مع تزايد الدراسات التي تنصح بضرورة تعريض الجسم للطبيعة بما فيها من أوساخ أو وملوثات لتعزيز جهاز المناعة، يميل الكثير من الأفراد للتطرّف في اهتمامهم بنظافتهم الزائدة وحماية أجسامهم ن أيّ مسبب للأمراض من بكتيريا أو ميكروبات وغيرها، عوضًا عن تفكير الآباء الزائد في نظافة أبنائهم ومحاولة حمايتهم من أيّ عرَضٍ قد يسبب احتمالية تعرّض أجسامهم للإصابة. فهل حقًا تؤدي النظافة الزائدة إلى الإصابة بالأمراض؟
تقترح “فرضية النظافة”، والتي وضعت عام 1989 محاولةً شرح الزيادة السريعة في معدلات أمراض الحساسية والمناعة الشخصية في سياق الحياة الحديثة، أنّ النظافة المفرطة في وقتٍ مبكّر من الحياة يمكن أنْ تؤثر على تطور جهاز المناعة عند الأفراد ما قد يزيد من احتمالية إصابتهم بأمراض الحساسية وأمراض المناعة الذاتية في أوقات لاحقة من حياتهم.
ترتكز تلك الفرضية أساسًا على أنّ التعرض للعدوى خلال مرحلة الطفولة المبكّرة من شأنه أن يولّد دفاعًا جيدًا ضد عدة أنواع من الميكروبات والفيروسات التي قد تسبّب أمراضًا معينة في وقتٍ لاحق من الحياة. وبالتالي فإنّ الاهتمام المبالغ فيه بالنظافة وحماية الجسد من أيْ نوع من الميكروبات قد يؤدي إلى ضعف في فعالية الجهاز المناعيّ، نظرًا لفرط تعامله مع أنواعٍ كثيرة من تلك الميكروبات على نوحٍ مبالغٍ فيه، دون التأكد من كونها ضارة أم غير ذلك.
تفترض نظرية النظافة أنّ النظافة المفرطة في وقتٍ مبكّر من الحياة يمكن أنْ تؤثر على تطور جهاز المناعة عند الأفراد ما قد يزيد من احتمالية إصابتهم بأمراض الحساسية والمناعة الذاتية في أوقات لاحقة من حياتهم.
وبكلماتٍ أخرى يمكن القول أنّ أجسامنا قد تبالغ بالرد على الميكروبات النافعة بأشكالها المتعددة والمختلفة، نظرًا لأن جهاز المناعة فيها قد نسي كيفية التعايش والتعامل معها بفعل المحاولات التي قد تصل إلى مرحلة من الأمراض النفسية مثل الهوس والوسواس القهريّ بالنظافة بحدٍ مبالغ فيه.
تفترض النظرية على سبيل المثال أنّ الأطفال الذين ينشؤون في المناطق الريفية حيث يكون بإمكانهم التعرّض للطبيعة والحيوانات بشكلٍ مباشر، إضافة للأطفال الذين ينشؤون في الأسر الأكبر حجمًا، تكون احتمالية إصابتهم بأمراض جهاز المناعة أقل من الأطفال الآخرين، نظرًا لزيادة تعرّض أجسادهم إلى عدة أنواع من الفيروسات أو البكتيريا لا يتعرّض لها أطفال المدن أو البيئات الحضرية الحديثة.
وفي إحدى الدراسات الحديثة في “مجلة ثوراكس” ، تمّ الافتراض بأنّ الأطفال الذين ينشؤون في المزارع أو الأرياف هم أقل عرضة للحساسية وبعض الأمراض الأخرى مثل الربو في المراحل المقبلة من حياتهم، لا سيّما بعد البلوغ. وينطبق الأمر نفسه على أولئك الذين نشؤوا مع حيوانات أليفة في المنزل.
هل يعمل هوسنا بالنظافة ضدنا؟
لا يستطيع الفرد في هذا العصر تجاوز الإعلانات التي لا تنتهي عن منتجات النظافة والصابون وحماية الجسم من الملوثات والأوساخ، فباتت فكرة لمس مفتاح الضوء في مكان العمل أو فتح باب سيارة نقل عمومية على سبيل المثال، تشكّل قلقًا كبيرًا عند الأفراد، اعتقادًا بتلوّثها وخوفًا من أيّ حساسية أو عدوى قد تنشأ عنها.
