المتابع للحرب السودانية المدمرة يدرك أن القوى المدنية عاجزة عن حمل أطراف الصراع (الجيش السوداني وقوات الدعم السريع) للانحياز إلى خيار السلام، وقد يكون السبب في ذلك أن صوت المعركة يطغي على ما عداه من أصوات.
لكن هناك أسبابًا لا تقلّ أهمية، وتتعلق بإسناد بعض الأطراف المدنية إلى أحد الطرفين خلال المعركة، أو نتيجة لحالة الضعف التي تعتري هذه القوى، أو بسبب بعض مواقفها التي شيطنتها في عيون الأهالي. وفي هذا التقرير سنتعرّف إلى أهم القوى المدنية في السودان، لا سيما بعد حرب 15 أبريل/ نيسان 2023.
تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)
تعدّ تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” أبرز تحالف مدني مطالب بوقف الحرب، وتسليم السلطة لحكومة مدنية قادرة على إعادة إعمار البلاد، ويضمن أوبتها إلى مسار الانتقال الديمقراطي الذي قطعه العسكر (الجيش والدعم السريع) بإطاحتهم بالحكومة الانتقالية المدنية في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، بدعم من قوى مدنية وحركات مسلحة.
تكونت التنسيقية التي يقودها رئيس وزراء حكومة الانتقال، عبد الله حمدوك، بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، في مايو/ أيار 2023، عقب شهر من اندلاع الصراع بهدف بناء جبهة مدنية تعمل على إنهاء الحرب في السودان، وتفادي سيناريو الحرب الأهلية الشاملة، ومعالجة القضايا الإنسانية وأوضاع النازحين واللاجئين، ومحاربة خطاب الكراهية، وخطط إعادة الإعمار، بجانب إنهاء ظاهرة تعدُّد الجيوش وتأسيس جيش قومي مهني لا يتدخل في السياسة والاقتصاد.
وتعدّ أحزاب المجلس المركزي لقوى إعلان الحرية والتغيير (المرجعية السياسية للحكومة الانتقالية المعزولة بقيادة المدنيين) القوام الرئيسي للتحالف (حزب الأمة القومي، التجمع الاتحادي، المؤتمر السوداني، والحركة الشعبية – التيار الثوري الديمقراطي).
وكان لافتًا أن من بين الموقعين على البيان الختامي للتحالف حركات حركة العدل والمساواة بقيادة سليمان صندل (منشقة عن العدل والمساواة بقيادة وزير المالية جبريل إبراهيم)، إضافة إلى حركتَي تحرير السودان المجلس الانتقالي، وتجمع قوى تحرير السودان، بقيادة الهادي إدريس والطاهر حجر، وذلك على التوالي.
وبعد انضمام إدريس وحجر إلى التنسيقية، وإصرارهما على إبقاء قواتهما على الحياد، أصدر البرهان قرارَين منفصلَين بعزلهما من مجلس السيادة.
وقدمت “تقدم” دعوات عديدة لعقد لقاءات مع الجيش والدعم السريع، لكنها نجحت في نصف المهمة بتوقيعها مع الدعم السريع على “إعلان للمبادئ” بالعاصمة الإثيوبية في يناير/ كانون الأول 2024، للعمل على وقف الحرب.
وخلال الاتفاق، أبدت قوات حميدتي جاهزيتها لوقف الأعمال العدائية بشكل فوري وغير مشروط بالتفاوض المباشر مع الجيش، علاوة على تشكيل إدارات مدنية في مناطق سيطرة القوات لإعادة الحياة إلى طبيعتها في المناطق المتأثرة بالحرب.
في المقابل، رفض الجيش دعوات اللقاء بقادة “تقدم” لأكثر من مرة، واتهم قادتها بموالاة الدعم السريع، وقال البرهان في مخاطبة عسكرية لجنوده في يونيو/ حزيران الماضي: “لا جلوس ولا تفاوض مع تقدم المتواطئة مع الدعم السريع على قتل السودانيين”.
