ترجمة وتحرير نون بوست
وصلتُ إلى مستشفى شهداء الأقصى في 2 آذار/مارس بعد نجاتي من الهجوم الذي أودى بحياة 14 فردًا من عائلتي، وكنتُ الناجية الوحيدة من عائلتي، وعند وصولي إلى المستشفى كنت أعاني من كسور في الحوض والتجویف الحقي منعتني من المشي أو حتى الوقوف.
وبسبب نقص الرعاية الطبية والطاقم الطبي، لم أتمكن من الخضوع للجراحة التي كنت بحاجة إليها، وبسبب عدم قدرتي على المشي، سُمح لي بالبقاء في المستشفى مع العديد من النساء والأطفال الجرحى الذين كانوا يعانون أشد المعاناة.
من على سريري في الغرفة رقم 7 في الطابق الثالث من مستشفى شهداء الأقصى، تمكنت من مشاهدة معاناة أكثر من 25 جريحًا من النساء والأطفال، وكان سريري مغطى من ثلاث جهات بستارة صفراء لكني استطعت مقابلة الآخرين في غرفتي، وكثير منهم أصيبوا بحروق شديدة وخضعوا لعدة عمليات جراحية في ظروف طبية مستحيلة.
والتقيت بآخرين خضعوا لعمليات بتر أطراف، وآخرين فقدوا أطفالهم، وآخرين انتظروا بلا حول ولا قوة للحصول على تحويلاتهم الطبية، وتوفي العديد منهم أثناء ذلك، وقد كانت هذه فقط هي الحالات التي تمكنت من رؤيتها.
كان معظم الجرحى الذين رأيتهم أثناء رحلاتي النادرة في المستشفى من ضحايا الحروق، وأتذكر على وجه الخصوص العديد من النساء والأطفال الذين جاءوا إلى الغرفة رقم 7 وهم محترقون ويصرخون من شدة الألم.
كريمة ذات الـ 50 عامًا، أصيبت خلال الأيام الأولى من رمضان، وفقدت 52 شهيدًا من عائلتها؛ بما في ذلك ابنها وزوجته وحفيدها، واحترق ظهرها وساقاها بالكامل، كانت تصرخ من شدة الألم، وكانت تذهب لإجراء العمليات الجراحية كل يوم، لكن لم تستطع الخضوع لأي عملية جراحية خلال الأسبوع الأول الذي قضته في المستشفى بسبب خطورة إصابتها.
وانتظرت كريمة بلا حول ولا قوة، لتتمكن من السفر لتلقي العلاج المناسب، وتوفيت بعد 50 يومًا من إصابتها، وكأن تلك الأيام كانت صدى لـ 50 عامًا عاشتها، لكنها كانت مليئة بالألم فقط.
في مساء أول أيام العيد؛ جاء أربعة أشخاص إلى الغرفة رقم 7 وهم ينتحبون ويصرخون، حيث تعرض المنزل المجاور لمنزلهم للقصف وأصابت الشظايا إمدادات الغاز عندهم.
وكانت نصرة، وهي أم لطفلين، تطهو عشاء العيد عندما حدث القصف، ليتحوّل الغاز إلى كرة نارية في ثوانٍ ما أدى إلى احتراق ناصرة (29 سنة) وابنتها قمر (سنتان) وشقيقها يوسف (13 سنة) وابن أخيها حسن (سنة واحدة).
وتوفي حسن الصغير خلال أسبوع، بينما بدأ الثلاثة الآخرون في التعافي بعد عدة عمليات جراحية، لكن المؤسف أن منزل يوسف تعرض لقصف بعد شهر واحد من خروجه من المستشفى، وأصيب مرة أخرى بحروق في جميع أنحاء جسده، ومات بعد ثلاثة أيام.
وفي شهر أيار/مايو؛ تعرضت هالة (22 سنة) وابنها عصام (سنتان) للقصف أثناء وجودهما في منزلهما، وكانا الناجييْن الوحيديْن من تحت الأنقاض؛ حيث احترق ظهرها وكلا ساقيها، كما احترق وجه ابنها وساقيه أيضًا، وينتظر كلاهما فتح معبر رفح للسفر لتلقي الرعاية الطبية.
وكانت وسام (27 سنة) مصابة بمرض السكري، وكانت تعيش في خيمة عندما جرحت قطعة من الخشب قدمها، ولأن العدد الهائل من الإصابات يعني أن المستشفيات غير قادرة على إعطاء كل مريض الوقت والعلاج الذي يحتاجه للتعافي؛ فلم يكن أمام الأطباء خيار سوى بتر قدمها.
