لماذا ما تزال دول إقليمية مُصرة على وضع رداء الإخوان المسلمين على حركات في تونس وليبيا، وأخْونتها وتخوينها؟ رغم أن تلك التيارات الإسلامية المعتدلة والقابلة باللعبة الديمقراطية، ارتدت “الجبة” المغاربية، ذلك اللباس الأصيل والمتأصل؟
لسنا بصدد الخوض في جدل العلاقة بين حركة النهضة التونسية وعلاقتها بتنظيم الاخوان المسلمين، لكن معلوم أن أبو ظبي ماضية في نهج تشويه صورة كل ماهو اسلام سياسي، حسب ما أكده تسريب صحفي فرنسي أخيرا، أما حركة النهضة فقد ذهبت فيما أبعد من التهم، وهو فصل وفك الارتباط بين الدعوي والسياسي قبل سنتين خلال مؤتمرها العاشر، والذي بدوره أثار جدلاً وأسال حبرًا، فما يهمني دائما هو الموقف المعلن لا أن أبحث أو أحاسب عن النوايا، بقدرما المحاسبة على الفعل والعمل على الأرض، أم هل سنكون “ملك أكثر من الملك” نفسه؟ ما الذي جعل النهضة التونسية تقدم على هذه الخطوة؟
الربيع المزعج
بعد الربيع العربي وصعود الإسلاميين إلى السلطة عبر الانتخابات، كفصيل سياسي جديد على الساحة العربية في مصر وتونس وليبيا، وبعد الانقلاب في مصر على الرئيس محمد مرسي بتلك الطريقة الدموية، بات جلياً أن رأس الاخوان المسلمين مطلوب ولا بد من إزاحته من الساحة بكل الأثمان، وهذا أمر معلن من الامارات ثم بات الموقف السعودي أكثر وضوحا في الخصوص.
معلوم أن السعودية تبحث عن دور مفقود ظلت مصر تلعبه لزمن طويل، لكن بدأت تخسر ذلك الدور مع صعود الإسلاميين في القاهرة، مما بات يهدد القرار السعودي العربي خاصة مع عدم تألها للعب ذلك الدور.
وخوفًا من سحب البساط من تحت أرجل النظم القديمة مقبل الربيع العربي لفائدة الانظمة الجديدة وعمادها “الإسلام السياسي” فإنه أضحى من الضروري بالنسبة للأنظمة الخليجية التقليدية أن تضحي بالنفس والنفيس لئلا يصل المد الإسلامي إليها، أو حتى الثوري الديمقراطي الجديد.
شعرت الأحزاب الإسلامية ذات المنهج السلمي الصاعدة في المنطقة بعد الثورات (لا سيما في تونس وليبيا)، بتهديدها في كيانها واستهدافها فاتبعت سياسة المناورة والمهادنة مع من استعدوها
لا يمكن أن ننكر دور الإمارات إلى جانب قطر في الثورات العربية ووقوفها معها ومساندتها، لكن تخلت عن هذا الدور بمجرد شعورها بأن التغيرات الجديدة ستهدد نظامها وهي التي ظلت تعادي كل نفس تحرري، لذلك وقفت مع الثورات المضادة في تونس وليبيا واليمن، وآوت مناصريها بعد ايصال الجنرال عبد الفتاح السيسي الى سدة الحكم في مصر.
بدا ذلك الموقف واضحًا فانحسرت موجات الربيع العربي حتى وصلت إلى مياه الخليج وانكشفت العلاقات والدسائس على حقيقتها، حتى اندلعت الأزمة الخليجية وحصار دول الخليج الثلاث لقطر بحجة دعم الارهاب، لتأليب العالم عليها.
شعرت الأحزاب الإسلامية ذات المنهج السلمي الصاعدة في المنطقة بعد الثورات (سيما في تونس وليبيا)، بتهديدها في كيانها واستهدافها فاتبعت سياسة المناورة والمهادنة مع من استعدوها، ليس خوفاً على مستقبلها فحسب، بل وأيضًا حفاظًا على تموقعها في الداخل مع تمادي الدولة العميقة في تشويهها، لذلك كان لابد من حل يرضي الجميع ويبتعد بالدولة عن كل منزلق.
