يحقّق فيلم النمر الأسود Black Panther نجاحا كبيرا في شباك التذاكر وفي صفحات المجلات المختصّة. ويروّج له أنّه ضربة مارفل الثانية بعد ووندر وومن Wonder Woman في مجال الانتصار للفئات المظلومة سينمائيّا. جاء إسمه مقترنا بحركة النمور السود الأمريكيّة الّتي دافعت بالسلاح عن السود المقموعين في أمريكا قبل حلّها في الثمانينات وإن كان مخترع الشخصية ستان لي Stan Lee أنكر أيّة علاقة بينهما، فإنّه استعمل له كنية أخرى في السبعينات Black Leopard ما يعني أنّ الخلط كان دوما حاضرا.
كما أنّه كفيلم مارفل Marvel، يحاول أن يمنح السود بطلا خارقا يضاهي نظراءه البيض الكثر، ويمثّلهم في هذا العالم. ومع انحراف سينما هوليود في الأعوام الأخيرة وهوسها المرَضيّ بكل ما هو “دعم للأقليات المضطهدة” (دعم الأقليات المضطهدة ليس مرَضا إذا كنتَ فهمت هذا)، فمن الطبيعيِّ أنّ هذا الفيلم رغم طابعه الترفيهيّ بالأساس، جاء مثقلا بأفكار ضخمة رغما عنه.
كان هناك تشنّج غريب من قبل أن ينزل الفيلمُ أصلا، دفع إحدى النّاشطات إلى استنكار أن لا يبديَ النّاسُ اهتماما بالفيلم قبل نزوله، مثلما يفعلون عادة تجاه أعمال مارفل الأخرى!
كقراءة عامّة للفيلم، أعتقد أنّه فيلم مارفل لابأس به، حافظ بشيء ما على مختلف خصائص أفلام الأبطال الخارقين المألوفة. العنصر الدراميُّ محترم جدا، مواضع السخرية والمزاح مختارة بعناية، التشويق كان بدائيّا تقريبا، وأغلب مشاهد القتال تطغى عليها المؤثرات البصرية بشكل يثير الاشمئزاز
وبدا كما لو أنّ المرءَ إذا ما قال عنه شيئا سيّئا، سوف يرجم بالحجارة ويدفنُ فاشيّا. ليس غريبا إذا أن أتعامل مع الفيلم بذات الحساسيّة التي جاء بها سياقُه. ولأنّني شخص عديم الأهمية، فلا يعنيني كثيرا أن أُتَّهم بالفاشية. لكنّني للأسف سأكون أكثر هوسا من هؤلاء. إنّني أتّهمُ الفيلم نفسَه بالعنصرية!
لن أقدّم قراءة مستفيضة للفيلم، كما لن أحرق أحداثه. هناك واكندا، أرضٌ افريقية خفيّة عن الأنظار لم تطأها قدم مستكشف ولا طائرة مستعمر. دولة قوية أكثر تطوّرا من كل دول الأرض بفضل معدن الفربانيوم الثمين الذي تزخر به. النمر الأسود أو تشالا T’Chala هو أمير هذه الديار وهو مقاتلٌ فذ ويتميّز بقدرات مدهشة تمنحها إيّاه التكنولوجيا، نسخة سوداء تقريبا من باتمان. وهو يواجه مشكلة حماية دولته وثرواتها من الأيدي العابثة…
كقراءة عامّة للفيلم، أعتقد أنّه فيلم مارفل لابأس به، حافظ بشيء ما على مختلف خصائص أفلام الأبطال الخارقين المألوفة. العنصر الدراميُّ محترم جدا، مواضع السخرية والمزاح مختارة بعناية، التشويق كان بدائيّا تقريبا، وأغلب مشاهد القتال تطغى عليها المؤثرات البصرية بشكل يثير الاشمئزاز. وعدا مشهد أو مشهدين، فأغلبـها سيّء. هناك إحالات ذكية وساخرة لجيمس بوند، هي تقريبا أجمل ما في هذا الجانب من الفيلم (أعني جانب الأكشن).
أهمّ مسألة استيطيقيّة في الفيلم، هي واكندا Wakanda اليوتوبيا الإفريقيّة. والجانب النيّر في هذا المتخيّل أنّه قام على عناصر ثقافيّة إفريقيّة أصيلة، تدلّ على العمل الممتاز الذي قام به أهل الديكور والأزياء. في واكندا، نرى إفريقيا من شمالها إلى جنوبها، من جنوب إفريقيا وقبائل الخوسي والبوشمن، إلى وسطها وقبائل الماساي، وحتّى الطوارق من الشمال (شخصيّا لم ألحظهم، ولكن ذُكر لي أنهم هناك). بانوراما مرئيّة بديعة الألوان والأشكال. وانعكس هذا العمل على الموسيقى فانبعثت كأنّها حركات الطبيعة، أو كأنها رجْعٌ لإيقاعات الآباء الأوائل. سياق شكليٌّ طريف، لم ينجح في الانسجام مع الموروث القصصيِّ الرّكيك للنمر الأسود.