وطالبت النيابة العامة في أبريل/ نيسان الماضي حمدوك وعددًا من قادة التنسيقية بتسليم أنفسهم للسلطات بتهمة “تقويض الدستور وإثارة الحرب ضد الدولة”، وهي جرائم تصل عقوبتها إلى الإعدام.
ورغم تأكيدها المستمر على موقفها الثابت بالوقوف ضد الحرب والوقوف على مسافة واحدة من طرفيها، صارت التنسيقية عند الكثير مرادفًا للدعم السريع، علَّ ما أسهم في ذلك بعض من مواقفها وتصريحات قادتها، مثل توصيف الجيش والدعم السريع على أنهما “طرفا الصراع في الحرب السودانية”، وهو موقف يرى مناصرو الجيش أنه مساواة بين الجيش الوطني والميليشيا صاحبة السجلّ الأسود من الانتهاكات.
ويتهم التحالف أنصار الرئيس المعزول عمر البشير بأنهم المتسبّب في الحرب بإطلاق الرصاصة الأولى، وسط تحذيرات جديدة من تزايد نفوذ الإسلاميين داخل الجيش، نزولًا عند تصريحات رجل الجيش القوي الجنرال ياسر العطا: “الحق يجب أن يقال، ومعنا كثير جدًّا من الإسلاميين”.
مقابل اتهامات “تقدم” للإسلاميين، تنهض السردية المقابلة التي تتهم فيها قوى الحرية والتغيير بأنها وراء الحرب من خلال تفجير الخلافات داخل المكون العسكري، بتوقيع إتفاق إطاري في ديسمبر/ كانون الأول 2022 يهدف إلى إعادة هيكلة القوات المسلحة، وإدماج الدعم السريع داخل الجيش.
ومن باب الحقيقة، أدى انخراط الإسلاميين في الحرب إلى عدم ممانعة كثير من الأهالي لعودتهم إلى الفضاء السياسي، وهو أمر ظلت ترفضه “تقدم” في جميع خطاباتها ومواثيقها التي تحمل في طياتها عبارة “كل القوى السياسية باستثناء المؤتمر الوطني”.
كذلك من المآخذ على التنسيقية عدم تحركها إزاء تنصل الدعم السريع عن التزاماته معها في أديس أبابا بوقف الانتهاكات ضد المدنيين، لا سيما في ولاية الجزيرة، مع التزامه بالبند الخاص بتكوين سلطة مدنية، وهو ما يعدّه مراقبون مسعى لإيجاد مشجب لتعليق الانتهاكات عليه -كما يبدو- نزولًا عند رغبة التنسيقية.
أيضًا يؤخذ على التنسيقية توزيعها الإدانات، وتوجيهها الانتقادات لطرفَي الصراع سواء في انتهاكاتهما المتزامنة أو المنفردة بالتذكير بجرائم الطرفين، وهو ما فاقم من الشعور عند رافضة الميليشيا بوجود آصرة بينها وبين التحالف.
وأخيرًا جاءت حادثة مقاطعة حديث ممثل المزارعين في إحدى فعاليات التنسيقية إبّان احتجاجه على انتهاكات الميليشيا، وتصريحات القيادية بالتحالف أسماء محمود محمد طه في واشنطن طبقًا لـ”راديو دبنقا” بأن “القوى السياسية يجب أن تكون شجاعة وتواجه العدو الأساسي للسودان وهم الإسلاميون”، وأشارت طبقًا للمصدر ذاته إلى “ما وصفته بالانتصارات العسكرية والدبلوماسية التي حققتها الدعم السريع على الإخوان المسلمين والجيش المؤدلج”.
كذلك، لا تزال ظلال الشكوك تحوم حول نشاط معظم قادة التنسيقية من خارج البلاد، بل أن بعضهم في دول تتهمها الحكومة بتغذية الحرب ودعم قوات حميدتي. من ناحية أخرى، يُظهر الهجوم الكثيف على “تقدم” أهمية التحالف في سياق الحرب الجارية، ويمكن للتحالف في حال نجح في تسويق موقفه المبدئي الرافض للحرب على دفع طرفي الحرب إلى طاولة التفاوض، خاصة مع تزايد الشكوك وسط الأهالي بشأن قدرة كلا الطرفين في إنجاز خيار الحسم العسكري.
