تطور جديدة يشهده ملف جزيرتي تيران وصنافير، قد يسدل الستار نهائيا على القضية الأكثر جدلا في الشارع المصري خلال العامين الماضيين، وذلك حين أصدرت المحكمة الدستورية المصرية، أمس السبت، قرارا ببطلان كافة الأحكام الصادرة سابقًا بشأن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية والتي نقلت بموجبها تبعية الجزيرتين إلى المملكة العربية السعودية.
المحكمة في حيثيات حكمها أشارت إلى أن “الاتفاقية المبرمة بين الدولتين، المصرية والسعودية، إبريل 2016، تعد من المعاهدات التي يكون التصديق عليها من أعمال السيادة المحظور على المحاكم الرقابة عليها”، وأن “مجلس النواب هو المنوط به رقابة تلك الاتفاقيات والتصديق عليها طبقا للمادة 151 من الدستور المصري”
الحكم جاء قبل ساعات قليلة من زيارة ولي العهد السعودي للقاهرة، اليوم الأحد، في مستهل جولة خارجية تشمل بريطانيا والولايات المتحدة، وهو ما أثار العديد من التساؤلات حول تزامن الحكم والزيارة معًا، فهل باتت القضية على مشارف الفصل الأخير بتسليمها للسعودية بصورة رسمية؟
من أعمال السيادة
أوضحت المحكمة الدستورية (المحكمة العليا في مصر) في حكمها أمس أن “العبرة في تحديد التكييف القانوني لأي عمل تجريه السلطة التنفيذية، لمعرفة ما إذا كان من أعمال السيادة أم لا، رهن بطبيعة العمل ذاته، فإذا تعلق العمل بعلاقات سياسية بين الدولة وغيرها من أشخاص القانون الدولي العام، أو دخل في نطاق التعاون والرقابة الدستورية المتبادلة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية؛ عُدَّ عملاً من أعمال السيادة”
وبناء على ذلك “فإن إبرام المعاهدات والتوقيع عليها تعد من أبرز أمثلة هذه الأعمال، وذلك من وجهين؛ الأول: تعلقها بعلاقة بين السلطة التنفيذية، ممثلة للدولة، وبين سائر أشخاص القانون الدولى العام، من دول ومنظمات دولية، في مراحل التفاوض والتوقيع والتنفيذ، الثانى: وقوعها في مجال الاختصاص المشترك، والرقابة المتبادلة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية”
وبشأن الجهة المختصة بمراقبة هذه الاتفاقيات، أشارت المحكمة إلى أنه “بمقتضى المادة (151) من الدستور يراقب مجلس النواب(البرلمان) السلطة التنفيذية فيما تبرمه من معاهدات، وله أن يوافق أو يرفض ما يدخل منها في اختصاصه بموجب الفقرة الأولى من المادة المذكورة”
على مدار عامين كاملين دخل فيهما ملف الجزيرتين نفق السجال القضائي، بين حكومة تطالب بسعوديتهما والتأكيد على دستورية الاتفاقية الموقعة بين البلدين، وآخرون يتمسكون بمصريتهما
وعن دور السلطة القضائية في هذا الملف على وجه الخصوص، ذكرت “الدستورية” أنه “يمتنع على السلطة القضائية بجميع جهاتها ومحاكمها التدخل في أي من هذه الشؤون جميعها حتى تمامها، فإذا نُشرت المعاهدة وفقًا للأوضاع المقررة في الدستور، وأصبح لها قوة القانون، جاز مراقبتها قضائيًا من وجهين، الأول: رقابة استيفائها للشروط الشكلية المقررة فـي الدستور، والثاني: الرقابة الموضوعية للمعاهدة، وهي رقابة تجد موجباتها في نص الفقرة الأخيرة من المادة (151) من الدستور، التي حظرت مخالفة المعاهدة لأحكام الدستور كافة، وهذه الرقابة القضائية على المعاهدات، من وجهيها، هي رقابة دستورية وليست رقابة مشروعية، وهي منوطة استئثارًا بالمحكمة الدستورية العليا، لا تشاركها فيها جهة قضائية أخرى أيًّا كانت”.