بمنتهى السذاجة المصطنعة، لا يفرّقُ الفيلمُ بين الأمريكيّ الأسود والإفريقيِّ الأسود
لي صديق فرنسيٌّ قرّر مقاطعة الفيلم، لأنّ البيض ليسوا ممثَّلين فيه، وهي ردّة فعل ساخرة ولكن وجيهة إذا ما أخذنا في الحسبان احتجاجات الحقوقيين على كلّ فيلم ليس فيه سود (وآخرهم دنكرك. ربما يمكن أن يكون هناك سود في دنكرك، لكنّ من شهدوا الواقعة يقولون عكس ذلك). الحقيقة أنّ الفيلم لم يُقصِ البيض، بل فعل ماهو أسوأ: قدّمهم بذات الطريقة التي كنّا دوما نرفضها للسود. فالأبيض الأول هو إيرلنديّ مجنون يريد الاستيلاء على الفربانيوم (معدن ثمين تملكه دولة واكندا) وانتهى أمره في منتصف الفيلم تقريبا، أي أنه شرير وتافه معا، أما الثاني، فهو ذلك التابع الأبله، البدويُّ في المدينة، بانشو دون كيخوت، أو في ألطف صورة : واطسن شيرلك هولمز.
يقول بعضهم في خبث: ولكن هذا تذكير ساخر بأدوار السود في الأفلام الأمريكيّة الكلاسيكيّة. هذا صحيح، ولكن بإجابة كهذه فنحن ندور في حلقة مفرغة من الحقد المتبادل. ثمّ إنّ العنصريّة التي أعنيها، ليست هذه. أنا أتحدث عن عنصرية تجاه السود أنفسهم!
تجسيد لشخصية النمر الأسود داخل الفيلم
ليس كلّ أبطال المارفل أمريكيّين. في أفلام ثور Thor تُذكر النرويج بشكل صريح مثلا، لكن لا أحد ينزعج من ذلك، أوّلا لأن الأمريكيين البيض ليسوا بحاجة حقيقية لإثبات أمريكيّتهم، فهم من أسّسوا الجمهورية، وهم الطرف الغالب بالفعل، أمّا السود الذين أمضوا طيلة القرن العشرين يجاهدون للحصول على حقهم في المواطنة الحقيقيّة، فلا تزال أمريكيّتهم مطعونا فيها في كلّ مرة، لذلك فوجود بطلٍ خارق أمريكيّ أسود، يفترض أن يكون انتصارا لكفاحهم، وتأصيلا لأمريكيّتهم. لكنّ النمر الأسود ليس كذلك بالمرة. بل هو يعيدهم مرّة أخرى إلى إفريقيا. السود في “النمر الأسود” هم آليّا افارقة، بمن فيهم أولئك الذين ولدوا لأمّ أمريكيّة، وترعرعوا في أمريكا، وشبّوا على كرة السلة في شوراعها، تماما مثل غريم البطل في فيلمنا.
لا شكّ أنّ الفبرانيوم ليس سوى رمز للثروات الطبيعية الهائلة التي تزخر بها إفريقيا، إذ يراها صنّاع الفيلم، مفتاح إفريقيا نحو التقدم التكنولوجيّ
بمنتهى السذاجة المصطنعة، لا يفرّقُ الفيلمُ بين الأمريكيّ الأسود والإفريقيِّ الأسود. إنّهم شعب واحد (هل الأفارقة شعب واحدٌ؟ من قال هذا؟). لا يجمع هؤلاء سوى جزء صغير في خارطتهم الجينيّة، لا تاريخَ مشترك، ولا لغة، ولا عادات أو تقاليد. ربما لا يرى السودُ الأمريكيّون في خضمّ تخمّرهم وحماسهم تجاه الفكرة القومية الإفريقية أي ضير في هذا، لكنّني كإفريقيٍّ أبيض، منحتُ إسم بلدي (إفريقية) إلى القارة، ووجدتُ نفسي خارج فكرتها عن الهوية، منزعج تماما. أليست هذه عنصرية؟
حتّى في احتفاء الفيلم بإفريقيا، تعامل معها بذات السذاجة المستفزّة، فسخّر أمريكيّين سودا لأداء أدوار الأفارقة ما أثّر بشكل كارثيّ على أصالة اللكنات الإنكليزية الكينيّة والنيجيريّة والإفريقية الجنوبية، وجعل من واكندا “يوتوبيا إفريقيّة” مؤسَّسة على العصبيّة القبليّة، يتخاصم زعيمان منها، فتنشأ حرب أهلية ومجازر. ولا يحكم هذه البلاد النموذجيّةَ ملكٌ مستبدٌّ فحسب، بل إنّه يحوز تاجه بفضل فحولته وقدرته الجسمانيّة على القتال. كلُّ تلك القيم “التقدمية” التي أحاطوا بها المملكة ليست سوى زخرفات سخيفة أمام الجوهر الذي لم يخطر لهم أن يتجاوزوه. كلّ ما كان يعنيهم، أنّ واكندا تملك تكنولوجيا لا يملكها أحد، كأنّ التقنية هي السبيل الوحيد إلى الخلاص. دون الحاجة إلى تغيير شيء من الأفكار البالية التي تنهش المجتمعات الافريقيّة.
أبطال فيلم النمر الأسود Black Panther
لا شكّ أنّ الفبرانيوم ليس سوى رمز للثروات الطبيعية الهائلة التي تزخر بها إفريقيا، إذ يراها صنّاع الفيلم، مفتاح إفريقيا نحو التقدم التكنولوجيّ، ويحذّرها من أطماع الدول العظمى (عدا أمريكا الدولة الصديقة طبعا)، لكنّه أيضا يضع سؤالا غريبا كمحور للصراع : هل على واكندا أن تشارك ثرواتها مع الآخرين، لتنقذهم وتنقذ الإنسانية كواجب على دولة متقدّمة مثلها؟
كان جانب الخير، رافضا للمسألة رفضا قاطعا، ثمّ في النهاية قرّر يغيّر سياسته. ربّما حسنا فعل في الفيلم، لكنّني أرجو أن لا تفعل أمريكا مثل واكندا وأن تشعر بالواجب نحونا وتساعدنا.. آه مهلا! إنها تفعل ذلك فعلا!