ترجمة وتحرير: نون بوست
إن الأزمة السورية تشغل بال أوروبا والشرق الأوسط على حد السواء، وهي تعد أسوأ كارثة إنسانية شهدها العالم منذ عقود. ويوما ما، سيذكرنا المؤرخون إلى أي درجة أهدر الغرب فرصا كان يمكن استغلالها لإجبار بشار الأسد على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، حيث كان بإمكانهم ممارسة الضغط الكافي في الوقت المناسب على قواته، ولا سيما من خلال الضربات الموجهة. وفي الحقيقة، كانت هذه هي الطريقة التي أخضعت سلوبودان ميلوسيفيتش، وأجبرته على التوقيع على اتفاق دايتون سنة 1995، الذي وضع حدًا للفظائع المرتكبة في البوسنة.
في صائفة 2013، ضاعت فرصة تسوية هذا النزاع نتيجة التردد الأمريكي. وفي حال أُعيد فتح السجلات يوما ما؛ فسيتبين أن فشل الولايات المتحدة في التمسك بالخطوط الحمراء المتعلقة باستخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا هو الذي شجع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على التدخل عسكريا في سوريا، دعما لديكتاتور يقتّل المدنيين منذ سنة 2011.
من جهتي، لم أكتب هذا التقرير لتبييض السياسات الأوروبية؛ ففي حين كانت بريطانيا تمارس سياسة ضبط النفس، وكان باراك أوباما يرفض التدخل في الحرب السورية، كانت المقاتلات الفرنسية مستعدة للإقلاع في آب/ أغسطس من سنة 2013، إلا أنه لا يمكنها أن تشن حملة في سوريا لوحدها.
مع ذلك، كانت جهود مد جسور التواصل بين الشرق الأوسط وروسيا وأوروبا، وتردد الولايات المتحدة في التدخل، من أبرز العوامل في الأزمة السورية. وبما أن هذه الحرب القائمة في منطقة الشرق الأوسط، قريبة جغرافيا من الدول الأوروبية، فيجب دراسة تداعيات هذه الفوضى بشكلٍ كامل.
من المحتمل أن يطاردنا شبح سوريا لزمن طويل، فمنذ سقوط الرقة خلال السنة الماضية تحولت الأزمة تدريجيا إلى ما يشبه الحرب العالمية
خلال سنوات الحرب، قُتل في سوريا أكثر من نصف مليون شخص، ولا تزال حصيلة القتلى قابلة للارتفاع. ويجب ألا ننسى أن أول الضحايا الذي سقطوا، قتلوا في ساحة حربٍ قائمة في الشرق الأوسط وليس في أوروبا. لكن، لا ينفي هذا أن لنا صلة بويلات الحرب التي يعيشها الشعب السوري، التي تتجاوز مجرد الشعور بالاستياء والاكتفاء بمشاهدة الأطفال الذين يتعرضوا للقصف في مستشفيات الغوطة الشرقية.
بعد نزعة التفاؤل الذي أعقب الحرب الباردة، كان من المفترض أن تكون أوروبا قادرة على إرساء الاستقرار في العالم. لكن خلال السنوات الأخيرة، يبدو أن حالة عدم الاستقرار والفوضى في الخارج قد طالت أوروبا، ليتمخض عن ذلك المشروع الأوروبي الذي يهدف إلى الحيلولة دون تكرر سيناريوهات الحروب الماضية. أما اليوم، تلعب ألمانيا دور المهيمن المتردد في أوروبا، خاصة على الصعيد العسكري؛ في حين تعتبر كل من بريطانيا وفرنسا، من الدول الاستعمارية السابقة في الشرق الأوسط، اللتان أضحى نفوذهما في هذه المنطقة ضئيلا.
من المحتمل أن يطاردنا شبح سوريا لزمن طويل، فمنذ سقوط الرقة خلال السنة الماضية تحولت الأزمة تدريجيا إلى ما يشبه الحرب العالمية، على الرغم من أن القوى العظمى المتدخلة في هذا النزاع وهي روسيا، وإيران، وتركيا، والولايات المتحدة، لم تنخرط بعد في حرب مفتوحة ضد بعضها البعض. لكنهم في المقابل يتنافسون من أجل السيطرة على الأراضي السورية. ومن جانب آخر، يميل بعض الخبراء إلى عقد مقارنة بين الحرب السورية والصراع اللبناني الذي دام 15 سنة، على الرغم من أن نقطة الائتلاف الوحيدة بينهما هي “الحرب بالوكالة”.
في الواقع، إن الأوروبيين مهمشون بشكل كبير. فبغض النظر عن مدى علو صوت قياداتنا السياسية أحيانا، إلا أننا لم نستوعب بعد كيف أثرت كارثة سوريا على الطريقة التي ننظر بها إلى العالم وإلى أنفسنا والقيم التي نحب أن نعلن عنها. وبعد سنة 1945، على سبيل المثال، قلنا إنه “لن تحدث مأساة مرة أخرى“، لكنها حدثت مجددا أمام أعيننا، فأصبحت سوريا دليلا مطلقا لعجزنا، وهو ما سمحنا جميعنا بحدوثه.
نجد اللامبالاة في ردود الأفعال التي من المفترض أنها سلمية، وهي الظاهرة الحاضرة في اليسار الراديكالي من الطيف السياسي في أوروبا
نتيجة لذلك، باتت سوريا بمثابة الدوامة التي فككت بسرعة فائقة النظام العالمي، الذي يقوم على قواعد محددة. وينبغي أن يشغل ذلك بالنا بشدة، لأن أوروبا لطالما كانت لها مصلحة أكبر في منظومة الأمم المتحدة مقارنة بالولايات المتحدة. وعندما تنهار القواعد، كما حدث مع عصبة الأمم في ثلاثينيات القرن العشرين، ندرك جيدا آنذاك كيف يمكن للوحوش أن تطل برؤوسها.
