ترتقي لتكون فاعلة للحد من النفوذ الإيراني، تلك الخيارات تشير للتعامل بواقعية مع الواقع العراقي الجديد والذي تشكل فيه المليشيات قوة لا يمكن للولايات المتحدة التصادم معها، لما يمكن ان يلحق بها خسائر كبيرة لا تستطيع الإدارة الأمريكية الحالية التعامل معها، وعلى هذا فأن هؤلاء المفكرين يقترحون سياسة التقارب والاحتواء لتلك المليشيات، لكن في ظننا أن هذه الاستراتيجية ستكون فاشلة في ظل الولاء الكامل لتلك المليشيات لإيران. كانت تصريحات “علي ولايتي” مستشار الخامنئي أثناء زيارته للعراق، واضحة وصريحة حينما قال: “إن الواجب على الأحزاب الشيعية بالعراق إضافة للمليشيات، هو محاربة القوات الأمريكية بالعراق وطردها.”
ما الحلول الواجب اتخاذها أمريكياً لمحاربة النفوذ الإيراني بالعراق؟
الولايات المتحدة بسياستها المتخبطة ما زالت تراهن على إخراج الحكومة العراقية بقيادة العبادي من العباءة الإيرانية، وتراهن عليه للدرجة التي جعلت المساعدات الممنوحة بمؤتمر الكويت مرهونة ببقاء العبادي بمنصبه كرئيس وزراء في الحكومة القادمة، وهذا غير متوقع حدوثه، وحقيقة عدم وجود قوات برية موالية لأمريكا في العراق، يعني استيلاء موالي إيران عليها سيكون بكل سهولة، وهذا ما حذر منه كيسنجر. إذا ما وصلت حكومة ميلشياتيه لحكم العراق مثل ما تخطط له إيران، فأن أول قرار لها سيكون الطلب من الولايات المتحدة سحب قواتها، فهل يكون هناك تصادم بين تلك القوات والمليشيات في العراق؟ هذا متوقع لكن ستكون مهمة الامريكان عسيرة بدون قوات برية موالية لها.
على الامريكان أن يختاروا مساراً أخر تُصلِح به ما اقترفته من أخطاء بحق هذا البلد، وتستطيع من خلاله تحجيم النفوذ الإيراني في العراق
ما نراه أن هناك تخبط أمريكي واضح بالمنطقة، وربما لو أعادت التفكير في مستقبل المنطقة، سيكون عليها دعم استقرار الدول وإعادة التوازن الديمغرافي لها، لكن الواقع أن الأمريكان دعموا خطط الإيرانيين في التغير الديمغرافي وانهيار دول المنطقة لأنها تتلاقى مع المصالح الإسرائيلية، وهذا ما سيضرب المصالح الامريكية بالصميم.
النفوذ الأمريكي بالعراق وأيضًا في سوريا يمر بأصعب حالاته، لكن هل من وسيلة تستطيع بها الولايات المتحدة التغلب على تلك الصعوبات؟ في رأينا كان من المفيد لأمريكا لو كانت قد جعلت لها موالين لها في الساحة العراقية والسورية من الأغلبية الديمغرافية التي يتشكل منها البلدين، كان بإمكان أمريكا حسم الصراع السوري لصالح الثورة وكسب قادة الثورة منذ 2011، لكن توانيها وترددها جعل الأمور تخرج من يدها وتصبح روسيا ومن خلفها إيران سيدة الموقف هناك. ولم يساعدها تحالفها مع الأكراد هناك.
أما في العراق فقد تمادت الولايات المتحدة في دعمها لحكومة بغداد الطائفية آملةً صنع نفوذاً لها في القوى الأمنية العراقية، التي جُلّها من مليشيات تدين بالولاء لإيران.
وبالتالي فأن على واشنطن أن تختار مساراً آخراً تُصلِح به ما اقترفته من أخطاء بحق هذا البلد، وتستطيع من خلاله تحجيم النفوذ الإيراني في العراق وفي المنطقة من خلال الطعن بشرعية النظام السياسي الحاكم في البلاد، والمطالبة بإعادة تأسيس العملية السياسية وفق أُطر وطنية بعيدة عن الطائفية التي كانت السبب في هذا الحال. إن هذا الجهد إذا ما قامت به الولايات المتحدة فأنها ستجد مناصرين لها كُثر بالمجتمع العراقي وستجد من يقاتل معها إذا ما اضطرت لمقاتلة النفوذ الإيراني في العراق.