تتجه الأمور في غزة نحو مزيد من الغموض والضبابية بعد قرابة 268 يومًا من المعارك الضارية، في ظل الحديث عن المرحلة الثالثة من الحرب وتجميد مسار المفاوضات عمليًا بشأن صفقة تبادل أسرى بين حكومة بنيامين نتنياهو وحركة المقاومة الفلسطينية “حماس”.
وتتعالى نبرات النقاش الحاد داخل الغرف المغلقة والعلنية – على حد سواء – في الوسط الإسرائيلي، بشأن المرحلة الثالثة والأخيرة لتلك الحرب كما خُطط لها سابقًا، حيث تصدرت تلك المسألة المباحثات التي أجراها وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت مع المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين، خلال زيارته إلى واشنطن الأسبوع الماضي، وإن لم يحدد موعد الانتقال لتلك المرحلة ولا تفاصيلها.
ترسخ الخطط التي وضعها مجلس الحرب المصغر رغبة كل من رئيس وزراء الاحتلال وحلفائه من اليمين المتطرف في إطالة أمد الحرب قدر الإمكان، وعدم إنهائها بالشكل الدبلوماسي الذي ترغبه واشنطن والوسيطان المصري والقطري، وذلك لتحقيق أهداف سياسية خاصة، وتأتي المرحلة الثالثة المزعومة لتؤكد تلك الرغبة، وتكشف نية حكومة الاحتلال في نسف مقترح جو بايدن الذي كشف عنه الشهر الماضي، فضلًا عن تلاعب نتنياهو وجنرالاته بأحلام ومشاعر أهالي الأسرى والمحتجزين.. فما تفاصيل تلك المرحلة؟
حرب و3 مراحل
تحدث الإعلام الإسرائيلي ونخبه السياسية والعسكرية منذ بداية العملية البرية في غزة في 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن تقسيم الحرب إلى 3 مراحل رئيسية تستهدف في النهاية تحقيق الأهداف الثلاث: القضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى وضمان ألا يشكل القطاع تهديدًا للداخل الإسرائيلي.
المرحلة الأولى: مرحلة القصف الجوي المعروفة بـ”الأرض المحروقة” حيث القصف العشوائي بالطائرات والقاذفات لمعظم مناطق القطاع وتدمير معظم البنى التحتية وتحويل القطاع إلى أرض غير قابلة للحياة، بما يساعد على طرد السكان وتفريغ المناطق وكشفها بصورة تمهد للمرحلة التالية وهي العملية البرية.
المرحلة الثانية: بعد تفريغ وكشف القطاع تبدأ العملية البرية بالدبابات والمدرعات بهدف القضاء على مرتكزات حماس وبقية فصائل المقاومة واستهداف بنيتها العسكرية واللوجستية تحت الأرض، كذلك تدمير قوتها التسليحية وإصابتها بالشلل التام وفقدانها للقدرة على المواجهة بشكل مباشر بعد استنزاف معظم مصادر قوتها وتفكيك منظومتها الإدارية والتنظيمية داخل القطاع.
المرحلة الثالثة: تعتمد على تقليل الوجود العسكري لجيش الاحتلال في القطاع، والاكتفاء بالتواجد في محوري نتساريم (وسط) وفيلادلفيا (جنوبًا)، في مقابل الاعتماد على العمليات النوعية المكثفة والمركزة ذات الأهداف المحددة سلفًا، كاستهداف قادة المقاومة أو مرتكزات رئيسية لها، أو بؤر بشرية ذات دلالة وأهمية خاصة، كمراكز الإيواء والمدارس ودور العبادة وغيرها، بهدف الإجهاز على ما تبقى من المقاومة وإمكانياتها، مع دراسة تفاصيل اليوم التالي للحرب والتباحث حول بديل حماس في القطاع ومستقبل التواجد الإسرائيلي بصفة عامة.
