في 15 أبريل/نيسان 2023، اندلع القتال في العاصمة السودانية الخرطوم بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وخلال ساعات امتدت رقعة الصراع إلى كل أنحاء العاصمة بمدنها الثلاثة ثم تدحرجت سريعًا إلى مدن وبلدات أخرى في مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك ولايات دارفور وكردفان غربًا والجزيرة “وسط” وسنار “جنوب شرق”.
يقود القوات المسلحة السودانية الجنرال عبد الفتاح البرهان الذي يشغل في الوقت ذاته منصب رئيس مجلس السيادة، بينما يقود قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، المعروف أيضًا باسم “حميدتي”، وكان الرجلان نفّذا انقلابًا مشتركًا على الحكومة المدنية الانتقالية في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
بعد الانقلاب بدأ التحالف غير المستقر بين البرهان وحميدتي في التدهور تدريجيًا بسبب التنافس على السلطة، ثم تصاعدت التوترات في أعقاب التوقيع على اتفاق إطاري جديد في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2022 بين “قوى الحرية والتغيير”، المكوّن المدني للحكومة الانتقالية السابقة والقيادة العسكرية ممثلة في الجيش والدعم السريع، كل على حدة.
السودان المنسي https://t.co/sgz1TTMjOV
— نون بوست (@NoonPost) July 3, 2024
كيف اندلعت الحرب في السودان؟
الاتفاق الإطاري حدد مبادئ أساسية ورؤية لتشكيل حكومة تدير البلاد لما تبقى من الفترة الانتقالية، لكنه أرجأ 5 قضايا خلافية رئيسية، بما في ذلك إصلاح قطاع الأمن إلى مرحلة ثانية من المحادثات، حيث نوقِشت هذه القضايا جزئيًا في الأشهر الأولى من 2023 قبل اندلاع الحرب.
وعندما بدأت المناقشات عن إصلاحات القطاع الأمني والعسكري، تصاعدت الخلافات بين البرهان وحميدتي بشكل حاد حول الإطار الزمني لدمج قوات الدعم السريع في الجيش، إذ اقترح الأخير مدة سنتين لإكمال الإدماج بينما تمسك حميدتي بفترة طويلة لا تقل عن 10 سنوات، وفي غضون ذلك بدأ الجانبان بتخزين الأسلحة في مواقع رئيسية، بما في ذلك الخرطوم خلال الأيام التي سبقت اندلاع القتال.
كشفت صحيفة السوداني الصادرة صباح 4 أبريل/نيسان 2023، أي قبل 10 أيام من الحرب أنّ الدعم السريع أعادت تموضعها بـ60 ألف مقاتل داخل الخرطوم، بينما قال حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، في وقت لاحق، إنّ عدد قوات الدعم السريع في الخرطوم قبل الحرب بـ6 أشهر كان نحو 25 إلى 30 ألفًا، لكن قبل ساعات من الحرب تمكن قائدها حميدتي من حشد أكثر من 120 ألفًا، ما يعني استعداده المبكر لسيناريو الحرب.
يعزز تلك الفرضية نقل قوات الدعم السريع عشرات المركبات المدرعة من دارفور ونشرها في العاصمة الخرطوم، حيث شوهدت في شارع المطار قبل 48 ساعة فقط من بداية الحرب.
🔴 إنتشار لـ مدرعات الدعم السريع في شارع المطار ومناطق أخرى في الخرطوم .. pic.twitter.com/iT1mLIoFwg
— ذوالكــفـل ® (@HkZuk) April 13, 2023
من الذي أشعل الحرب؟
هناك 3 روايات تحدد الأطراف المسؤولة عن إشعال الحرب:
- الرواية الأولى: تتبناها الدعم السريع بقولها إنّ قواتها في حي المدينة الرياضية (جنوب الخرطوم) تعرضت لهجوم من قوات الجيش صباح 15 أبريل/نيسان، وأنّها قامت بالرد على ذلك الهجوم.
- الرواية الثانية: يتبناها تحالف قوى الحرية والتغيير وهي أنّ الحرب أشعلها “فلول” النظام السابق عن طريق أذرعهم داخل الجيش.
- الرواية الثالثة: وهي الأرجح، فحواها أنّ الدعم السريع أشعلت الحرب بهدف استلام السلطة، إذ سيطرت على المنشآت الحيوية في وقت مبكر من صباح 15 أبريل/نيسان 2023، مثل مطار الخرطوم والقصر الرئاسي والوزرات والمؤسسات الحكومية، كما أعلن قائدها حميدتي أنه يحاصر قائد الجيش في القيادة العامة ولا مجال له غير الاستسلام أو الاعتقال.
