لقد كانت الوحدة بين مصر وسورية حاجة اقتصادية للدولة قبل كل شيء ، لأن البرجوازية السورية الصاعدة في سياق بحثها عن أسواق خارجية لبضائعها أخفقت في أخذ سورية إلى أحلاف اقليمية كحلف بغداد نتيجة المد العروبي والشيوعي اللذين قاوما ، سياسياً ، هذه الأحلاف كونها برعاية الدول الاستعمارية في إطار الصراع على المنطقة بين معسكرين ، المعسكر الشيوعي الشرقي والمعسكر الرأسمالي الغربي ، وما تعنيه لكل منهما منطقة الشرق الأوسط في حربهما الباردة.
إلا أن القرارات الاشتراكية لحكومة الوحدة ، التأميم والإصلاح الزراعي ، بالإضافة إلى الاستبداد السياسي والأمني وهيمنة المصريين على المفاصل الإدارية والسياسية في الاقليم الشمالي ( سورية ) عجلت بفرط عقد الوحدة ، وأجلت مجرد الحلم بها ، وربما ألغته لزمن طويل في الذهنية العربية بسبب قيامها على عجل ودونما تفكير وتحضير وتمحيص. لقد شكلت الوحدة بين مصر وسورية نقطة الوصل بين سيرورتين لعسكرة الحكم في سورية بواسطة الإنقلابات العسكرية ، قبلها وبعدها ، مع نسف ركائز التطور الطبيعي للبلد الذي كانت تطمح له البرجوازية الوطنية.
هذه الإنتكاسة تتحمل مسؤوليتها التاريخية الزعامات السياسية لهذه البرجوازية والأحزاب وقياداتها والجائحة القومية الشعبوية ، لأنها انجرت كلها إلى مشيئة ثلة من العسكريين وجدت ضالتها بجمال عبد الناصر ما بعد العدوان الثلاثي الذي أخذ مصر بعيداً عن الحياة السياسية الدينامية وجعلها لقمة سائغة للسلطة العسكرية ـ الأمنية مغمسة بشعارات قومية وتحررية واجتماعية دونما أي سند اجتماعي ـ سياسي.
أدت سيادة التثقيف القومي والديني من اتجاه واحد أوحد في المؤسسات ، خاصة التعليمية ، وفي الإعلام إلى إلغاء التنوع الثقافي الذي تتميز به سورية الناجم عن تنوع بنيتها الإثنية والاجتماعية والدينية
لقد أنتجت السلطة العسكرية ـ الأمنية بعيد الإنفصال وحتى قيام الثورة في آذار 2011بنيات وتراكيب حلت مكان البنى والتراكيب التي سبقت الوحدة وعلى جميع الصعد ـ :
1ـ على الصعيد السياسي : ألغت ديناميات العمل السياسي بتعليب الأحزاب وشرذمتها ، والتضييق على التيارات الوطنية الديمقراطية وملاحقتها ، وفسح المجال للتيارات السياسية الدينية سواء المستقلة عن المؤسسة الدينية أو التابعة لها مع تعزيز الفرقة الطائفية والمذهبية في المؤسسات على مستوى الإدارة والاقتصاد والعمل .. ولعب الإعلام الأحادي دوراً كبيراً في عملية تغييب الوعي الجمعي للقضايا السياسية الوطنية إذ انشغل بالترويج للسلطة وسياساتها دونما أي اعتبار للرأي الآخر أو تفاعل المواقف المختلفة التي تصب في المصلحة الوطنية .
2ـ على الصعيد الاجتماعي : تم إقصاء الطبقة المتوسطة عن أي فعل سياسي ـ اجتماعي مما أنتج خللاً في البنية الطبقية للمجتمع بتفريغ وسطها وملئه بحثالات اجتماعوية خرجت من لدن الطبقات السفلى صعوداً حتى الذروة نتيجة السياسات الاقتصادية وسياسات عملية إعادة توزيع الدخل المنتهجة ( الاستثمار ، الإنفاق العام ، الضرائب ، الإعانات ، أسعار الصرف ، التضخم ، الرخص والإجازات ، التجارة الخارجية ، التهريب ، المحاباة .. ) . مما أدى إلى تفشي ظاهرة الفساد الأخلاقي والفساد الإداري والمالي اللذين عملا على تشريخ الصفائح الداخلية لكل طبقة داخل البنية الاجتماعية .
