“ولتعلم الأمة أن مجلسها هو الذي سيضع بمشاورتي دستور استقلالها على قواعد الحكومات السياسية الديمقراطية ، ويعين أسس حياتها السياسية والاجتماعية”
كانت هذه نص كلمات الملك فيصل الأول في خطاب التتويج الذي ألقاه في 23 آب 1921م بعد إعلانه عن السعي لاجراء انتخابات للمجلس التأسيسي للبلاد يضع قاون البلاد الأساسي، ومن هنا بدأ العراق الحديث رحلته في صناعة أول دستور، وقد أنجز المجلس القانون الأساس “الدستور الأول للعراق” بتاريخ 10 تموز سنة 1924م وتمت المصادقة عليه، لكنه لم يصدر ويدخل حيز التنفيذ إلى بعد 8 شهور في 21 آذار سنة 1925م، ليفسح المجال للتعاقد النفطي لمجلس الوزراء مع الشركة البريطانية دون الرجوع للمجلس وذلك تعتبر هذه الحادثة أول إلتفاف على الدساتير العراقية التي نشهد الكثير منها، حتى يومنا هذا.
عبد الكريم قاسم مؤسس الجمهورية في العراق
دستور الجمهورية الأولى
في 14 تموز 1958م انهار النظام الملكي وفي 27 تموز من العام نفسه، أعلن الزعيم الركن عبد الكريم قاسم عن دستور الجمهورية الأولى الذي حكم العراق للفترة بين 1958 إلى 1963م، الدستور الذي يعتبر أسرع دساتير العراق من ناحية الإنجاز حيث تمت صياغته بفترة لا تتجاوز الأسبوعين، وبمواد تم تقليصها إلى 30 مادة فقط.
ورغم أن الدستور منح منصب عبد الكريم قاسم الصلاحيات المطلقة حيث جمع الصفة التشريعية والتنفيذية بيد منصب رئيس الوزراء الذي يشغله قاسم، لكن رغم ذلك فإن المواد 9-10-11-12-13 نصت على الحريات والمساواة المدنية والقانونية، الأمر الذي لم يطبق على الإطلاق، فقد كانت مطاردات الحزب الشيوعي الحاكم لكل معارض له من القوميين، والتميز والإقصاء السياسي واضح في تلك الفترة حتى في داخل القوات المسلحة، الذي جعل من هذه المواد الدستورية عبارة عن حبر على ورق ليس أكثر، وهذا ما يعد الإنتهاك الأول والأكبر لدستور الجمهورية الأولى الذي رسخ مفهوم عدم الإلتزام بالدساتير في العراق فيما بعد.
أحمد حسن البكر رئيس جمهورية العراق (1968م- 1979)
دساتير الجهورية الثانية – البعث
مثلت الإطاحة بقاسم والحزب الشيوعي وقدوم النظام البعثي للسطلة في العراق، توقف العمل بستور 58 ليحل محله قانون المجلس الانتقالي لقيادة الثورة من 20 مادة في عام 1963م ثم تبعه دستور 64 المؤقت ثم دستور 68 وبعده دستور 70، وصولاً إلى مشروع الدستور العراقي في 1990م الذي لم يبصر النور، لكن كل هذه الدساتير رغم أن هدفها الأساسي كان تحول العراق من عراق ذو نظام ثوري إلى بلد دستوري يحكمه القانون، لكن هذا الأمر لم يحدث مطلقًا في ظل نظام شمولي استمر حتى عام 2003.
ورغم أن خطاب البعث خلال عمله السياسي ضد قاسم والحزب الشيوعي كان يستخدم ورقة الحريات والتعددية وينتقد مفهوم الشمولية والنظام ذو الحزب الواحد والقمع، لكنه منذ وصوله للسلطة مارس ما كان يمارسه قاسم والحزب الشيوعي ليكون تعريف المواطنة الصالحة هي المواطنة التي تضمن استمرار ودعم الحزب الحاكم، وذلك باعتراف أعضاء في قيادة البعث نفسه، حيث ذكر ذلك عمر صلاح العلي عضو القيادة القطرية لحزب البعث خلال حواره في برنامج شاهد على العصر، مما يوضح صورة وحقيقة واقع الدساتير والقوانين في العراق في تلك الحقبة الزمنية.
همام حمودي رئيس لجنة صياغة دستور 2005
دستور 2005 الحالي
رغم كل الاعتراضات وعمليات الشد والجذب التي رافقت صياغة وإقرار دستور 2005 إلى أنه مرر بما فيه من انتقادات متعددة الوجوه ليكون مرجعية للعراق الحديث ما بعد 2003 كما تمنى كاتبيه أن يكون، الدستور العراقي الذي اقر بالتصويت العام دخل حيز التنفيذ عام 2006، ورغم مرور أكثر من 12 عام على إقرار الدستور فإن عدد ليس بالقليل من مواد الدستور غير مفعلة ولم تدخل حيز التنفيذ حتى فيما يتعلق بطرق حكم العراق ونظامه!
وعلى الرغم أن دستور 2005 يحتوي على نصوص شبيهة بنصوص الدساتير السابقة التي تكفل الحرية والمساواة والرعاية لكن غياب التطبيق هذه المرة شكل بنود تقع في صلب السلطة وآليات عملها وهذا ما أنفرد به دستور 2005 الحالي.
هنالك استخفاف عام من قبل السلطات الحاكمة بأشكالها المتعددة بوعي الشعب العراقي لقوانينه الحاكمة وما يمتلك من حقوق
حيث تنص المادة (65) من دستور 2005 على التالي: “يتم إنشاء مجلس تشريعي يُدعى بـ (مجلس الاتحاد) يضم ممثلين عن الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، وينظم تكوينه، وشروط العضوية فيه، واختصاصاته، وكل ما يتعلق به، بقانونٍ يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب”.
ورغم مرور 12 عامًا فإن العراقيين لم يشهدو ولادة مجلس إتحاد ليكون جنب إلى جنب مع مجلس النواب ممثلين للسلطة التشريعية في البلاد وفق المادة (48) من الدستور التي تنص على:”تتكون السلطة التشريعية الاتحادية من مجلس النواب ومجلس الاتحاد”.
يقودنا الكلام أعلاه إلى حقيقة واحدة منذ بداية تأسيس الدولة العراقية وإلى يومنا هذا، وهي أن هنالك استخفاف عام من قبل السلطات الحاكمة بأشكالها المتعددة بوعي الشعب العراقي لقوانينه الحاكمة وما يمتلك من حقوق، الأمر الذي خلق حالة حكم غير دستورية مستمرة، رغم زغم الجميع احترام الدستور والاحتكام له! فهل يدرك الشعب العراقي هذا الأمر؟ ويستعيد حقوقه المكفولة باسم الإنسانية والعقل والدين قبل الدساتير الذي وضعها حكامه على مدار قرن من الزمن؟