تعبّر السبعون سنة الأخيرة منذ قيام ثورة يوليو 1952 عن مرحلة شديدة الخصوصية من تاريخ مصر الحديث، تتميز بأن حكّامها من الظباط العسكريين السابقين في نظام جمهوري، لذلك دائمًا ما تغري بالمقارنة، نظرًا إلى أن كل نظام حكمَ أورث الآخر في كثير من الأحيان كوارث وأزمات شكّلت آلية عمله، وفي قليل من الأوقات إنجازات وفترات محدودة من الاستقرار،
وإذ كنا نريد أن نقارن بين كل حقبة وأخرى، فلا بدَّ أن ننظر إلى حالة المواطن المصري ومحاولات نهضته وتنميته، وسيكون النفاذ إلى تلك الزاوية التاريخية أفضل ما يكون من باب الاحتياجات الأساسية والدستورية، وهي التعليم والصحة والوظيفة.
التعليم.. من محو الأمية إلى أمية مقنّعة
قُلّلت أهمية التعليم بالتزامن مع وقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني عام 1882، وذلك بعدما كان واحدًا من أهم مميزات عصر التحديث في عهد محمد علي باشا (1805-1848)، حيث اهتم البريطانيون في المقام الأول بتعليم موظفي الخدمة المدنية في المدارس التي تعتمد على اللغة الإنجليزية وأهملوا تعليم الجماهير، إذ خفضت الإدارة الاستعمارية الإنفاق على التعليم وفرضت رسومًا دراسية على المدارس الابتدائية، كما كان التعليم العالي مكلفًا ومقصورًا إلى حدّ كبير على النخب الميسورة.
كانت المادة 19 من دستور 1923 تنصّ على مجانية التعليم في مصر، إلا أن التعليم المجاني والشامل في مصر لم يعتمَد إلا بحلول عام 1944، وقد أتيحت مجانية التعليم الثانوي والفني بقرار من وزير المعارف آنذاك طه حسين عام 1951، كانت تلك التوطئة التي أعقبها توسع الدولة في النظام التعليمي أعقاب قيام ثورة يوليو 1952 وسياساتها الاشتراكية، التي طبّقها الرئيس جمال عبد الناصر الذي ورث شعبًا تبلغ نسبة الأمية فيه 75%.
استهدف عبد الناصر من توفير مجانية التعليم، وتوظيف خريجي الجامعات في القطاع العام ومؤسساته توسيع قاعدة النظام الشعبية ومنع الاضطرابات الاجتماعية بين الشباب المتعلمين.
تلك السياسات انعكست على عدد المؤسسات التعليمية في مصر، وبعد أن كان العدد 5 جامعات عام 1952، ارتفع ليصل إلى 12 جامعة بنهايات عام 1976، وزاد عدد طلاب التعليم العالي بأكثر من الضعف من 333 ألفًا و300 طالب إلى 480 ألفًا فترة 1971-1976. لكن نتيجةً للنمو السكاني المرتفع في مصر، أصبح ضمان التوظيف الحكومي غير محتمل إلى حد كبير، وسرعان ما أدّى التعميم المتزايد للتعليم العالي إلى تدهور معايير الجودة في عهد الرئيس حسني مبارك.
في أعقاب حرب 1967 انحدرت مخصصات التعليم في ميزانية الدولة في نفس وقت ارتفاع الكثافة السكانية، وكان هذا بداية التراجع في المنظومة التعليمية في مصر، فقد كان التراجع واضحًا منذ أن اتجهت الدولة إلى سياسات الانفتاح في عهد الرئيس السادات، حيث تقلصت مخصصات الإنفاق على التعليم ليعاد توجيهها إلى بنود ذات طبيعة أكثر استهلاكية، وبدأت الدولة في تبنّي سياسة دفع التكلفة مقابل الخدمة، والتي رأت أن التعليم سلعة تعرض في السوق.