3ـ على الصعيد الاقتصادي : فشلت السياسات الاقتصادية بتحديد هوية وطنية للاقتصاد السوري فظل اقتصاداً تابعاً بالعموم من باب التمويل والتجارة الخارجية مع تحويله من اقتصاد منتج للسلع إلى اقتصاد ريعي يعتمد على قوى الطبيعة ومواردها في مقابل تهشيم وتهميش الموارد البشرية الذكية والمبدعة والخلاقة وخلق قوة طرد لها من الداخل إلى الخارج . إلى جانب التغيرات الهيكلية المترددة في بنية الاقتصاد ، بين العام والخاص ، بين القطاعات المنتجة للسلع وقطاعات الخدمات ، بين الريف والمدينة ..وكذلك استقطاب الموارد والامكانات من مناطق إلى مناطق أخرى ومعها انتشرت مناطق كثيرة للفقر في مقابل مركزة الثروة والغنى في مناطق قليلة ..
4ـ على الصعيد الثقافي ـ المعرفي : لقد أدت سيادة التثقيف القومي والديني من اتجاه واحد أوحد في المؤسسات ، خاصة التعليمية ، وفي الإعلام إلى إلغاء التنوع الثقافي الذي تتميز به سورية الناجم عن تنوع بنيتها الإثنية والاجتماعية والدينية ، مما زاد في تعميق الشروخ المجتمعية في بنية الوعي مع تعزيز حالة مواجهة عدائية ، في الباطن ، بين الثقافات السورية المتنوعة تنأى بالبلد عن أية وضعية وطنية مقدر لها أن تقوي ميزة التنوع والاختلاف الثقافي فيه .
لم تكتفِ السلطة آنذاك بسد أذنيها عن سماع الأصوات الداعية للإصلاح الجذري بما فيها الأصوات التي خرجت من المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث وترجمت بمقررات ، إنما اتبعت ذات الأساليب السابقة في كَم الأفواه
5ـ على صعيد مؤسسات الدولة : الدولة السورية مثلها مثل أي دولة فيها مؤسسات ، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحقوقية وتعليمية وخدمية وعسكرية .. وفيها منظمات مجتمع مدني من أحزاب وجمعيات ونقابات واتحادات .. كانت سابقاً ولاتزال موجودة ، لكن الجديد الذي طرأ عليها هو هيمنة السلطة الأمنية عليها مما أفقدها استقلاليتها ولعب الدور الوظيفي الحقيقي الذي نشأت لأجله فصارت مجرد هياكل منزوعة الروح ، وبينها وبين المواطن هوة سحيقة باستثناء الذين يصعدون على كاهلها ويستنفذون إمكاناتها لمصالحهم الشخصية .
عدا عن ذلك فقد افتقدت هذه المؤسسات للمهنية والاحترافية ، ولم يكن لديها خطط وبرامج تطويرية حقيقية في إطار استراتيجية واضحة لارتقاء البلد على سلم التقدم الاجتماعي والاقتصادي والتقني ـ المعرفي . وقد ساهم غياب الدور الوظيفي والخطط والبرامج والاستراتيجيا في استدامة حالة التردي. بالمقابل لم تتمكن المحاولات الإسعافية المحدودة في مطلع القرن الحادي والعشرين من إنقاذ سورية من سيرورة التردي تلك ، لأنها لم تأتِ استجابة موضوعية لمتطلبات واستحقاقات الإصلاح الجذري ، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمعرفي والمؤسساتي ، الذي كان يلح عليه الواقع بغية إنقاذ البلد من أزمته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية .
ولم تكتفِ السلطة آنذاك بسد أذنيها عن سماع الأصوات الداعية للإصلاح الجذري بما فيها الأصوات التي خرجت من المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث وترجمت بمقررات ، إنما اتبعت ذات الأساليب السابقة في كَم الأفواه . ومنذ ذلك الحين بدأ وهج حزب البعث يبرد ويضعف تأثيره في السياسات عما كان عليه في فترة سابقة .