فوضى وارتباك
تكشف التطورات الميدانية وأداء جيش الاحتلال للمعركة منذ بدايتها عدم التزام واضح بمراحل الحرب الثلاثة وتقسيماتها الزمنية، حيث تبنى المحتل استراتيجيات انتقامية خاصة كان الهدف منها تحقيق أهداف الحرب بشكل سريع دون الالتزام بالخطة الموضوعة، ففي معركة الشمال انتهج جيش الاحتلال سياسة الأرض المحروقة والعملية البرية في آن واحد، هذا بخلاف تكثيف العمليات النوعية، حيث استهداف مراكز الإيواء والمدارس والمشافي وغيرها، الأمر تكرر كذلك في خان يونس ووسط القطاع، ثم تكرر في رفح ومناطق الجنوب.
ورغم الحديث عن الانتهاء من المرحلة الأولى والثانية من تلك الحرب كما أشارت وسائل إعلام إسرائيلية نقلًا عن مسؤولين في الحكومة المصغرة والجيش، فإن قوات الاحتلال أعادت الكرة مرة أخرى في الشمال والوسط، حيث الأرض المحروقة والعملية البرية بعد الانسحاب بحجة تحقيق كل الأهداف والقضاء على معاقل المقاومة بها.
واليوم وبينما يزعم الإسرائيلي بقرب بداية المرحلة الثالثة من الحرب، والتي تعني الانتهاء من مرحلتيها السابقتين، حيث القضاء على المقاومة، ها هي كتائب القسام وسرايا القدس تكبدا جيش الاحتلال الخسائر تلو الأخرى في الشمال والوسط والجنوب على حد سواء، ضاربة بالرواية الإسرائيلية عرض الحائط.. ليبقى السؤال: ما الهدف من الإعلان عن المرحلة الثالثة من الحرب؟
الهروب إلى الأمام
يهدف الاحتلال من خلال الحديث عن المرحلة الثالثة من الحرب رغم عدم حسم المرحلتين الأولى والثانية ميدانيًا وفق التطورات اليومية التي تتناقلها وسائل الإعلام هنا وهناك، إلى تحقيق أربعة أهداف رئيسية:
الأول: الخروج من وحل غزة وذلك بعدما تحولت الحرب فيها إلى حرب عبثية، دون رؤية أو هدف، في ظل فشل الاحتلال في تحقيق أي من أهداف الحرب المعلنة سابقًا، وتيقنًا منه بعدم قدرته على تحقيق أي إنجاز يغير قواعد الاشتباك في مقابل تنوع تكتيكات المقاومة واللجوء إلى العمليات النوعية التي تبعثر أوراق الجيش والحكومة معًا.
الثاني: الحفاظ على ما تبقى من قوة الجيش الذي يتم استنزافه بشكل بات يهدد مستقبله القريب (أكثر من 667 مجندًا وضابطًا إسرائيليًا قُتلوا في تلك الحرب منذ بدايتها بخلاف أضعافهم من الجرحى والمرضى النفسيين) وهو ما حذر منه اللواء احتياط تامير هيمان، الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان) ورئيس معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي في جامعة تل أبيب، في دراسته التي أكد فيها أن بقاء “إسرائيل” بوصفها قوة إقليمية أصبح موضع شك وصورتها كدولة قوية عسكريًا تتلاشى، محذرًا من استمرار حرب غزة على قوة الجيش الإسرائيلي، وأن الأمر قد يصل إلى منزلق خطير وحرب استنزاف طويلة الأمد إذا ما تورط في حرب جديدة على الجبهة اللبنانية مع حزب الله.
الثالث: كسر العزلة الدولية، حيث تسببت المرحلتان الأولى والثانية لتلك الحرب في تصاعد الانتقادات الحقوقية والإنسانية وفرض طوق متسع من العزلة الدولية ضد الكيان المحتل جراء الانتهاكات وجرائم الحرب التي يرتكبها الجيش بحق نساء وأطفال غزة، الأمر الذي قد يرى المحتل إمكانيه كسره تدريجيًا إذا ما قلص تواجده العسكري قدر الإمكان داخل القطاع وركز على العمليات النوعية المحدودة، وهو ما يتماهى نسبيًا مع المزاج الأمريكي الراغب في تقليل حدة التوتر وفرض حالة نسبية من التهدئة دون شرط إنهاء الحرب بشكل كلي.
