في رحلة استمرت ليومين إلى قلب الصحراء التونسية بعيداً عن الطريق السياحي المعتمد عادة لزيارة مناطق ترويجية كواحات توزر ومنتزه الواق الواق، ومطماطة أو قصر غيلان، بسيارات رباعية الدفع أو التجول في قلب الصحراء في سيارات كواد، وشراء أشياء تذكارية للتباهي بها وإهدائها للأقارب وللأصدقاء ولم تكن أيضًا الرحلة في موسم من مواسم السياحة المتعارف عليها في الجنوب كمهرجان دوز أو مهرجانات جني التمور في واحات الصحراء، إنما كانت رحلة عكس الإتجاه لشباب آمنوا بأن بلادهم مليئة بالخيرات وأن الأمل في الجنوب، وأن الصحراء تمثل فرصة لهم في النجاح.
أغلب من كان في عمر هؤلاء الشباب حينما تضيق بهم سبل النجاح كانو يتجهون نحو البحر مهاجرين في قوارب الموت آملين في حياة الرفاهية والنجاح، لتتحطم كلها بصخور قاتلة على شواطئ أوروبا أو يعتصمون جوعًا باحثين عن شغلٍ بدنانير معدودة عبيد لمشغليهم حتى آخر الحياة، قرر هؤلاء أن الأمل في الجنوب التونسي أينما وجد الماء وجدت معه الكنوز والخيرات.
الصحراء التونسية
تمثل الصحراء التونسية حوالي 40 بالمائة من مساحة البلاد ولكن في الأونة الأخيرة ومع مظاهر العولمة وإنفتاح العالم على تجارب الأخرين تغيرت شيء فشيء تلك الفكرة المغلوطة حول الصحراء، بأنها مقبرة لمن يسكنها واعتبارها منطقة غير صالحة للإنتاج، ومع توفر الخرائط والتكنولوجيا التي أماطت اللثام حول كميات كبيرة من المياه الجوفية أصبحت الصحراء تمثل فرصة وأحد الموارد الأساسية للإقتصاد التونسي.
ظل المعتقد السائد على مدى نصف القرن المنصرم أن المجال الصحراوي في غالبه يشكو من ضعف في النزوع العلمي، وبطء التطور التعليمي جراء قساوة البيئة الصحراوية وانتشار البداوة بهذا المجال المتسم بعدم الاستقرار الاجتماعي، وبكثرة ترحال البدو من أهل الصحراء وتنقلهم المستمر والدائم بحثا عن مواطن الماء والكلأ لمواشيهم، مما جعلهم يحافظون على نسقهم القبلي القديم بتربيته القائمة على أساس عشائري تتوزع بموجبه الأدوار الاجتماعية حسب منزلة الفرد داخل القبيلة أو العشيرة، إلا أن هذا المعتقد كان مغلوطا أو وقع حشوه حشوا في موروثنا الإجتماعي والثقافي لتهميش الجنوب.
الصحراء التونسية بفهومها العام بما تحتويه من مدن أنجبت أبو القاسم الشابي بتوزر وأنجبت الطاهر الحداد بحامة قابس الذي يعتبر من أهم الاعلام التاريخية بالبلاد التونسية
جميع المعطيات الحديثة فندت هذا المفهوم حيث أن تاريخنا قد عبث كل من مر به فهل يعرف أحدكم معركة رمثة في صحراء تطاوين بالجنوب التونسي؟ أو المقاومون الذين وقع قصفهم في الجبال ولم يقع جمع رفاتهم إلى اليوم، من يعرف سيرة الدغباجي أو مصباح الجربوع؟
من أعلام أهل الجنوب التونسي اليهودي الديانة المناضل الكبير جورج عدة والذي قال عندما نالت تونس استقلالها، اليوم انتهى فصل من نضالي وإنطلاقاً من الآن سأدافع عن قضية حق أخرى، سأدافع عن القضية الفلسطينية! في المجال العلمي عباس البحري الذي توفي من سنتين وهو مصنف كأعظم علماء العصر في الرياضيات.
الصحراء بفهومها العام بما تحتويه من مدن انجبت أبو القاسم الشابي بتوزر وانجبت الطاهر الحداد بحامة قابس الذي يعتبر من أهم الاعلام التاريخية بالبلاد التونسية كما ولد بحامة قابس مؤسس حركة النهضة وهي تعتبر من أهم الأحزاب الفاعلة في البلاد. الجنوب التونسي لم يتوقف يوما من اثراء المجتمع التونسي بقامات استثنائيه ساهمت في النمو الثقافي والمجتمعي.