وخلصت إلى أن “توقيع اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، من الأعمال السيادية؛ الأمر الذي خالفه الحكم الصادر في الدعويين رقمي 43709، 43866 لسنة 70 قضاء إداري، والمؤيد بالحكم الصادر من دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 74236 لسنة 62 عليا، بأن قضي باختصاص القضاء الإداري بنظر صحة توقيع ممثل الدولة المصرية على اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين حكومتي جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية، حال كونه ممنوعا من ذلك، على نحو ما سلف، عدوانًا على اختصاص السلطة التشريعية، فإنه يكون خليقًا بعدم الاعتداد به”.
https://www.youtube.com/watch?v=SjPR2MqIV3Q
ماذا يعني الحكم؟
الحكم الصادر أمس عن “الدستورية” يعني بطلان كافة الأحكام الصادرة بحق الجزيرتين، سواء كانوا بمصريتها أو سعوديتها، ومن ثم إلقاء الكرة في ملعب السلطة التشريعية “البرلمان” بصفتها المراقب على توقيع السلطة التنفيذية “الحكومة” على مثل هذه المعاهدات التي صنفتها المحكمة بأنها من “الأعمال السيادية”.
الأحكام القضائية المتضاربة ألقت بالاتفاقية الموقعة بين مصر والسعودية قبل عامبن في متاهة قانونية ألقت بظلالها على الشارع المصري الذي انقسم ما بين مؤيد ومعارض، غير أن المحكمة الدستورية العليا حسمت هذا الجدل في الحادي والعشرين من يونيو/حزيران الماضي بوقف تنفيذ كافة الأحكام، وهو ما كان بمثابة ضوء أخضر أمام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، للمصادقة على الاتفاقية في الرابع والعشرين من نفس الشهر، بعد موافقة مجلس النواب “البرلمان” عليها.
رغم حسم حكم الأمس لسعودية تيران وصنافير وفق منطوق المحكمة، غير أن قانونيين اعتبروه شهادة وفاة لدور السلطة القضائية الرقابي على مثل هذه المعاهدات، كما جاء على لسان الخبير القانوني، نور فرحات، والذي كتب على صفحته الشخصية على “فيس بوك” معلقا على حكم الدستورية قائلا: “للتنويه: حكم المحكمة الدستورية لم يفصل في مسألة مصرية الجزيرتين أو سعوديتهما ولكنه قضي بغل يد القضاء عن مراقبة إبرام المعاهدات”، وتابع “بايجاز شديد: انتهت تماما المعركة القضائية دفاعا عن تيران وصنافير”.
عامان من السجال
على مدار عامين كاملين دخل فيهما ملف الجزيرتين نفق السجال القضائي، بين حكومة تطالب بسعوديتهما والتأكيد على دستورية الاتفاقية الموقعة بين البلدين، وآخرين يتمسكون بمصريتهما مستندين إلى عشرات الوثائق والأدلة التي تثبت ذلك.
وقد مرت القضية منذ الإعلان عن تفاصيلها خلال زيارة العاهل السعودي، سلمان بن عبدالعزيز، للقاهرة في إبريل 2016، بموجات من المد والجزر داخل ساحات القضاء، أسفرت عما يقرب من 7 أحكام، تباينت فيما بينها ما بين سعودية الجزيرتين ومصريتهما.
البداية كانت في الثامن من إبريل 2016 حين تم توقيع عدد من الاتفاقيات بين مصر والسعودية من بينها اتفاقية ترسيم الحدود والتي بمقتضاها يتم نقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، لتخرج على السطح بعد أقل من أسبوع من توقيع الاتفاقية دعوات للاحتشاد والتظاهر رفضا لها، حيث تظاهر آلاف المصريين أمام نقابة الصحفيين تنديدًا بتوقيع الاتفاقية في جمعة أطلق عليها “جمعة الأرض هي العرض”، وحدوث اشتباكات مع قوات الأمن التي حاصرت النقابة ما أدى إلى وقوع إصابات واعتقال بعض منهم.