والرواية الأخيرة تتبناها عدة مراكز بحثية عالمية مثل مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ومرصد نزاع السودان التابع لجامعة ييل الأمريكية، إضافة إلى المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة تافتس أليكس دي وال.
كيف تبدو خريطة السيطرة في السودان بعد أكثر من عام على الحرب؟
تحتفظ قوات الدعم السريع بالسيطرة على معظم أنحاء العاصمة الخرطوم عدا مدينة أم درمان التي استعاد الجيش نحو 70% منها بعملية عسكرية واسعة النطاق، كما تسيطر قوات حميدتي على إقليم دارفور عدا عاصمته الفاشر وكذلك على ولاية الجزيرة عدا أجزاء من محليتي 24 القرشي والمناقل.
وتوغلت الدعم السريع مؤخرًا في ولاية سنار، حيث استولت على أجزاء من مدينة سنجة وكامل منطقة جبل موية الاستراتيجية، وبالتالي أصبحت لديها القدرة على تهديد مدينة سنار وولايات النيل الأبيض والنيل الأزرق والقضارف، ما لم يتمكن الجيش من إزاحتها من هذه المنطقة.
في المقابل يسيطر الجيش على ولايات النيل الأبيض والنيل الأزرق وولايات الشمال إلى جانب الولايات الشرقية بما في ذلك العاصمة المؤقتة “بورتسودان” وأجزاء من كردفان، إلى جانب عاصمة إقليم دارفور الفاشر، والأخيرة تقاتل في الدفاع عنها مع الجيش السوداني القوة المشتركة للحركات المسلحة حيث يجمعها تحالف مع القوات المسلحة السودانية ضد الدعم السريع.
ومن الخريطة أعلاه يتبين لنا أن قوات حميدتي تسيطر على مساحات أكبر من تلك التي يسيطر عليها الجيش السوداني، الأمر الذي يقودنا إلى سؤال جديد:
ما سر التفوق العسكري للدعم السريع؟
منذ اليوم الأول لمعركة السيطرة على الخرطوم، لوحظ تقدم قوات الدعم السريع على الأرضِ بصورةٍ فاجأت الكثيرين ممن قللوا من شأن هذه المليشيا التي شكلها الجيش لتكون قوة إسناد له، فإذا بها تلحق به الهزيمة منذ الأيام الأولى في الخرطوم العاصمة، ومن ثم تمددت جنوبًا إلى ولايتي الجزيرة وسنار كما استولت على معظم إقليم دارفور.
يعزى التفوق العسكري للدعم السريع إلى ثلاث أسباب رئيسية:
- الإمداد العسكري النوعي واللامحدود الذي تقدمه دولة الإمارات عبر تشاد المجاورة، وفشل الجيش السوداني في قطع خطوط الإمداد أو حتى في استقطاب دعم عسكري من الحلفاء المحتملين مثل تركيا ومصر.
تناول هذه القضية تقرير نُشر في صحيفة نيويورك تايمز تفاصيل عن حصول حميدتي على صواريخ أرض-جو ومركبات مدرعة عبر الجسر الجوي الإماراتي، كما نُشرت صور في وقت سابق تظهر فيها صواريخ المدفعية LAR-160 الذكية إسرائيلية الصنع بحوزة مقاتلي الدعم السريع.
- نجاح الدعم السريع في حشد المقاتلين واستقطابهم بالتجنيد القبلي، فضلًا عن استعانتها بآلاف المرتزقة الأجانب وأغلبهم انضمّ لها إما لأسباب قبلية وإما لممارسة أعمال النهب والسلب، فكل المناطق التي دخلتها تم نهبها بالكامل خاصة الممتلكات القيمة مثل المركبات والذهب والأموال السائلة.
- وجود خلل هيكلي واضح في قيادة الجيش للمعارك، فهو يتبع استراتيجية دفاعية وليست هجومية باستثناء معارك أم درمان القديمة، وتطاله الاتهامات بأنّه يتجاهل تمامًا واجب حماية المواطن السوداني.
وبعد أكثر من عام على اندلاع الحرب فقد الجيش ثقة غالبية المواطنين، فبينما ظلّ قادة القوات المسلحة السودانية لعدة أشهر يبشرون بقرب استعادة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، فإذا بالجيش يفقد أجزاءً من ولاية سنار المجاورة في أيام معدودة ودون مقاومة تذكر.
كم عدد الضحايا والمتأثرين بالحرب؟
قدّرت لجنة الإنقاذ الدولية عدد ضحايا الحرب في السودان بـ150 ألف شخص، أي 10 أضعاف التقديرات المعلنة من جانب الأمم المتحدة والتي تتحدث عن 15 ألف قتيل.