مشروع تهيئة رجيم معتوق
مع الاكتظاظ العمراني بمدن الشمال وشحاحة فرص الإستثمار وغلاء الأراضي الفلاحية اعتبر شباب نادي الغد بمبادرته التوجه برحلة استكشافية عكس المسار السياحي المعتاد وعكس التيار بالتوجه نحو الجنوب التونسي لإكتشاف التجارب الناجحة إنطلاقا من مشروع تنمية رجيم معتوق إلى أراضي رمادة الفلاحية غير المستغلة.
مشروع تنمية رجيم معتوق الناجح هو الاول من نوعه الذي حقّقه الجيش الوطني في إنجاز مشروع رجيم معتوق بالتعاون مع وزارة الفلاحة ووزارة التجهيز وبقية الوزارات والمؤسسات المعنية حيث قام ديوان تنمية رجيم معتوق بإستقبال شباب نادي الغد بحفاوة أهل الجنوب المعتاد، ووقع التعريف بإنجازات الديوان مع زيارة ميدانية للوحات ولمركز التجارب التابع للديوان، فخلال 27 سنة تمّ تهيئة 2500 هكتار من المناطق السقوية في قلب الصحراء عادت بالنفع المباشر على 1568 عائلة (7000 شخص) مع حجم استثمار مهمّ: 100 مليون دينار منها 50 مليون دينار هبة من إيطاليا، وعائدات قدرت بـ 200 مليون دينار، علاوة على منافع أخرى تتمثّل في إحداث مواطن الشغل ومقاومة التصحر والتأثيرات الإيجابية في المناخ. ففي سنة 2017 وفّرت أشجار النخيل التي زُرعت وعددها 300 ألف شجرة 16 ألف طن من التمور الممتازة بقيمة قدرت بـ 48 مليون دينار.
إضافة إلى إنشاء حركة عمرانية جديدة وإنشاء مشاريع مكافحة التصحر التي تسعى إلى توفير ستار نباتي هام لصدّ الصحراء عن مدن الجنوب التونسي
إنطلاقا من هذا لمشروع الناجح تحفّزت هياكل الدولة على إعداد مشروع ضخم في قلب الصحراء التونسية الذي سيغطي، انطلاقا من رمادة، 30 ألف كلم مربّع، أي قرابة ربع المساحة الجملية للبلاد التونسية (أو مساحة بلجيكا) والمتمثّل في تحويل هذه المنطقة الشاسعة على مدى ثلاثين عاما إلى واحات ومناطق فلاحية وحقول تضمّ الواحا للطاقة الشمسية وفضاءات سياحية وأماكن آهله بالسكان يستطاب فيها العيش، وأول خطوة يتعيّن القيام بها جعل مطار رمادة العسكري قابلا لاستقبال رحلات الطيران المدني فيما تتمثل الخطوة الثانية في إقامة شبكة للطرقات.
ومن يعرف الجنوب التونسي يعلم أنّ الطريق الفاصل بين بن قردان وذهبية وطوله 180 كلم جزء منه فقط معبّد ويبلغ 30 كلم. وبالتوازي مع ذلك يُنطلق في تهيئة منطقة فلاحية ويتبع ذلك إنجاز بقية مكونات المشروع وقد أثبتت الدراسات الأولية جدوى هذا المشروع وتعكف الحكومة على استكمال صياغته قبل عرضه على البلدان المانحة والمؤسسات المالية مع تنامي الرغبة بأن تصبح الصحراء التونسية مصدرا أساسيا للإنتاج وممولا إضافيا للاقتصاد الوطني على الأمد المتوسط.
إضافة إلى إنشاء حركة عمرانية جديدة و إنشاء مشاريع مكافحة التصحر التي تسعى الى توفير ستار نباتي هام لصدّ الصحراء عن مدن الجنوب التونسي، فالمراقب يستطيع أن يدرك أن عمرانها الثقافي لا يتسع فقط إلى مهرجان للتسوق وللسياحة أو آخر للشعر وثالث لتصوير الأفلام السينمائية ورابع للتراث، وانما يتسع إلى كل وجه من وجوه الحياة في هذه الربوع، في إنتظار تركيز الدولة أول خطوات المشروع رجع نادي شباب الغد إلى الشمال وكله أمل في غد يكون لهم فيه موقع قدم. فلا سبيل للنهوض والتقدم إلا بسواعد الشباب وأفكار غير معهودة لتحقيق مزيج يعدل بينهما.