عوضًا عن ذلك، يسعى كثيرٌ من الآباء في هذه الأوقات بالاعتماد على المضادات الحيوية بشكلٍ قد يكون من المبالغ فيه، سعيًا منهم لحماية أطفالهم من أيّ مرضٍ معدٍ أو إصابةٍ التهابية، على خلاف ما تدعو إليه كثيرٌ من الدراسات بأنّ تعرّض الجسم لبعض أنواع الميكروبات قد يكون مفيدًا له ويهيّأه للتعامل مع المشاكل المناعية لاحقًا. هنا قد نلجأ للتساؤل إذا كانت المشكلة الحقيقية هي اهتمامنا الزائد بالنظافة، من الناحية النظرية، فهل يمكن حل تلك المشكلة بسهولة بعدم الاهتمام بها ومحاولة التصالح مع فكرة أنّ النظافة التامة قد تعود علينا بالسوء أكثر مما قد تنفعنا؟
قد يصبح الاهتمام الزائد بالنظافة في كثير من الأحيان شكلًا من أشكال هوس الوسواس القهري، والذي يتميّز عمومًا بأفكار قد تبدو سخيفة وغير جدية ولكنها مع ذلك تشكّل مشكلة حقيقية للفرد تملأ حياته بالقلق والتوتّر نتيجة السلوكيات والتصرفات التي تنطوي عليها
قد تكون محاولة العثور على إجابةٍ واحدة لتلك الأسئلة ليست من السهولة بمكان، فلا يمكن الجزم تمامًا بأنّ الاهتمام الزائد بالنظافة قد يعود بالضرر على الجسم، لا سيما مع الانفتاح الهائل في الحياة اليومية للأفراد والزيادة المتصاعدة في مسببات التلوث. إلا أنّ ما ينبغي الإشارة إليه أنّ الاهتمام الزائد بالنظافة وحده لا يفي بالغرض، وقد يتحوّل لمشكلة حقيقية يومًا ما.
إذ قد يصبح الاهتمام الزائد بالنظافة في كثير من الأحيان شكلًا من أشكال هوس الوسواس القهري، والذي يتميّز عمومًا بأفكار قد تبدو سخيفة وغير جدية ولكنها مع ذلك تشكّل مشكلة حقيقية للفرد تملأ حياته بالقلق والتوتّر نتيجة السلوكيات والتصرفات التي تنطوي عليها وتكون بهيئة طقوس أو شعائر متكررة لا يستطيع الشخص التخلص منها أو عدم القيام بها نظرًا لكونها تخضع لعدم سيطرته، مثل غسل اليدين مرارًا وتكرارًا للتأكد من النظافة أو خلع جميع الثياب بعد الدخول للمنزل ظنًّا بتلوثها وقذارتها مما هو خارجه.
تهدف تلك السلوكيات إلى الحدّ أو التخفيف من الأفكار الوسواسية على المدى القصير، نظرًا لكون تلك السلوكيات تنشأ أساسًا نتيجة تلك الأفكار وتتبع لها. لكن في كثيرٍ من الحالات، يمكن لتلك الأفكار أنْ تؤدي إلى سلوكيات قد تزيد من حدة الأمراض النفسية الأخرى مثل الاكتئاب والقلق والانعزال وعدم القدرة على التخالط مع الآخرين والميل للبقاء في المنزل لفترات طويلة.
أما على مستوى التربية، فينعكس هوس الآباء، أو الأمهات على وجه الخصوص، والقلق والتوتر المصاحب له على أطفالهنّ على عدة أصعدة منها الصحية والاجتماعية والنفسية والعقلية.
عندما يتعلق الأمر بالبكتيريا فان النظام الغذائي الصحي قد يكون هو الحلّ، إلى جانب الاهتمام بالنظافة، إذ يوفّر النظام الغذائي الغني بالألياف والذي يقلّ اعتماده على الأطعمة المصنعة، بيئةً مناسبة للميكروبات والبكتيريا النافعة لأخذ دورها في الجسم والأمعاء، وبالتالي يمكنها أن تتكاثر وتترسخ بشكلٍ يعطي لجهاز المناعة سهولة أكبر للتعامل معها والاستفادة منها والتمييز بينها وبين تلك الضارة.
وكما هو معروف، فقدرة جهاز المناعة على تدريب نفسه على التعامل مع تلك الأنواع من البكتيريا تكون عالية جدًا في المراحل العمرية الأولى للطفل، ما يعني أنّ جسم الطفل يشكّل واقيًا طبيعيًا لحمايته بشكلٍ يغنيه عن الحاجة لاستخدام معقمات الجسم أو أنواع الصابون المتنوعة أو اللجوء للمضادات الحيوية المختلفة.
ومن وجهة نظرٍ أخرى، فيلعب الاعتماد المتزايد على المعقمات والمضادات الحيوية دورًا سلبية في طريقة تفكير الفرد بعد البلوغ، إذ يصبح ينظر لأي نوعٍ من الالتهابات أو الحساسية وكأنها مرضًا يستدعي التدخل الطبي السريع، دون إعطاء الجسم فرصته لشفاء نفسه بنفسه، ما يخلق فردًا ليّنًا غير قادر على التعامل مع ميكروب صغير أو غير مستعد للتعرض لبكتيريا حقيرة.