مزقت أسماء قلبي، عمرها 16 سنة فقط، وكانت تبدو لطيفة جدًا وفتاة أنيقة وهادئة، وأثناء نزوحها في مخيم النصيرات، أصيبت بشظية في يدها اليمنى، ومثلها مثل كثيرين غيرها، انتظرت الإحالة الطبية لتلقي العلاج، وعلى عكس كثيرين غيرها، حصلت عليها أخيرًا بعد حوالي 40 يومًا.
أثناء تواجدي في المستشفى كان طابق الأطفال الجرحى مكتظًا بالعديد من الأطفال الذين يعانون من إصابات مميتة، ولإفساح المجال تم نقل العديد منهم إلى الطابق الثالث وهو طابق النساء.
أصيبت دانا، البالغة من العمر 3 سنوات فقط، برصاصة من طائرة “كواد كابتر” أثناء وجودها في خيمة، واخترقت الرصاصة معدتها وكليتها وأمعاءها وتوقفت بالقرب من قلبها، وخضعت لعملية جراحية صعبة، لكن الرصاصة ما زالت عالقة في جسدها الصغير، فيما استشهد والدها خلال الأيام الأولى من هذه الحرب لكنها ظلت تبكي عليه: “أبي، أريد أبي!”.
أما قصة لبنى فكانت أكثر القصص المأساوية التي سمعتها، فهي تبلغ من العمر 13 سنة، وهي الابنة الكبرى لأسرتها، وقد سقط صاروخ على منزلها في خان يونس وقتل جميع أفراد عائلتها إلا هي، وفقدت والديها وجميع أشقائها.
بعد خضوعها لعدة عمليات جراحية؛ وجد أعمامها وعماتها صعوبة في إخبارها بالحقيقة، وظلوا يخبرونها أن والديها على قيد الحياة ولكنهما مصابان بجروح خطيرة، غادرت المستشفى إلى منزل عمها دون أن تعلم أنها الناجية الوحيدة في عائلتها.
وكونتُ صداقة مع ميرا (6 سنوات)، التي كانت نازحة في دير البلح عندما تعرضت البناية الذي كانت فيها للقصف، وأصابت إحدى الشظايا ساقها اليمنى وأحدثت جرحًا مفتوحًا واسعًا، وكانت تصرخ أثناء تنظيف جرحها دون أي مخدر، ورغم صغر سنها وألمها الشديد، إلا أنها كانت تصر على محاولة تحسين مزاجي كلما رأتني حزينة.
كان أكثر ما يحزنني هو رؤية الأمهات الجريحات اللواتي كنّ يعانين من الألم والفقدان على حد سواء، وكان يحزنني أكثر عندما ينسين آلامهن ويفكرن فقط في أطفالهن الجرحى أو القتلى.
فقدت لينا (33 سنة) ابنتيها في قصف منزل جيرانها وأصيب ظهرها بكسر في الهجوم، وقد خضعت فورًا لعملية جراحية، وكانت عاجزة عن المشي أو حتى القليل من الحركة، لكنها ظلت تبكي على طفلتيها.
لا أعتقد أن نصرة صرخت مرة واحدة من ألم حروقها، وفي كل مرة كانت تبكي، كانت تبكي على ابنتها المصابة البالغة من العمر سنتين.
كانت جميع النساء تقريبًا في الغرفة 7 من الأمهات، فقد فقدت سمر، 38 سنة، ابنها الأصغر سند، وكُسر ذراعها، أما أمل، 36 سنة، فقد تحطمت ساقها، ولزمت سرير الجراحة، تاركةً أطفالها الذين زاروها عدة مرات لتدبير أمورهم بأنفسهم.
وأصيبت صابرين، 29 سنة، بجروح غائرة في كلتا ساقيها، وعندها طفلها حديث الولادة؛ حيث كان عمر ابنها أمير شهرًا واحدًا فقط عندما أصيبت، واضطر أن يعيش في شهره الثاني والثالث في المستشفى مع أمه.
يحتاج ما يقارب 70٪ من الجرحى إلى عمليات جراحية ورعاية طبية أكثر تعقيدًا مما يمكن توفيره داخل القطاع الصحي المنهار في غزة، ويحتاجون إلى السفر لتلقيها، أنا شخصيًا لم أتمكن من الحصول على العلاج الطبي المناسب الذي أحتاجه، كما لم يُسمح لي بالسفر، وهناك الكثير من أمثالي، ينتظرون دورهم للسفر بلا حول ولا قوة، ماتت كريمة وهي تنتظر، وجميع المرضى ينتظرون الآن لفترة غير معروفة منذ إغلاق معبر رفح في 6 أيار/مايو.
يعاني النساء والأطفال في غزة أكثر من غيرهم، ورغم أن الستائر الصفراء الثلاثة حرمتني من رؤية معظم هؤلاء النساء والأطفال الجميلين، لكن سماع قصصهم وصراخهم ودعائهم كان نافذتي على الأهوال التي يعيشونها.
المصدر: موندويس