كانت إجراءات الإصلاح الاقتصادي التي بدأ الرئيس مبارك تطبيقها عام 1991 في عهده بدعم من صندوق النقد الدولي، المعروفة باسم التكييف الهيكلي، مدخلًا رئيسيًا للسياسات النيوليبرالية التي ستتبعها الحكومة فيما بعد وحتى الآن، فتقلصت مخصصات بنود أساسية مثل التعليم والصحة، كما أن أجور المعلمين واصلت في التراجع وأصبح المعلم في مصر أضحوكة ورمزًا للجشع والدروس الخصوصية من أجل زيادة أمواله، كما تصوّره مسلسلات وأفلام تلك الفترة.
تم اعتماد النظام التعليمي الخاص ليجاور التعليم الحكومي العام ويقلل من الضغط عليه، وبين عامي 1996 و2006 ارتفع عدد الجامعات الخاصة من جامعة واحدة إلى 16. وفي عام 2023 وصلت إلى 27 جامعة خاصة إلى جوار 28 جامعة حكومية.
تدهور التعليم الحكومي وجاء التعليم الخاص كبديل، إلى جانب البدائل الأكثر رفعة في المستوى التعليمي مثل المدارس الدولية الأجنبية الخاصة بطبقة الأغنياء فقط، لذلك كانت هذه الإحصائيات في أقرب وقت من ثورة 25 يناير وأعقابها.
بينما كان أهم ما يميز الحقبة الناصرية كما يذكر المؤرخ جويل بنين، أن الاشتراكية حسّنت حياة العمال في المؤسسات العامة والجهاز البيروقراطي للدولة، حيث حصلوا على وظائف مستقرة ومزايا اجتماعية كالرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية، والتعليم المجاني الذي حصل عليه أطفالهم من رياض الأطفال إلى المستوى الجامعي، وأبناء الفلاحين الذين حصلوا أيضًا على فرص أكبر بكثير في التعليم العالي.
وفي عام 2016 أظهر تقرير الوضع السكاني الذي أعدّته الأمم المتحدة بالاشتراك مع مؤسسات مصرية، تراجع فلسفة التعليم للفقراء الذي تأسّست عليه شرعية نظام يوليو منذ البداية، وتكشف بيانات المسح السكاني في مصر عام 2014 أن 57% من السكان الفقراء لم يذهبوا للمدرسة أو يكملوا المرحلة الإبتدائية، مقابل 45% من غير الفقراء.
كانت المدارس الخاصة منفذًا لاستيعاب بديل لما تكتظ به المدارس والفصول الحكومية التي أصبحت رديئة الجودة كحال التعليم في مصر، لكن في السنوات الأخيرة أثّر الوضع الاقتصادي على المصريين في الإنفاق على التعليم الخاص.
في عام 2012-2013 بلغ إنفاق الأسر على التعليم الحكومي نسبة 56% مقابل 38% للتعليم الخاص، أما عام 2017-2018 بلغت نسبة التعليم الحكومي 68% مقابل الخاص 28%، ما يعني أن الكثير من الأسر لم تعد تتحمل نفقات المدارس الخاصة، فنقلت أبناءها إلى المدارس الحكومية.
تلقي سلمى حسين في تقريرها عن “عشر حقائق عن الإنفاق عن التعليم في مصر” الأزمة التي تعاني منها الدولة في سياق الإنفاق على التعليم وتراجع مصر على مستوى المؤشرات العالمية، فرغم أن الحكومات المصرية كانت توجّه إلى التعليم المدرسي بأنواعه ما يوازي حوالي 5% من الدخل المحلي حتى عام 2021، فقد أصبحت مصر تعاني من نقص كبير في الإنفاق على التعليم، وبحسب البنك الدولي لم تعد الميزانية المخصصة للتعليم في مصر تتجاوز ثُلث النسبة التي تخصصها له الدول النامية في المتوسط.
وفي الوقت الحالي تظهر بيانات الموازنة العامة عدم استيفاء النسبة الدستورية المقررة لقطاع التعليم، ونجد أنه بينما تبلغ قيمة الناتج المحلي الإجمالي 12 تريليون جنيه، فإن الإنفاق على التعليم (قبل الجامعي والعالي) بحسب آخر موازنة للعام المالي 2023-2024 يبلغ حوالي 230 مليار جنيه فقط.
