تتجه الانتخابات الرئاسية المبكرة في إيران إلى جولة الإعادة، بعد فشل مرشحيها الأربع: سعيد جليلي، ومسعود بزشكيان، ومصطفى بور محمدي، ومحمد باقر قاليباف، في حسمها من الجولة الأولى وحصول أحدهما على أكثر من نصف الأصوات التي أدلى بها الإيرانيون.
ستجري الجولة الثانية من الانتخابات يوم الجمعة المقبل بين المرشحين اللذين حصلا على أعلى عدد من الأصوات، وهم: مسعود بزشكيان المدعوم من الإصلاحيين وحصل على 10 ملايين صوت، وبين المرشح المحافظ سعيد جليلي الذي حصل على 9 ملايين صوت.
وجاءت نتائج الانتخابات الرئاسية، التي أُعلنت رسميًا يوم الأحد، لتعزز التصور السياسي الذي ساد في مرحلة ما قبل إجرائها، وإلى جانب انخفاض نسبة المشاركة التي لم تتجاوز 40% من مجموع الناخبين البالغ عددهم 61 مليون إيراني، أكد الانقسام السياسي الذي ساد الجو الانتخابي على عمق الأزمة التي تواجهها البلاد.
تحولات ومؤشرات
النظام السياسي الإيراني كان يعول على اتساع نسبة المشاركة في الانتخابات، وهو حرص أظهره المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، عندما وصفها في صباح يوم الانتخابات، بأنها “مهمة من أجل ترسيخ شرعية الجمهورية الإسلامية”، كما حرص النظام على تمديد ساعات التصويت لـ16 ساعة، من أجل إتاحة الفرصة للشرائح الاجتماعية المترددة، للذهاب نحو صناديق الانتخاب، وهو ما لم يحدث.
يظهر المشهد الانتخابي الإيراني مدى أزمة الشرعية التي يواجهها النظام وقواه السياسية، فمن جهة أكد على عمق الأزمة التي يواجهها التيار المحافظ في البلاد، الذي لم يتفق على مرشح واحد للمشاركة في هذه الانتخابات، ودخل بثلاثة مرشحين، وهم: جليلي وقاليباف ومحمدي، ما أتاح الفرصة للمرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان بالحصول على المرتبة الأولى في جولة الانتخابات الأولى.
ومن جهة أخرى فإن الجبهة الإصلاحية لم تكن بأفضل حال، وعلى الرغم من اصطفاف القوى الإصلاحية خلف بزشكيان، فإن العديد من القيادات الإصلاحية رفضت المشاركة فيها، وأبرزهم محمد خاتمي ومهدي كروبي ومير حسين موسوي، الذين عبروا عن تحفظهم للمشاركة في هذه الانتخابات، واعتبروها جزءًا من عملية منح شرعية مجانية للنظام السياسي الذي يفرض الإقامة الجبرية على العديد من القيادات الإصلاحية.
يتمثل التحول الأبرز في المشهد الانتخابي الإيراني بتصاعد أعداد الإيرانيين الذين امتنعوا عن المشاركة في العملية الانتخابية، حيث وصلت نسبة الامتناع إلى 60%، رغم عملية التعبئة العامة لموارد النظام والتي استمرت لمدة أسبوعين قبل يوم الانتخابات، وهو ما يؤشر بدوره إلى تصاعد السخط الشعبي على النظام السياسي.
ولا تتعلق المشكلة بالنظام فقط، بل بفقدان الثقة في البرامج الانتخابية التي أطلقها المرشحون خلال فترة الدعاية الانتخابية، والتي لم تخرج جميعها عن الخطوط العامة التي رسمها النظام، وتجنب الحديث عن المشكلات الحقيقية التي تعاني منها البلاد.
أما المؤشر الآخر يتمثل في تصاعد عدد أصوات التيار الإصلاحي، مقابل انخفاض واضح في أصوات التيار المحافظ عند المقارنة بالانتخابات الرئاسية الماضية، ورغم محاولة أنصار التيار المحافظ استغلال الأجواء العاطفية التي سادت بعد مقتل الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي، فإنها لم تشكل حافزًا للإيرانيين للتوجه إلى صناديق الانتخاب.
في المقابل استخدم التيار الإصلاحي إخفاقات التيار المحافظ كدعاية انتخابية في زيادة حظوظ بزشكيان، خصوصًا عبر إظهاره وحيدًا بين ثلاثة مرشحين محافظين.
جولة الحسم
في الوقت الذي تعتبر فيه نتيجة انتخابات الجولة الأولى مؤشرًا على إخفاق السياسات المحافظة في البلاد، فإن نتائجها تُقرأ في إطار تغيير موازين قوى التيارات السياسية في إيران، فالناخب الإيراني اعتاد فوز المحافظين في الاستحقاقات الانتخابية التي تنخفض فيها نسبة المشاركة إلى ما دون 50%.