تحالف الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية
يعدّ تحالف الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية لاعبًا أساسيًا في المشهد السياسي السوداني الحالي، ويطرح الحلف رؤى لتوحيد القوى السياسية دون إقصاء لأحد، بجانب دعم الجيش في حربه ضد الدعم السريع.
أٌسّس الحلف في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، بعد أنباء عن اقتراب إبرام اتفاق تسوية يعيد بموجبه العسكريون السلطة إلى المدنيين المطاح بهم في أكتوبر/ تشرين الأول 2021. ونهض التحالف في الأصل على دعائم مجموعة ميثاق التوافق الوطني، المتكونة بواسطة منشقين عن تحالف الحرية والتغيير (المرجعية السياسية للحكومة الانتقالية المعزولة).
طالب المنشقون يومذاك بحلّ الحكومة الانتقالية التي ينشط عدد من قادة الحلف في سلطتها التنفيذية، تأسّيًا بحاكم دارفور ورئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي، ووزير المالية رئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم، والمدير العام لشركة الموارد المعدنية ورئيس التحالف الديمقراطي للعدالة الاجتماعية مبارك أردول.
ونظّم المعارضون لتوجهات الانتقالية وقتذاك، اعتصامًا استمر لأيام أمام القصر الرئاسي في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، احتجاجًا على ما وصفوه بـ”توجهات أحزاب الحكومة للهيمنة على السلطة”.
واتخذ العسكر لاحقًا من اعتصام القصر ذريعة مع أخريات للإطاحة بالحكومة المدنية فيما عُرف بعملية (تصحيح المسار)، وهو أمر عدّته قوى مدنية ودولية انقلابًا عسكريًا. وبارك قادة التحالف تحركات الجيش، واستمر معظهم في مناصبه التنفيذية بدعوى الحفاظ على مكتسبات اتفاقية السلام.
يحظى تحالف الكتلة الديمقراطية الذي يضمّ بعضًا من الحركات الموقعة على اتفاق جوبا، أحزابًا ذات ثقل كالاتحادي الديمقراطي الأصل بزعامة محمد عثمان الميرغني، وقوى أهلية مؤثرة كالمجلس الأعلى لنظارات البجا بقيادة الناظر محمد الأمين ترك.
ويؤخذ على الكتلة الديمقراطية ظهورها كحلف براغماتي، هدفه الرئيسي السلطة وإن كان بإعطاء المشروعية للانقلابات والحروب، كما يلاحظ المتتبّع للحلف أنه ميال إلى التحرك في اتجاه معاكس لحركة قوى الحرية والتغيير، فقد عارض وجودها في السلطة على أيام الانتقالية بدعوى الهيمنة، وعارضها بعد توقيع الاتفاق الإطاري بزعم إعادة عقارب الساعة لما قبل 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ومن ثم يعارضها اليوم في موقفها الرافض للحرب من خلال دعم الجيش، ووصم حمدوك ورفاقه بأنهم المتسبّبين في الحرب.
ولذا من المؤكد، في حال استطاعت الكتلة الديمقراطية تجاوز خلافاتها مع تنسيقية “تقدم”، وتوافقَ الطرفان على خطاب موحّد إزاء الأوضاع في السودان، فقد يمثل ذلك انتصارًا للمدنيين والسودانيين الذين هزمتهم الحرب داخل أراضيهم.
الحركة الإسلامية
تعدّ الحركة الإسلامية المحلولة (المرجعية الدينية لنظام الرئيس المعزول عمر البشير) أحد أبرز اللاعبين في الحرب السودانية، شاء من شاء وأبى من أبى.
تمَّ حلّ الحركة الإسلامية وذراعها السياسية حزب المؤتمر الوطني من قبل السلطات الانتقالية، وتم حظرها من ممارسة النشاط السياسي بموجب قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو/ حزيران 1989.