في الحادي والعشرين من يونيو 2016، قضت محكمة القضاء الإداري ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود وتؤكد على الهوية المصرية لتيران وصنافير، وهو ما مثل صدمة للحكومة المصرية حينها، حيث قامت بالطعن على هذا الحكم أمام محكمة الأمور المستعجلة، لتصدر هي الأخرى بدورها حكما في التاسع والعشرين من سبتمبر من نفس العام ببطلان حكم محكمة القضاء الإداري الذي أبطل نقل الجزيرتين للسعودية.
وردا على حكم “الأمور المستعجلة” أصدرت محكمة القضاء الإداري حكما جديدًا يقضي بالاستمرار في تنفيذ حكم مصرية “تيران وصنافير” ورفض استشكال الحكومة المقدم للطعن على حكمها السابق، وذلك في الثامن من نوفمبر 2016.
المحكمة في حيثيات حكمها أشارت إلى أن الاتفاقية المبرمة بين الدولتين، المصرية والسعودية، إبريل 2016، تعد من المعاهدات التي يكون التصديق عليها من أعمال السيادة المحظور على المحاكم الرقابة عليها
في الحادي والثلاثين من ديسمبر من ذات العام رفضت محكمة “مستأنف الأمور المستعجلة” الطعن على حكم الأمور المستعجلة ببطلان الاتفاقية، ومن ثم تأييد سعودية الجزيرتين، لترد عليها المحكمة الإدارية العليا في السادس عشر من يناير 2017 ببطلان الاتفاقية ومن ثم تأييد مصرية الجزيرتين.
في الثاني من إبريل 2017 قضت الأمور المستعجلة ببطلان حكم الإدارية العليا لتؤكد دستورية الاتفاقية وسعودية الجزيرتين، غير أنه وأمام هذه المتاهة القانونية أصدرت المحكمة الدستورية في الحادي والعشرين من يونيو 2017 قرارًا بوقف تنفيذ كل الأحكام حولها، إلى حين الفصل في النزاع بين القضاء الإداري والقضاء المستعجل، وهو ما كان بالأمس برفض كافة الأحكام الصادرة واعتبار الاتفاقية من أعمال السيادة التي ليس للقضاء سلطة عليها.
هل تحسم زيارة ولي العهد السعودي لمصر ملف الجزيرتين بصورة نهائية؟
ابن سلمان في القاهرة
العديد من علامات الاستفهام أثارتها زيارة ولي العهد السعودي للقاهرة اليوم بعد ساعات قليلة من حكم الدستورية العليا أمس، حيث انقسم الشارع ما بين من يرى التزامن مقصودًا وله دلاله في ظل حزمة التفاهمات المقرر تنفيذها بين البلدين في أعقاب غلق هذا الملف بصورة نهائية، وآخرون يرون الصدفة هي من كانت وراء هذا التزامن غير المقصود خاصة وأن المحكمة لم تنعقد بصورة مفاجئة كون موعد الجلسة قد حدد سلفًا.
زيارة ابن سلمان – سواء كان تزامنها مع الحكم مقصود أم لا – يراها البعض أنها ستكون الحاسم لهذا الملف وإسدال ستاره بصورة شبه نهائية، خاصة وأن هناك الكثير من الشواهد التي تقود لذلك أبرزها ما تضمنه التقرير البحثي، الذي أودعته هيئة المفوضين في القضية، منذ عدة أشهر، والذي أكد أنه لم يعد من الملائم “المجادلة” في صحة أو خطأ الأحكام التي صدرت بشأن الاتفاقية قبل أن يتم إقرارها بصورة نهائية ونشرها في الجريدة الرسمية، في صورة قرار جمهوري له قوة القانون ومخاطبة المجتمع الدولي بها.
ساعات قليلة هي من تكشف مصير جزيرتي تيران وصنافير على أرض الواقع بعد غلق الباب أمامهما قضائيًا، فهل آن الأوان ليرفع العلم السعودي فوقهما ويتسلم ولي العهد السعودي مفتاحهما رسميًا، لتبدأ المرحلة التالية من التفاهمات التي من المقرر أن تكون “إسرائيل” والولايات المتحدة والأردن طرفًا فيها؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.