وبحساب نسبة مخصصات التعليم إلى الناتج المحلي، يتضح أنها تمثل 1.72% فقط، أي أقل بأكثر من 4% من النسبة المنصوص عليها في الدستور، حيث كان من المفترض أن تبلغ الموازنة 710 مليار جنيه وهي نسبة الـ 6% المنصوص عليها دستوريًا.
وفي عام 2023، وصلت مصر إلى ما يقارب 61 ألف مدرسة في أنحاء الجمهورية المنوط بها أن تستوعب 25.5 مليون طالب، ويقيم عليها 955 ألف معلمًا، لكن يبدو أن هذا العدد ما زال غير كافٍ، كما أنه يعاني من غياب جودة التعليم، حيث إن 70% من الطلاب في سن العاشرة لا يستطيعون قراءة نص مناسب لأعمارهم وفهمه، كما يشير تقرير فقر التعلم الصادر عن البنك الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، تعاني ميزانية التعليم الضئيلة بالفعل خللًا في التوزيع في نصيب الطالب بالجنيه المصري الذي يبلغ متوسطه حوالي 5 آلاف و400 جنيه سنويًا -يبلغ نصيب الطالب من الإنفاق العامّ في الدول المتقدمة 11 ألفًا و200 دولار-.
كما أشارت سلمى في تقريرها إلى معاناة الطلاب في المحافظات الفقيرة مثل أسيوط والمنيا وسوهاج وقنا والفيوم من قلة الإنفاق المخصص لهم، بينما يرتفع نصيب الطالب في المحافظات قليلة السكان، فمثلًا نصيب الطلاب في محافظة كالمنيا يبلغ 4 آلاف جنيه مقابل 15 ألف جنيه في الوادي الجديد.
ويعدّ التعليم واحدًا من أساسيات الحياة التي تضررت بفعل الأزمة الاقتصادية، ففي أحد التقارير المنشورة عام 2023 اتضح أن معدل زيادة الأسعار في التعليم زاد بنسبة 7.7%، ولفت التقرير أيضًا إلى أن الأسر الفقيرة يقلّ إنفاقها على التعليم، كما أن نسب التحاق الإناث في الأسر الفقيرة أقل بكثير من نسب التحاق الذكور، أي أن الفقر في مصر أصبح يؤثر على تعليم الإناث. بالعموم، في عام 2021 بلغ معدل محو الأمية نسبة 87.18%، وهي النسبة التي شكلت تراجعًا بنسبة 0.5% عن العام السابق له.
كما أن أولياء الأمور أصبحوا يتحملون عبء التعليم عوضًا عن الدولة، كما يشير تقرير منصة “العدالة الاجتماعية” الذي درس حالة إنفاق أولياء الأمور على الدروس الخصوصية، حيث تستنزف الدروس الخصوصية في العهد الحالي من إنفاق المصريين على التعليم ما تصل نسبته إلى 30%، وفقًا لإحصاء الجهاز المركزي للتعبئة العامة، من إجمالي إنفاق المصريين على التعليم الذي يتنوع بين “مصروفات ورسوم دراسية، مواصلات، ملابس وشنط، كتب”.
الصحة.. السهم الذي عانق السماء ثم انكسر
في عام 1946، نشر دكتور أرثر سيسيل كتابه الشهير “ساعة عدل واحدة” الذي يركز فيه على الوضع الصحي في مصر فترة 1937-1943، الصورة العامة التي يمكن الخلاص بها إلى أن المصريين كانوا مفتقدين للحدود الدنيا من الرعايا الصحية.
كما يذكر الكتاب، كان يموت الطفل بمجرد فطامه بسبب نقص البروتين، فكانت الأم التي تنجب 7 أطفال مثلًا، لم يكن يتبقى لها سوى ثلاثة أو اثنين، ويذكر سيسيل أن مصر كانت الثانية على العالم في هذا الوقت في معدل وفيات الأطفال، كما أن البلد بصفة عامة كانت مرتعًا للكوليرا والإنيميا والبلهارسيا والطاعون والسل.