تقف الحركة اليوم بين الإشادات الصادرة من مواطنين عانوا ويلات الدعم السريع، وبين إدانات من يرون الحركة تنشط في العودة إلى السلطة
وبعد فترة من الكمون شهدت محاكمة معظم قيادتها بتهم الانقلاب والفساد، بدأت الحركة في تنظيم التظاهرات والفعاليات المناوئة للحكومة الانتقالية، بالتركيز على انتقاد المدنيين واتخاذ خطاب المظلومية فيما يخص التجاوزات ضد عضويتها، لا سيما من قبل لجنة التفكيك التي تباطأت السلطة في تكوين لجان استئناف خاصة بمراجعة قرارتها.
وكما هو متوقع، دعم الإسلاميون اعتصام القصر الرئاسي الذي أشرنا إليه سابقًا، كما دعموا استيلاء الجيش على السلطة عام 2021، وشاركوا بفاعلية في التظاهرات المطالبة برحيل البعثة الأممية لدعم الانتقال في السودان “يونيتامس”، كما درجت العادة على اتهام الحركة بالضلوع في جرائم اغتيال وتصفية المحتجين السلميين المطالبين بالحكم المدني.
حلت ذروة ظهور الحركة الإسلامية في المشهد بعد توقيع الاتفاق الإطاري في ديسمبر/ كانون الأول 2022، وظهور خطابات عدائية ضد الاتفاق وقادته، تضمّنت مطالبة أحد الإسلاميين بإعطائه فتوى لاغتيال ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس.
ورفضت الحركة الإسلامية الاتفاق باعتباره “يكرّس للثنائية، ومبنيًا على إرادة ورغبة الخارج، كما أنه يتبنى العلمانية” التي ترفضها الحركة لأسباب كثيرة، تظهر من اسمها.
ووجّه القيادي بالحركة الناجي عبد الله، رسالة إلى قادة الإطاري قال فيها باللهجة المحلية: “نقول لفولكر والبرهان وحميدتي وياسر عرمان، والله الإطاري دا إلا تموصوه وتشربو مويته”، بينما دعا أنس عمر خصوم الإسلاميين لمعرفة أحجامهم، وقال متحديًا: “الحركة الإسلامية ما في أكبر منها، ولا أعرف منها، ولا أرجل منها”.
ومع انخراط كتيبة البراء بن مالك التابعة للإسلاميين في القتال مع الجيش بعد اندلاع المعارك، وإقرار الجيش بوجود الإسلاميين في جبهات القتال؛ ازدادت الاتهامات للحركة الإسلامية بإطلاق الرصاصة الأولى التي فجّرت الأوضاع بين الجيش والدعم السريع، مع تهم أخرى مثل محاولة العودة إلى السلطة من خلال السيطرة على الجيش، وليس نهاية باتخاذهم ذريعة من قبل الدعم السريع لمواصلة هجماتهم على المواطنين بدعوى تطهير البلاد من فلول النظام السابق.
على ذلك، تقف الحركة الإسلامية اليوم بين الإشادات الصادرة من مواطنين عانوا ويلات الدعم السريع، وبين الإدانات الصادرة ممّن يرون الحركة تنشط في العودة إلى السلطة من خلال السيطرة على قيادة الجيش، أو حتى بالانقلاب كما جرى الحال في يونيو/ حزيران 1989.
وللخروج من هذا النفق، ينبغي على الحركة الإسلامية تقديم مراجعات لفترة الثلاثين عامًا التي قضتها على سدّة الحكم، والتبرّؤ من الانقلابات العسكرية، كما أن على تنسيقية “تقدم” طرح خطاب أكثر مرونة تجاه تنظيمات الإسلاميين، دون رفض مشاركة من يتعهّد منهم بالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية، خاصة إن لم تتم إدانته بارتكاب جرائم ضد الوطن والشرف إبّان حقبة البشير.