الرابع: إطالة أمد الحرب قدر الإمكان، وهو الهدف الأبرز لنتنياهو ويمينه المتطرف تحديدًا، فالانتقال للمرحلة الثالثة من الحرب يعني أن الحرب لم تنته بعد، وأنها مستمرة بطبيعة الحال وإن لم تكن بنفس الزخم، وهو ما يُبقي على حالة التوتر والشحن والتجييش واستنفار الجبهة الداخلية والخارجية على حد سواء، ما يؤجل حسم مصير رئيس الحكومة ورفاقه سياسيًا ويمنح نتنياهو فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة تقييم المشهد بأريحية دون ضغوط.
نسف عملية المفاوضات
الحديث عن المرحلة الثالثة من الحرب، يعني باختصار حزمة من الرسائل والدلالات على رأسها: استمرار أمد المعركة دون إنهائها بشكل كلي، عدم الانسحاب من كامل مناطق القطاع، ومواصلة العمليات العسكرية وإن كانت في شكلها النوعي المحدد، وهي المؤشرات التي تنسف مقترح بايدن وتفرغه من مضمونه.
وعليه فإن الإعلان رسميًا عن بدء تلك المرحلة، وما تحمله من مؤشرات تتعارض شكلًا ومضمونًا مع مقترح بايدن ومن قبله مقترح الوسطاء، يكتب بشكل رسمي شهادة وفاة عملية للمفاوضات الحالية، ما لم يطرأ طارئ يغير المعادلة، خاصة مع تأكيد المقاومة رفضها لأي مسار تفاوضي لا يتضمن شروطها المسبقة الخاصة بإنهاء الحرب والانسحاب من كل مناطق القطاع، وهي الشروط التي تطيح بها المرحلة الثالثة من الحرب بحسب السردية الإسرائيلية.
وبعيدًا عن رسائل التفاؤل الوهمية التي يبعث بها الإسرائيليون بين الحين والآخر لتهدئة عائلات الأسرى والمحتجزين، نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن مسؤولين إسرائيليين مطلعين على عملية المفاوضات مع حماس قولهم إن هناك حالة من عدم التفاؤل بشأن التوصل إلى صفقة مع المقاومة، وأن هناك عملية إيهام وخداع لأهالي المحتجزين بقرب الوصول إلى اتفاق تبادل.
وكان نتنياهو خلال المقابلة التي أجرتها “القناة 14” العبرية معه قبل أيام، قد أكد على مواصلة الحرب وعدم إنهائها بما يعني رفض مقترح بايدن، وهي التصريحات التي عاد وتراجع عنها لاحقًا بعد الانتقادات التي تعرض لها، لكنه التراجع الذي لا يغير من رغبته وإصراره على عرقلة أي جهود تفضي لإنهاء الحرب حتى لو كلفه ذلك توسعة رقعة المواجهة لتشمل جبهات أخرى كلبنان وسوريا واليمن وغيرها.
ورغم تأكيد العديد من الأصوات السياسية والعسكرية داخل الوسط الإسرائيلي على استحالة القضاء على حماس وصعوبة استبدالها بسلطة أخرى لإدارة القطاع، كأحد معطيات اليوم التالي للحرب، مع قدرتها على تطوير نفسها كلما اقتضت الحاجة ميدانيًا، علاوة على إجهاض العشائر الفلسطينية لمؤامرة نتنياهو وتشديدها على أنها “ليست بديلاً عن فصائل المقاومة الفلسطينية، بل هي رديف كفاحي لها، على مختلف توجهاتها السياسية والفكرية”، إلا أن هناك إصرارًا غير موضوعي من رئيس الحكومة وحلفائه من اليمين المتطرف على الاستمرار في ذات المسار المرتبك الخالي من أي مؤشرات ميدانية.
الجميع يعلم هدف نتنياهو من وراء تلك المماطلة وتمسكه بوضع الحرب على جهاز التنفس الصناعي بما يبقيها على قيد الحياة أطول فترة ممكنة، حتى لو كان الثمن نسف المكتسبات التي حققها الكيان على مدار أكثر من 70 عامًا من الاحتلال، وهنا التساؤل الأهم: إلى متى يُترك رئيس الوزراء المأزوم يتلاعب بمستقبل دولة الاحتلال لحسابات شخصية؟