في كتاب Area handbook for Egypt الذي يقدمه مركز دعم القرار في الولايات المتحدة إلى العاملين من العسكريين والموظفين بالمنطقة، يتحدث الكاتب عن كون الصحة كانت مفصلية جدًّا في إضفاء الشرعية على نظام جمال عبد الناصر، فمنذ عام 1952، كانت الحكومة تسعى جاهدة لتحسين الصحة العامة للسكان، حتى أن الميثاق الوطني لعام 1962 نصَّ على أن الحق في الرعاية الصحية يأتي في المقام الأول من بين حقوق كل مواطن.
شهدت تلك الفترة زيادة نصيب الفرد من الإنفاق العام على الصحة بنسبة 500% بين عامَي 1952 و1976، كان ضمنها العديد من المشاريع التي أنجزتها الحكومة مثل برنامج التأمين الصحي بدءًا من عام 1959، والتوسع في إنشاء عدد المستشفيات والوحدات الصحية في القرى الذي وصل إلى 600 وحدة صحية عام 1960.
زادت النسبة السكانية في مصر 19% ولم تواكب تلك الزيادة زيادة في عدد المستشفيات العامة سوى بنسبة ضئيلة هي 3% بينما زادت المستشفيات الخاصة بنسبة 24%
نتيجة لتلك الزيادة الهائلة، كان متوسط عمر المواطن في عام 1990 أكثر صحة وأطول عمرًا من عمر المصري المتوقع في أوائل القرن العشرين، ففي عام 1952 كان متوسط العمر المتوقع عند الولادة 39 عامًا، وارتفع إلى 59 عامًا للنساء و60 عامًا للرجال عام 1989.
كما أن معدل الوفيات الذي كان 24% عام 1952 انخفض إلى 10% عام 1990، وبالتبعية انخفض معدل وفيات الرضع بسبب برامج الرعاية والتطعيم ضد كافة الأمراض من 193 حالة وفاة من بين كل 1000 إلى 85 من كل 1000.
مثلًا، كانت إحدى الحملات الهامة في الستينيات هي حملة التثقيف حول مخاطر استخدام المياة الراكدة، ما قلّل نسبة الإصابة إلى النصف بمرض البلهارسيا بين عامَي 1935 و1966. تبعًا لكل ذلك، حدثت الطفرة الهائلة في عدد السكان، وبعد أن كان العدد 20 مليونًا في عام 1952، نمى ليصل إلى 67 مليونًا عام 1991 وظلَّ آخذًا بالنمو حتى 106 ملايين تقريبًا في العام الحالي.
لم تؤثر سياسات السادات في تطبيق الانفتاح على مجال الصحة كثيرًا، رغم تراجع الإنفاق والسماح بدخول شركات الأدوية الكبرى في السوق المصري، لكن التأثر الحقيقي الذي فتح الأبواب للقطاع الصحي الخاص حدث بعد برنامج إعادة التكييف الهيكلي الذي فرضته سياسات مبارك عام 1991، والتي قلصت من بند الإنفاق على الصحة من الناتج المحلي الإجمالي، وبإتاحة المجال للقطاع الخاص.
وقد حاولت الدولة في أكثر من مرة أن تخصخص خدماتها لكن فشلت بأحكام القضاء في إبطال العديد القرارات، مثل قرار أحمد نظيف عام 2007 بتحويل هيئة التأمين الصحي إلى شركة قبضة، وقانون الشراكة بين القطاع الخاص والعام رقم 67 عام 2010.
وبعد ثورة 25 يناير، أقرَّ المجلس العسكري الموازنة العامة للدولة، والتي لم تشهد تغيرًا في ميزانية الصحة التي احتفظت بنسبة 4.5% من الموازنة العامة للدولة، وكان هذا العام المالي 2012-2013 الذي يتوافق مع سنة حكم الرئيس مرسي، لذلك لا يعدّ دوره في المجال الصحي مؤثرًا، غير أنه وعد بزيادة مخصصات الصحة بنسبة 1.5% سنويًا لتصل بنهاية مدة رئاسته الأولى إلى 10%، لكنها لم تكتمل.