تحالف التغيير الجذري
تكوّن تحالف التغيير الجذري في 24 يوليو/ تموز 2022 على يد قوى سياسية ونقابات عمالية، وقوى شعبية تقود الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام العسكري، ورفض إبرام أية تسويات مع قادته.
تزعّم التحالف الحزب الشيوعي السوداني (شيخ الأحزاب اليسارية في السودان)، وأحد فصائل تجمع قوى المهنيين (رأس رمح الثورة التي أطاحت بنظام البشير)، وقوى نقابية على رأسها اتحاد مزارعي مشروع الجزيرة والمناقل، والمفصولين تعسفيًا من جهاز الشرطة، بجانب قوى شعبية منخرطة في الاحتجاجات المطالبة بالحكم المدني.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، أعلن الشيوعي انسلاخه عن تحالف الحرية والتغيير، احتجاجًا على هيمنة العسكر على مقاليد الحكم، بعد توقيع اتفاق شراكة لتقاسم السلطة مع المدنيين في أغسطس/ آب 2019.
وعارض الشيوعي يومذاك ما قال إنه إبرام قادة الحلف “لاتفاقات سرية ومشبوهة داخل وخارج البلاد، تقود التحالف نحو الانقلاب على الثورة والموافقة على السياسات والمواثيق والإعلانات المتفق عليها”، ودعا عقب الحرب إلى تكوين “أوسع تحالف جماهيري لوقف الحرب واسترداد الثورة، ووقف الاعتقالات والتعذيب، مع تحسين الأوضاع المعيشية وصرف مرتبات العاملين”.
كما طالب الشيوعي الذي يتزعّم التحالف، السودانيين بالمشاركة في تصعيد مطالبهم الداعية إلى وقف الحرب بكافة الوسائل السلمية الممكنة، بما يشمل المواكب والمذكرات والاعتصامات وغيرها.
ويبدو موقف التغيير الجذري أكثر المواقف موضوعيةً في سياق الحرب التي وصفها قادتها بـ”العبثية”، لكن الموقف ذاته نجده يتأثر بقوة خطاب التعبئة والاستنفار، مع النظرة الدائمة للحزب الشيوعي بأنه حزب صفوي ذو تأثير ضئيل في أوساط النخب، لكن من المرجّح أن يجد خطابه صدى في حال تبنّيه من قوى وتحالفات سياسية أكثر جماهيرية.
القوى الأهلية
لا يمكن بأي حال إنكار الدور الذي لعبته الإدارات الأهلية في سياق الحرب الجارية في السودان، فقد أعلنت قبائل عربية في دارفور انحيازها إلى قوات الدعم السريع التي ينتمي إليها معظم قادة صفها الأول، وحثت أبنائها بالانضمام للمليشيا. وفي السياق، تبرز قبيلتا الرزيقات والمسيرية ذواتا الأصول العربية، ويشترك أفرادها في امتلاك قطعان كبيرة من الماشية، وفي ثقافة تعظّم القتال وحمل السلاح.
أعلن ناظر الرزيقات محمود موسى مادبو، انحيازه الباكر إلى الدعم السريع، عادًّا الحرب الحالية بأنها تستهدف القضاء على قبيلته، فيما أعلن ناظر المسيرية بإقليم دارفور، التجاني عبد القادر، موالاة الدعم السريع، وقوفًا مع من وصفهم “أبناءهم المدافعين عن الحرية والديمقراطية والتحول المدني”.
وإزاء الجرائم التي ارتكبها الدعم السريع على أساس عرقي في دارفور، انضمت القبائل ذات الجذور الأفريقية، وعلى رأسها الزغاوة والمساليت، إلى القوات المشتركة التي تؤيد الجيش وتخوض قتالًا محتدمًا ضد محاولات الدعم السريع إسقاط مدينة الفاشر، لتكتمل له السيطرة على إقليم دارفور.
ومع توالي سقوط الحاميات العسكرية في الوسط والشمال، انتقلت عدوى القبيلة إلى ولاية نهر النيل، حيث أعلن مجلس شورى قبيلة الجعليين في ولاية نهر النيل، انتقالها من دعم الجيش إلى مطالبة عضوية القبيلة بحمل السلاح للدفاع عن العرض والوطن.