أما اليوم، فتعد سوريا المكان الذي يحظى فيه الحكام المستبدون والشموليون الجدد، بالنصر. ويعتبر كل من بوتين ورجب طيب أردوغان، إلى جانب ثيوقراطية الجيش الإيراني، محتلين لأرض مرتفعة، أو هكذا يُنظر إليهم على نطاق واسع، وهو الأمر المثير للاهتمام. من جانبها، تقف بالكاد شخصية دونالد ترامب كمنارة مطمئنة. فعندما يمكن لرجال مثل هؤلاء السيطرة على الكثير من الأحداث، تبرز ظاهرتان متناقضتان، ولكن تدعمان بعضهما البعض، في أوروبا.
تتمثل الظاهرة الأولى في عودة جاذبية الرجل القوي الذي لا يرحم. ويعتبر اليمين المتطرف الأوروبي، فضلا عن نموه المتزايد في السياسة العامة، أبرز الأراضي الخصبة لصعود هذا الخط الفكري، وذلك بغض النظر عن التكلفة البشرية المترتبة عنه. بناء على ذلك، لا شيء يقف أمام القائد، الذي تُبرر له الغايات كل الوسائل، في الوقت الذي لا يُرى فيه المدنيون على أنهم مدنيون، بل مجرد “إرهابيين”. من جهة أخرى، لا تمثل قرارات الأمم المتحدة قانونا، بل هي مجرد ورقات يمكنها أن تخفف حدة غضب الليبراليين المهووسين، قبل أن تتكلم القنابل من جديد، وإلى أن تُقام منطقة مهجورة يطلق عليها في وقت لاحق، منطقة سلمية.
علاوة على ذلك، نجد اللامبالاة في ردود الأفعال التي من المفترض أنها سلمية، وهي الظاهرة الحاضرة في اليسار الراديكالي من الطيف السياسي في أوروبا، انطلاقا من لندن ووصولا إلى برلين وأثينا، الذي تخفي “نسبيته الأخلاقية” نفسها تحت غطاء “النزعة الدولية”. ومنذ البداية، كان التفكير يقود إلى أن أزمة سوريا معقدة جدا لأنها أزمة تحديد الحلفاء الجيدين. ويعتبر الغرب في هذا الصدد مذنبا، لاعتباره تغيير النظام أمرا سيئا، حتى عندما يكون ذلك مطلب شعب يائس.
سنحتاج إلى التدقيق والبحث في أسباب تحول الاستجواب اللازم للغرب بطريقة أو بأخرى إلى لامبالاة على نطاق واسع لما يمكن للسلطات الاستبدادية أن تصل إليه
يتمحور الصراع حول السيطرة على حقول النفط، التي يمكن للعقوبات لوقف التدفقات المالية، إنهاؤها. في الأثناء، يمكن الاكتفاء بالجلوس على طاولة المفاوضات والتحدث. وفي هذا الإطار، يعتبر طيارونا مجرمين شأنهم شأن طياري بوتين، ذلك أنهم لا يهتمون بالقصف المتعمد والمتكرر على مستشفيات الغوطة الشرقية.
لكن، كونوا على حذر من وسائل الإعلام الغربية السائدة التي ترى بأنه إذا توقفنا عن التدخل في سوريا، فإن الأمور ستتحسن. إن إيران وروسيا تمثلان ثقلا للموازنة الإمبريالية الأمريكية القديمة. وتبرز النتيجة سلبية وأوروبية مشوشة وتعكس العجز عن مواجهة الحرب الشاملة التي تتكشف على بعد رحلة تدوم بضع ساعات فقط. وبالطبع، صدرت إدانات وتصريحات لوزراء الخارجية ودعوات منادية بالتدخل وفعل شيء ما، إلا أن مجتمعاتنا سقطت فريسة للقصور الذاتي والارتباك.
في يوم من الأيام، سنحتاج إلى النظر عن كثب إلى التسلسل الزمني للأحداث التي تحولت فيها مكافحة الإرهاب، ولا نتحدث هنا عن ذلك المفهوم المدعوم من الأمم المتحدة حول “مسؤولية حماية” المدنيين، إلى أولويتنا الوحيدة. بالإضافة إلى أن التدخل العسكري ضد تنظيم الدولة أصبح مستساغا سياسيا في سنة 2014، وذلك ليس بسبب تعرض العرب واليزيديين للذبح، ولكن لأن رؤوس الرهائن الغربيين قد قُطعت. في السياق ذاته، سنحتاج إلى التدقيق والبحث في أسباب تحول الاستجواب اللازم للغرب بطريقة أو بأخرى إلى لامبالاة على نطاق واسع لما يمكن للسلطات الاستبدادية أن تصل إليه.
تعتبر سوريا بمثابة مأساة بالنسبة لأوروبا، ليس لأنها أيقظت بين الفينة والأخرى غضبنا الصريح، وإن كان ذلك بمقدار متواضع إلى حد ما، أو لأن سياسات قارتنا قد قُلبت رأسا على عقب مع قدوم اللاجئين الوافدين. في الحقيقة، تعد سوريا جزءا كبيرا منا لأننا، وفي الوقت الذي نودّ أن نعتقد فيه أننا ننظر إلى أنفسنا في المرآة بعد المذبحة التي عصفت بأوروبا في القرن العشرين، تركنا نسبة من “العدمية” تزحف إلى الطريقة التي نقترب بها من الجحيم المستعر ليس بعيدا عن حدودنا. كما يبدو أننا قد قمنا بتطعيم أنفسنا ضد العار، في حين تبقى سوريا هي هزيمتنا الأخلاقية.
المصدر: الغارديان