استهدف الدستور المصري الجديد عام 2014 أن يزيد من نسبة الإنفاق على التعليم والصحة لتصل إلى نحو 10% خلال 3 سنوات من اعتماده دستورًا للبلاد، وكان من المفترض أن تتوزع تلك النسب كالآتي: يحظى التعليم على نسبة 6% من الناتج المحلي، والصحة على نسبة 3%، لكن بمرور 10 أعوام على عمر النظام القائم، تبيّن أن الصحة كانت واحدة من أكبر ضحايا ما يسمّى بالإصلاحات الاقتصادية.
وفي السنوات الأخيرة، أصبح لدى مصر أعلى نسبة من معدل الإصابة بفيروس سي في العالم بلغت 7%، وكان واحد من مشاريع الرئيس السيسي هو حملة “100 مليون صحة”، والتي كُلّلت بالنجاح بفضل تخصيص تمويل 250 مليون دولار من البنك الدولي، أتت بثمارها في إجراء فحص لـ 60 مليون مصري خلال عام واحد هو عام 2018، لكن نجاح المشروع لم يصاحبه نجاح عامّ في إدارة ملف الصحة في مصر، وهو ما تشهد به نسبة الإنفاق من الناتج المحلي على مجال الصحة.
بداية من عام 2015 أخذت نسبة الإنفاق على الصحة بالتراجع الشديد وصولًا إلى عام 2020، وبسبب أزمة كوفيد-19 التي ضربت العام ارتفعت نسبة الإنفاق على الصحة لتصل إلى نسبة 1.50% عام 2022، والملاحظ أنه خلال فترة 2014-2022 وحتى في قمة الإنفاق الذي بلغ 1.81% عام 2015، لم تصل أبدًا نسبة الإنفاق إلى الحد الأدنى الدستوري.
يواصل القطاع الصحي إبداء مؤشرات أزيد على مسيرته نحو الهاوية ليصبح المواطن مهددًا بأن يفقد حق العلاج المجاني. فقد أصدرت وزاة الصحة خلال السنوات الأخيرة تعديلات على لائحتها المنظِّمة للعمل بالمستشفيات والوحدات الصحية تفيد برفع أسعار الخدمات المقدمة، وتقليص نسبة العلاج المجاني طمعًا في زيادة موارد قطاع الصحة في مصر الآخذة في التآكل بسبب انخفاض قيمة العملة المحلية.
بالإضافة إلى ذلك، واصلت النسبة المخصصة للصحة من الإنتاج المحلي الإجمالي التراجع، ففي السنة المالية 2023-2024 لا تتخطى النسبة 1.25% من الناتج المحلي. وكما هو الحال في مخصصات التعليم، تتبع الحكومة المصرية عدة حيل لتضخيم مخصصات الصحة وزيادتها ورقيًا، لتصل إلى النسب التي نصَّ عليها الدستور المصري.
على سبيل المثال، يتم اعتبار الإنفاق على مياه الشرب والصرف الصحي ضمن الإنفاق على الصحة، بالإضافة إلى تحميل قطاعَي التعليم والصحة نسبة من فوائد الديون الحكومية، وهو ما رصده تقرير منصة “متصدقش”.
وتعدّ الفئات الفقيرة الأكثر تأثرًا من تراجع الإنفاق على تلك الخدمات، فالمستشفيات الحكومية ليست هي القِبلة المناسبة للأغنياء وميسوري الدخل للعلاج، الذين يتجه أغلبهم إلى المستشفيات الخاصة والعيادات الخاصة.
لقد كان قطاع الصحة من أكثر المجالات التي تضررت من آثار التضخم عام 2023، فرغم أن المستشفيات كانت تصرف علاجًا مجانيًا من صيدلياتها، إلا أن الفقير يحتاج إلى أن يتوجه للصيدلية الخارجية أيضًا لاستكمال روشتة العلاج أو لشراء علاج أكثر فعالية.