وفي الشرق الذي يستضيف العاصمة المؤقتة (مدينة بورتسودان)، أعلن المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، بقيادة الناظر محمد الأمين ترك، انحيازه إلى جانب الجيش، ربما على أمل أن تقود الحرب لإعادة النظر في معادلة السلطة والثروة في الإقليم، بجانب أسباب أقل أهمية مثل مناصرة بعض من أبناء قبيلته المنتمين إلى الجيش والحركة الإسلامية، نحو محمد طاهر أيلا، وهو آخر رئيس وزراء في حقبة المعزول البشير.
لكن هذه الاصطفافات على كثرتها لم تحل دون حدوث الانشقاقات داخل القبيلة الواحدة، فمثلًا أعلن زعيم قبيلة المحاميد، وابن عم حميدتي موسى هلال الذي تُنسب إليه قوات الجنجويد في دارفور، انضمامه إلى الجيش.
كما انقسمت قبيلة المسيرية بعد محاولة الدعم السريع غزو واحدة من أهم حواضرهم (مدينة بابنوسة)، وكرّس للانشقاق موقف قيادة الميليشيا المهادن لأطماع جنوب السودان في نزاعها مع السودان حول منطقة أبيي التاريخية. ونتيجة الموقفين انقسمت القبيلة إلى “مسيرية زرق” يؤيدون حميدتي و”مسيرية حُمر” يقاتلون في صفوف الجيش.
ومع الإقرار بالأثر الكبير للقوى الأهلية في ترجيح موازين القوى لصالح مكونات الصراع الرئيسية، إلا أن انحيازها وانشقاقاتها يمكن أن تؤدي إلى حرب أهلية شاملة، أو حرب الكل ضد الكل.
لجان المقاومة
تعدّ لجان المقاومة (كيانات شعبية في الأحياء تنظم الاحتجاجات المطالبة بالحكم المدني)، أحد أهم المكونات المدنية في الشارع السوداني مؤخرًا، وعلى أكتافها نهضت الثورة التي أطاحت بالبشير، وأجبرت العسكر مرتَين على قبول التفاوض مع المدنيين، بعد فضّ اعتصام القيادة العامة في يونيو/ حزيران 2019 وبعد فشل البرهان لأكثر من عام من تشكيل حكومة جراء الاحتجاجات المتواصلة ضد استيلائه على السلطة في أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
بعد الحرب، تحولت صفحات لجان المقاومة إلى لسان حال الناس في المناطق المتأثرة بالحرب، ووقعت على عاتق المنتمين إلى اللجان مسؤولية إدارة وتشغيل معظم المطابخ الخيرية التي تقدم الوجبات مجانًا للمحتاجين، مع مسؤولية تقديم خدمات إدارة المرافق الصحية وتوفير العلاج في رفوف صيدلياتها، وليس نهايةً بإجلاء الراغبين في الخروج نواحي الولايات غير المتأثرة بالصراع.
ولكن كأي فصيل تأثر بالحرب، اختار عدد من عضوية اللجان الانضمام إلى أحد طرفَي القتال، فيما ظلت الاتهامات تلاحق البقية الواقفين على الحياد بموالاة أحد الجانبين بناء على موقفهم من الطرف الآخر.
وفي مناطق سيطرة الدعم السريع، تتم ملاحقة أعضاء اللجان بتهمة تشويه سمعة الميليشيا جرّاء نشر الحقائق عن انتهاكات القوة ضد المدنيين، بينما تلاحق اللجان ذاتها في مناطق سيطرة الجيش بتهمة التخابُر لصالح الميليشيا.
ويمكن أن تلعب اللجان أدوارًا مهمة إن كرّست جهدها في سبيل كشف عوار الحرب، مع تقديم قيادة جديدة تحلّ محل الشخصيات السياسية مكرَّرة الوجوه والأخطاء.