لكن هذه المرة جاءت النتيجة مختلفة، فعلى الرغم من ذلك فإن إخفاق المرشحين المحافظين أمر طبيعي في ظل الخلافات التي عصفت بقطبي التيار (المحافظ والمتشدد)، لكن يمكن توقع تحالفهما في الجولة الثانية، ورفع كفة أصوات المحافظين يوم الجمعة المقبل.
ستشهد جولة الإعادة العديد من التحولات السياسية في المشهد الانتخابي، خصوصًا على مستوى المعسكر المحافظ، وعلى الرغم من قرب جليلي من المرشد الأعلى والحرس الثوري، ودوره في قيادة المفاوضات النووية مع القوى الكبرى، فإن العديد من أنصار هذا المعسكر، يرون في تشدد جليلي سلوكًا يخرج عن منهج التيار المحافظ في البلاد.
ورغم ذلك، فإن هذا لا يمنع من القول بأن وصول التيار المحافظ إلى قناعة بإمكانية فوز بزشكيان في جولة الإعادة، قد يدفع هذا التيار لتجاوز خلافاته ولو مؤقتًا، من أجل إحكام السيطرة على البلاد.
جدير بالذكر أن نتائج الانتخابات حتى الآن تعكس تفضيلات خامنئي، فوصول كل من جليلي أو بزشكيان إلى جولة الإعادة، سيسمح لخامنئي بالمفاضلة بينهما واختيار من يخدم طموحه السياسي في المرحلة المقبلة. جليلي الذي سيرسخ منهج المواجهة مع الغرب والولايات المتحدة، أم بزشكيان الذي سيحاول إظهار نهج الوفاق مع الخارج، وذلك بغض النظر عن طبيعة تفضيلات الشعب الإيراني، إذ يدرك خامنئي جيدًا أن مستقبل الجمهورية الإسلامية ونظام ولاية الفقيه أصبح على المحك، وأن الداخل الإيراني لا يتحمل مزيدًا من عدم الاستقرار.
وبالتالي سيحاول إنتاج مشهد انتخابي يوازن بين مصالح الجميع، فانخفاض نسبة المشاركة يرجح بنسبة كبيرة إمكانية أن تشهد إيران موجة احتجاجية كبيرة في قادم الأيام، خصوصًا إذا مارست الدولة العميقة في إيران، والحديث هنا عن الحرس الثوري، دورها في إنتاج مشهد انتخابي لا يتوافق مع رغبات الشارع، خصوصًا في صالح مرشح التيار المحافظ.
ويبدو أن خامنئي تجنب، على الرغم من مخاوفه، الوسيلة الأكثر بديهية لمنع الجولة الثانية، وهي العمل من وراء الكواليس، لمنح مرشح الإصلاحيين طريقًا أسهل لتحقيق نصر مباشر في الجولة الأولى، من أجل خلق مشهد انتخابي تسيطر عليه مسحة ديمقراطية، ويحفز الشارع الإيراني للمشاركة الفاعلة في جولة الإعادة، وبذلك يحاول تصدير هذا المشهد على أنه جزء من شرعية شعبية لديمقراطية تجري تحت ولاية الفقيه.
ومهما تكن رغبات خامنئي في هذا السياق، فإن الثابت الوحيد أن هذه الانتخابات فقدت شرعيتها حتى قبل أن تبدأ، بفعل السياسات الإقصائية التي اعتمدها مجلس صيانة الدستور، بمنع العديد من الأسماء من المشاركة فيها.
وقت حساس
تأتي هذه الانتخابات في وقت حساس للجمهورية الإسلامية، فالبلاد متورطة في تصعيد التوترات مع “إسرائيل”، كما تأتي بعد شهرين فقط من تبادل إطلاق النار بين إيران و”إسرائيل” للمرة الأولى مع اتساع رقعة الصراع في غزة، إذ تستعد “إسرائيل” الآن لجبهة ثانية محتملة مع حزب الله، الوكيل الإقليمي الرئيسي لإيران في لبنان.
يضاف إلى ذلك التوترات مع حلفائها الغربيين، بسبب الحرب في غزة، والتقدم الذي أحرزته إيران في برنامجها النووي، إلى جانب الحزمة الجديدة من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة نهاية الأسبوع الماضي.
يعد المرشد الأعلى للبلاد هو الحكم النهائي في معظم القرارات بإيران، لكن الرئيس المنتخب سيكون وجه الجمهورية الإسلامية في الخارج، فقد تركت معركة إيران مع الولايات المتحدة الاقتصاد في حالة يُرثى لها، بعد أن أصيب بالشلل بسبب سنوات من العقوبات الأمريكية، وضعف العملة المحلية وارتفاع التضخم.