فقد ارتفع التضخم في بند الرعاية الصحية، بحسب أحد التقارير، إلى 17%، كما أن الرعاية الصحية تحتل المرتبة الثالثة في نفقات الأسر الأدنى دخلًا بنسبة 8.3% من نصيب الفرد من الإنفاق السنوي للأسرة. وبصفة عامة، بلغ إنفاق المصريين على الصحة نسبة أعلى من إنفاق الحكومة ذاتها على القطاع الصحي الحكومي، حيث بلغ إنفاق المصريين نسبة 59.31% على بند الصحة.
ورغم أن القطاع الصحي في مصر تنهض به من الأساس المستشفيات الخاصة التي تبلغ نسبتها 63% من عدد القطاع الصحي في مصر بين عامَي 2012 و2021، زادت النسبة السكانية في مصر 19% ولم تواكب تلك الزيادة زيادة في عدد المستشفيات العامة سوى بنسبة ضئيلة هي 3% بينما زادت المستشفيات الخاصة بنسبة 24%، وانخفض عدد الأسرّة في المستشفيات العامة بنسبة 14% وارتفع في الخاصة بنسبة 35%.
ورغم كل تلك المؤشرات التي تشير إلى وجوب النهوض بالقطاع الصحي العام، إلا أن الحكومة تتجه إلى التخارج من دورها في دعم الصحة رغم عدم دستورية تلك الخطوة، وخصخصة نسبتها من قطاع الصحة في مصر.
وبعد قرار رفع أسعار الخدمات الصحية، وافق مجلس النواب في مايو/ أيار الماضي على مشروع قانون قدمته الحكومة والمعروف بقانون “تأجير المستشفيات”، بغرض إسناد إدارة المنشآت الصحية المملوكة للدولة للمستثمرين المصريين والأجانب، كما صدق الرئيس عبد الفتاح السيسي على القانون رغم اعتراض نقابة الأطباء والعديد من البرلمانيين والخبراء.
لا يحمل القانون أية ضمانات لاستمرار تقديم الخدمة شبه المجانية للمواطنين، خاصة محدودي الدخل، كما سيسمح بخروج عدد من المستشفيات الحكومية خارج منظومة التأمين الصحي، ما يعني عدم إلزامها بالأسعار المرتبطة بالخدمة، ما سيهدد الكثير من المستفيدين من تلك المنظومة شديدة الأهمية بالنسبة إلى شرائح ضخمة من السكان.
كما أن القانون لا يلزم المستثمر سوى بتشغيل نسبة لا تقل عن 25% من العاملين بالمستشفيات الذين كانوا فيها قبل شرائها والاستثمار فيها، ما يعني تهديد الكثيرين بفقدان عملهم.
الوظيفة.. كيف انطفأ بريق تراب الميري؟
لقد كان همّ نظام عبد الناصر أن يوفر للمصريين ما أسماه “السعادة العائلية” كما يذكر شريف يونس في كتابه “نداء الشعب”، وذلك المصطلح يعني تأمين قدرًا من تحسن مستوى المعيشة بمكافحة الغلاء ووسائل أخرى، في إطار سعي أوسع يهدف إلى تحقيق نهضة اقتصادية وصناعية بالذات. كان العمل بالذات هو الوحيد الذي يستطيع أن يكفل تلك المعيشة الكريمة، لذلك كان عصر جمال عبد الناصر هو عصر الموظف والعامل في مشاريع الدولة.
منذ عام 1951 وكانت سياسة التوظيف تقوم على أُسُس انتقائية، بحيث تكون التعيينات وامتيازات العمالة موجّهة لسدّ احتياجات الجهاز الإداري للدولة من القوى العاملة، لكن ذلك الإجراء لم يكن كافيًا لاستيعاب الموظفين وتحديد امتيازاتهم على أساس مستوى شهاداتهم الدراسية.
لذلك في عهد عبد الناصر، كانت سياسة تعيين الخريجين عنصرًا أصيلًا في النظام الاجتماعي الناصري، كما يذكر محمد جاد في كتاب “متى ينتهي الغلاء في مصر؟”، حيث قام ذلك النظام على أساسَين: تثبيت الأسعار من خلال الدعم السلعي والتسعيرة الجبرية، وتوفير الوظائف لشرائح واسعة من الطبقة المتوسطة في الكيانات التابعة للدولة.