وجاءت سياسات الإغراق الاقتصادية ومركزة الثروة لتزيد تشوه بنية المؤسسات وتؤزم المؤسسات الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة التي تتموضع بطبيعة الحال في ريف المدن وتشغل آلاف الشغيلة وأرباب المصالح الذين تحولوا إلى عاطلين عن العمل والإنتاج انضموا إلى آلاف العاطلين في سوق العمل وخاصة من خريجي الجامعات والمعاهد والمدارس المهنية ، وزاد في الطين بلة تقلص الطاقة الاستيعابية للدول المستقطبة للعمالة بسبب الأزمة المالية التي اجتاحت العالم في النصف الثاني من العقد الأول للألفية الثالثة فسدت سبل العمل في وجه العمالة السورية دون أن تحرك الحكومة السورية ساكناً لايجاد فرص عمل للشباب ، وأصلاً لم يكن بمقدورها فعل أي شيء بسبب الموقف السلبي للسلطة من الإصلاح الجذري.
مما لا شك فيه نحن أمام حالة معقدة ومركبة ، لا يفيد معها إطلاق أحكام مسبقة أو غير مدروسة
إن سيرورة التردية تلك بالضرورة ستنتج حالة ثورية تعس كالجمر تحت الرماد ستنقلب بمجرد أن تتوفر أداة تحريكها . إن أحداث سيدي بوزيد في تونس وبنغازي في ليبيا وميدان التحرير في القاهرة قلبت الجمر فوق الرماد في سورية ، في ريفها المقهور قبل مدنها التي حوطتها العشوائيات المتهالكة . عندئذِِ من الطبيعي جداً أن تأتي أدوات التحريك من خارج الحدود لحماية مصالح الدول التي ترتبط السلطة السورية معها بعلاقات سواء علاقات صداقة أم علاقات عداوة ، علاقات مغازلة أوعلاقات غرام . وطبيعي جداً ألا تهتم الدول بمصالح الشعب السوري الذي حدد من اللحظة الأولى مطالبه المحقة في التغيير الديمقراطي مما لا ينسجم مع مصالح هذه الدول بلا استثناء .
إن ثورة الشعب السلمية لم تنطلق ضد فرد أو عائلة أو طائفة بعينها ، ولم تكن قط ترغب بالتحول إلى ثورة مسلحة ، لكن مرة أخرى رفض السلطة الأمنية الاعتراف بضرورات التغيير الديمقراطي من أجل قطع سيرورة التردية والبدء بسيرورة الترقية ، واعتبار الحالة الثورية مؤامرة خارجية عليها مع ممارسة أشد صنوف العسف والعنف ضدها ، والمشاركة الخجولة للأقليات ، وسرقة الثورة ـ وهي أساساً ثورة سياسية اجتماعية في البنية والاتجاه ـ من قبل تيارات سياسية تتستر بأقنعة دينية ، قاد كل ذلك إلى عسكرة الحالة وانزلاقها نحو العنف ثم حرب أريد لها أن تكون طائفية لم تبقِ ولم تذر ، انتهت سياسياً بارتهان السوريين لمشيئات الخارج في إيجاد حل سياسي لمحنتهم الكبرى .
عود على بدء ، هل فعلاً تتحقق مخاوف إعادة إنتاج السلطة الأمنية في الدولة السورية التي باتت مكسورة الجناحين ، الأرض والشعب .
إن الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على أربع إشكاليات :
الإشكالية الأولى : شكل ومضمون وحدود الحل السياسي .
الإشكالية الثانية : مدى قبول الشعب السوري بعد كل هذه التضحيات قبل وبعد الثورة لإعادة إنتاج السلطة الأمنية ذاتها .
الإشكالية الثالثة : وضع السلطة الأمنية ومدى قدرتها على إعادة إنتاج أساليب الاستبداد السابقة . ومدى تقبل مواليها انسداد أفق الترقية الذي يطالهم كما يطال بقية الشعب السوري .