وترجح التقارير أن عشرات آلاف المدنيين محتجزون تعسفيًا لدى قوات الدعم السريع، ويتعرضون لانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، كما تحتجز استخبارات الجيش عددًا آخر من المدنيين، لكنه أقل بكثير من الذين تحتجزهم الدعم السريع.
وكشفت مديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل، سليمى إسحاق، عن توثيق وإحصاء 191 حالة تتعلق بالعنف الجنسي ضد النساء وقعت منذ بداية الحرب تورطت في معظمها قوات الدعم السريع، بحسب الناجيات.
قالت إسحاق، إنّ الحالات الموثقة من طرفهم تم حصرها في ولايات الخرطوم والجزيرة وجنوب وغرب دارفور وشمال كردفان، منوهةً إلى أن الأرقام الحقيقية قد تكون أكبر من ذلك بكثير، لأن التوثيق في ظل انقطاع الإنترنت والاتصالات لا يكون شاملًا.
كما تسببت الحرب في أكبر أزمة إنسانية بالعالم، حيث فرّ 12 مليون مواطن سوداني من منازلهم منذ بدء الاشتباكات، منهم 10 ملايين داخل السودان ومليونان إلى خارج البلاد.
وأصبح 25 مليون شخص من سكان البلاد البالغ عددهم نحو 44 مليون نسمة في حاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية والحماية، بينما يواجه 18 مليون شخص خطر انعدام الأمن الغذائي الحاد في ظل نقص الغذاء، والمياه، والدواء، والوقود.
لماذا يغادر المواطنون السودانيون المناطق بمجرد وصول الدعم السريع؟
منذ بداية الحرب لوحظ أنّ المواطنين السودانيين ينزحون من المناطق والمدن بمجرد اقتراب قوات الدعم السريع، فأكثر من 80% من سكان العاصمة الخرطوم غادروها بعد أن سيطرت عليها قوات حميدتي منذ الأيام الأولى من الحرب، وتكرر هذا السيناريو في ولاية الجزيرة، وأخيرًا نزح من مدينة سنجة والقرى المجاورة لها أكثر من 55 ألف شخص بمجرد دخول الدعم السريع المنطقة.
ذلك أن مجرد اقتراب الدعم السريع من منطقة ما يعني تعرض المواطنين العزل لأهوال وفظائع لا حصر لها مثل القتل خارج نطاق القانون والاغتصاب والنهب والإذلال وإساءة المعاملة.
كيف يمكن التضامن مع الشعب السوداني؟
خبراء الاقتصاد يقدرون الخسائر المباشرة للاقتصاد السوداني من الحرب بنحو مئة مليار دولار، إذ تم تدمير أكثر من 90% من المصانع، كما تعطل الإنتاج الزراعي في البلاد بنسبة 70% بعد سيطرة الدعم السريع على ولاية الجزيرة، وتعطل القطاع الخدمي بنسبة 75%.
المطلوب الآن لإنهاء معاناة السودانيين الضغط على الحكومات والهيئات الدولية للاهتمام بقضية السودان، والأهم من ذلك الضغط على الأطراف التي تؤجج الصراع وتقدم السلاح لمرتكبي الفظائع مثل دولة الإمارات لحثها على إيقاف دعمها لقوات الدعم السريع.
كما يجب لفت نظر الدول العربية الشقيقة والمنظمات الإقليمية والدولية إلى خطورة الأزمة الإنسانية المتفاقمة، فأكثر من نصف السكان باتوا بحاجة إلى المساعدة الإنسانية، ما يستدعي تكثيف الدعم الإنساني وإقامة شراكات مع جهات موثوقة على الأرض للتحقق من وصول الدعم لمستحقيه.
وفي شأن التضامن مع الشعب السوداني لا ينبغي التقليل من أهمية المشاركة المستمرة على مواقع التواصل الاجتماعي، فأي منشور أو تدوينة أو صوت يسهم بالتأكيد في رفع الوعي بما يحدث في السودان وإبقاء قضيته على الصدارة في ظل الأحداث الدولية المتلاحقة.
وأخيرًا، لا ننسى السودانيين الذين لجأوا للخارج بعد الحرب، فهؤلاء أحوج ما يكونون إلى الدعم النفسي والعاطفي والمادي كونهم ضحايا حرب لا ذنب لهم فيها، وفي هذا الصدد يجب التصدي بحزم لخطاب الكراهية والحملات العنصرية التي تقوم على شيطنة اللاجئين السودانيين وتحميلهم المسؤولية عن الأزمات التي تعاني منها بعض البلدان التي لجأوا إليها.