لذلك كانت الدولة تقوم بتعيين كل الخريجين لتوسيع قاعدة النظام الشعبية وكسب الولاء السياسي، ولم تكن ميزانية الإنفاق على الأجور عبئًا كبيرًا في عهد عبد الناصر، فقد بلغت في العام الأخير من حكمه نسبة تتجاوز 15% من إجمالي نفقات الدولة.
لكن تلك الطريقة في إدارة ملف التوظيف سبّبت ترهلًا واكتفاءً فوق الحاجة في الوظائف، وأثرت فيما بعد على نفقات الدولة، ففي منتصف السبعينيات بينما كان المجتمع يموج ويتلظى تحت الغلاء وسياسة الباب المفتوح التي طبّقها السادات، انتقدت حكومته منظومة البدلات الناصرية واعتبرتها بابًا خلفيًا لاهدار المال العام.
سنّت حكومة السادات قانونًا جديدًا رقم 47 لسنة 1978 كما يذكر جاد في كتابه، يهدف إلى اعتبار المؤهّل الدراسي مجرد شرط من شروط شغل الوظيفة إلى جانب شروط أخرى معه وبديلة عنه، وربط الأجر بالوظيفة ذاتها وليس بالحصول على مؤهّل دراسي معيّن.
لكن الحكومة في عهد السادات لم تتوقف بالفعل عن التعيين، واستمرت في تعيين الخريجين في جهازها الإداري، لكنها استطاعت فقط أن تطيل من مدة فترة سماح ما قبل تعيينات الخريجين، إذ ارتفعت المدة بين التخرج من الجامعة والتعيين سنة 1984 إلى 3 سنوات ونصف، وفي عام 1987 إلى 5 سنوات.
في عهد مبارك، ارتفعت نسبة الإنفاق على الأجور من إجمالي النفقات العامة، كما يذكر سامر سليمان في كتابه “النظام القوي والدولة الضعيفة”، حيث وصلت من 17% في بداية عهد مبارك إلى 23.4% عام 2000-2001.
لكن إلى جوار تلك الزيادات في عهد مبارك، كانت هناك العديد من موجات التضخم أكبر كثيرًا من قدرة الزيادات في الأجر على المواكبة، خاصة في منتصف الثمانينيات والتسعينيات، لذلك يشير جاد في كتابه إلى أن العائد النهائي على الموظفين الحكوميين من وراء سياسات مبارك كان الخسارة، فالقيمة الحقيقية لأجورهم ومستويات معيشتهم في نهاية التسعينيات كانت أقل من مستويات عام 1976-1977.
وعرف مبارك كسب الرضا من خلال تطبيق سياسة أخرى هي سياسة “العلاوة” التي اشتهر بالهتاف عليه بها من خلال العمال في عيد العمال سنويًا، والعلاوة باختصار هي زيادة سنوية على الراتب، وتؤخذ بعد 5 سنوات عن مجموع علاوات السنوات الخمس مجتمعة، وفي سنة 1992 وصلت العلاوة السنوية إلى 20%.
يشير جاد إلى أن السنوات الخمس تلك كانت تتوافق مع سنوات الاستفتاء الرئاسي على مبارك، وأنها لم تكن سوى وسيلة أخرى من كسب الشعبية وسط القطاع الأكبر من العمال.
ظلَّ نظام مبارك يحاول مقاومة التضخم من خلال العديد من الحوافز والزيادات التدريجية، لكنه لم يواكب أبدًا بين الأجور والتضخم، فبينما وصل الحد الأدنى للأجور عام 2011 إلى 710 جنيهات، كان العاملون في الدولة يطالبون أصلًا بـ 1200 جنيه كحدٍّ أدنى للأجور.
وفي عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، أصبح يُنظر إلى الموظف الحكومي على أنه جزء من العبء الاقتصادي على الحكومة، لذلك لم يكن من المستغرب أن تعلن وزارة التخطيط عام 2017 عن خطتها التي تستهدف بحلول عام 2030 أن يكون هناك موظف لكل 40 مواطنًا، بدلًا من الوضع القائم بموظف لكل 13 مواطنًا.