الإشكالية الرابعة : الثورة صيرورة ، وبالتالي إلى أي مدى يمكن أن يتحمل العالم تبعات إعادة إنتاج الاستبداد وفي الوقت نفسه تبعات إعادة إنتاج الثورة؟
احتمال إعادة إنتاج الاستبداد الذي ذاق الشعب السوري طعم ويلاته وخراباته عقوداً طويلة من الزمن ، وأخٌَرَ سورية التاريخ والحضارة والانفتاح ، هو الاحتمال الأضعف من بين جميع الاحتمالات نظراً للمعطيات الواقعية وتوزع القوى واختلاف المصالح والخيارات
مما لا شك فيه نحن أمام حالة معقدة ومركبة ، لا يفيد معها إطلاق أحكام مسبقة أو غير مدروسة ، كما لا يفيد القفز فوق الواقع في فهم الحالة ومآلاتها . هذا ما يدفعنا لتحليل المقدمات التي على ضوئها تبنى النتائج أو على الأقل لا فكاك للنتائج عن مقدماتها .
بداية ، إن أي حل سياسي قد يفرضه الخارج على السوريين لن يتجاوز معطيات الحالة الواقعية من حيث توزيع القوى على الأرض واختلاف مصالح الدول الراعية لها وبالتالي من المتوقع ألا يخرج الحل السياسي عن حدود تقاسم السلطة من قبل الأطراف السورية المتنازعة . وإذا كان تقاسم السلطة يتعارض مع فكرة إعادة إنتاج السلطة الأمنية ذاتها لكنه لا يمنع من إعادة إنتاج نظام الاستبداد من لدن عملية التقاسم لأن كلا الطرفين ، الموالاة والمعارضة ، وجهان لنظام واحد من حيث البنية ونمطية التفكير والسلوك ، ولأن الدول الراعية لهما تتعارض مصالحها مع مصلحة الشعب السوري في التغيير الديمقراطي الذي خرجت الثورة من أجله.
في المقلب الآخر من غير المنطقي أن يقبل الشعب السوري كله ، الموالي للسلطة الأمنية والموالي للمعارضة وغير الموالي لأحد ، بعد كل هذه التضحيات العودة إلى سيرورة التردية وهو في مواجهة استحقاقات مرحلة إعادة الإعمار الطويلة والمكلفة والمعقدة ، ولا أن يقبل الرضوخ مجدداً للتعسف والاستبداد ، خصوصاً في ظل تهالك سلطة الاستبداد في الحالتين ، من جهة السلطة الأمنية ذاتها و من جهة معارضتها غير الديمقراطية . وهذا الاحتمال يقتضي ، منطقياً ، تقديم تنازلات للشعب السوري ربما تكون على شكل توسيع هامش الحريات الفردية والعامة ، وتوسيع هامش المشاركة في شكل ما للإدارة اللامركزية ، وحرية صحافة وإعلام وأحزاب ، وتوسيع هامش المشاركة في مؤسسات الدولة السياسية من برلمان وحكومة ، وإطلاق المبادرة الفردية في الاقتصاد والاستثمار والعمل ..في إطار دستوري لا يمنح كل شيء ولكنه لا يمنع كل شيء.
إن احتمال إعادة إنتاج الاستبداد الذي ذاق الشعب السوري طعم ويلاته وخراباته عقوداً طويلة من الزمن ، وأخٌَرَ سورية التاريخ والحضارة والانفتاح ، التي كان كثير من سياسيي المنطقة يتمنون آن تبلغ بلدانهم مصافها ، هو الاحتمال الأضعف من بين جميع الاحتمالات نظراً للمعطيات الواقعية وتوزع القوى واختلاف المصالح والخيارات . ولأن الثورة ، أي ثورة ، هي صيرورة ، جميع معادلاتها غير خطية . تتقدم وتتراجع ، تنتكس وتتألق ، يخمد بركانها لكنه لايلبث أن ينفجر من جديد طالما لم تنجز بعد مهامها ، وبالتالي ليس بمقدور العالم تحمل تبعات إعادة إنتاج كل من الاستبداد والثورة، الثورة تقدم في الاتجاه، رغم تشوه بنيتها، إلا أنها لا تقبل النكوص.