وبينما استطاعت ثورة يناير أن تزيد من تعيين مليون مواطن في القطاع الحكومي عام 2011-2012، قامت حكومة السيسي بتقليص القطاع مليون مواطن مماثل في فترة 2015-2017.
وفي ظلال خطة التقشف الحكومية، كانت الحكومة قد أوصلت نسبة الأجور الحكومية في ميزانية 2017-2018 إلى أقل من 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وكان ذلك التراجع للعام الرابع على التوالي منذ تولّى السيسي رئاسة الجمهورية.
ومنذ العام 2017، لم تنشَر إحصائية جديدة من الجهاز المركزي للتعبئة عن عدد الموظفين بالقطاع الحكومي للدولة، لكن في عام 2022 ذكر صالح الشيخ رئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة في إحدى المداخلات البرامجية أن عدد ما تم حصره من موظفي الدولة حتى الآن هو 3 ملايين و231 ألفًا، ويشكّل العاملون في القطاع العام عمومًا 20% من القوة العاملة في مصر.
قامت الحكومة في السنوات الأخيرة برفع الحد الأدنى للأجور في أكثر من مرة، إلى أن وصل لـ 6 آلاف جنيه، وهو الذي يزيد قليلًا عن 100 دولار، في شهر أبريل/ نيسان الماضي. ومع معدل تضخم وصل في ديسمبر/ كانون الأول 2023 إلى 35.2%، لم تعد تلك الزيادات تسمن ولا تغني من جوع باستمرار معدلات الغلاء ورفع أسعار السلع الغذائية والمحروقات.
ذكر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن الأسرة المكونة من 4 أفراد تحتاج إلى 3 آلاف و218 جنيهًا لتوفي باحتياجاتها الأساسية، وكان ذلك عام 2020، حيث كان الدولار يتراوح بين 18 و19 جنيهًا، والآن في عام 2024 وصل سعره إلى 48 جنيهًا.
لقد قال المصريون سابقًا: “إن فاتك الميري -الوظيفة- اتمرغ في ترابه” كنوع من التقديس للوظيفة الحكومية، وقدرتها على إضفاء الأمان المستقبلي والوجاهة الاجتماعية لصاحبها، لكن في السنوات الأخيرة وتحت وطأة العديد من الإجراءات التقشفية القاسية، وسياسة عدم تعيين موظفين جدد، والموظفين الحاليين أسعارهم ومعاشاتهم لا تناسب الحياة اليومية من الأساس، يبدو أن ذلك المثل كعبرة وعظة قد راح إلى غير رجعة.
توضح تلك الرحلة بين الأرقام والإحصائيات عبر مسيرة 70 عامًا من التاريخ المصري المعاصر جزءًا من حياة المواطن المصري، بين الأحلام والانهيارات، ويمكن إجمالها فيما قاله “جلبير الأشقر” في كتابه “الشعب يريد” عن الميزة التنموية لمرحلة عقدَي الخمسينيات والسبعينيات، قائلًا:
“الحقيقة التي لا مناص منها أن تنمية اقتصادياتنا لن تتم بالاتكال على الرأسمال الخاص، بل تتطلب القطيعة مع النموذج النيوليبرالي وإعادة الدولة والقطاع العام إلى موقع قيادة التنمية، وذلك بتسخير ثروات البلاد لهذا الهدف الرئيسي بواسطة الضريبة التصاعدية والتأميمات. كان للسياسات التنموية التي سادت المنطقة بدءًا من الخمسينيات حتى السبعينيات على علّاتها أثر إيجابي ونتائج اجتماعية أفضل بكثير من نتائج السياسات النيوليبرالية التي عقبتها، والمطلوب اليوم إنما هو العودة إلى ما كان تنمويًا في تلك التجارب بدون ما شابها من استبداد وفساد، في حين أن الأنظمة التي تلتها قامت على التخلص من السياسات التنموية مع الإبقاء على الاستبداد والفساد، بل مفاقمة الفساد إلى أقصى الحدود“.