الحل في “التكتيك”
شعرت حركة النهضة التونسية بحقيقة استهدافها مع أول إغتيال سياسي لتتوضح خيوط اللعبة أكثر مع تتالي الاستهدافات، وبلغت العملية التآمرية على الثورة بأكملتها، مع صيف 2013 واعتصام الرحيل الذي كاد أن ينسف ثمرة الثورة الوحيدة وهي المجلس التأسيسي الذي أسس لدستور الجمهورية الثانية.
وفي ليبيا تقريبا نفس الشيء حاول حزب العدالة والبناء السير في خط الولاء للمبعوث الأممي والقبول بصلح الصخيرات رغم تحفظه عليه في نقاط جوهرية لم تحل بعد، لكن كان ذلك هو الحل للابتعاد عن المواجهة أكثر ما يمكن عن حفتر المدعوم من الإمارات والجارة مصر السيسي.
بدورها، لم تجد حركة النهضة بُدا من مسايرة الواقع، لكن بنظرة مناورة أو ما يسميه أنصارها بـ”تكتيك الشيخ” الذي تخلى عن الحكم طواعية، كما قال راشد الغنوشي ليس غاية في الحكم، وإنما بحثا عن مخرج يحافظ على البلاد من أي انزلاق نحو الفوضى التي هدد بها صراحة حليف اليوم رئيس الجمهورية، ثم بما يضمن حدًا من الثقة التي إنعدام مناخها في تلك الفترة، وهو ما تحقق نسبيًا حتى الآن رغم مناخ عدم الثقة والاطمئنان الذي ما يزال مسيطرًا على القواعد الشعبية للأحزاب، شرخ زادته تسريبات من حين لآخر عمقا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية المحلية.
“لقد كان كذلك الأولى من سياسة التخوين والهروب إلى الأمام المتوخاة من دول الخليج لا سيما أبو ظبي، أن لا ينساقوا وراء الانفاق الباهض والفجور في الخصومة، ما زاد في تدمير وتشرذم المنطقة”
وحظي ترشيح النهضة لتونسي يهودي في الانتخابات المنتظرة بمفاجئة من العيار الثقيل من أنصار الحركة قبل مناهضيها، وهو يعد أمر طبيعي طالما أن الرجل تونسي له مالنا وعليه ما علينا كمواطنين متساوين في الحقوق والمواطنة.
هذه الاختراقات التي حققتها النهضة كحزب إسلامي مدني قام بمراجعات كبيرة ربما تكون السبب وراء رضاء خصومها بما في ذلك أولائك الذين يقاسمونها الحكم، وبالتالي تفويت الفرصة على المتربصين والقاعدين لها على الطريق.
لكن يبدو أن هذه المحاولات لن يهنأ لها بال حتى تمرر بين الفينة والأخرى إحدى رشقاتها في تعطيل المسار الانتقالي بمعاونة من قوى الشد إلى الوراء، من ذلك ما سربه الصحفي الاستقصائي الفرنسي نيكولا بو أواخر الشهر المنصرم من أن “حكام الإمارات مستعدون لفعل كل شيء للإطاحة بحركة النهضة التي تعتبر بالنسبة لهم أحد فروع تنظيم اخوان المسلمين؟”، ما الذي جعل الإمارات تصر على هذا التوصيف؟
الوعي بالمطامع
تسعى الإمارات إلى مواجهة المد الثوري وقتله في مهده وتأليب قوى الرجعية عليه، لما يمثله من خطر عليها حسب رؤيتها طبعا، رغم انه أحدا لم يتبن تصدير الثورات.
ما فعلته الإمارات في اليمن وبميناء عدن بعد تجربتها في إدراة شركة موانئها بدبي، يبدو أنه أسال لعابها في التفكير جيواستراتيجيا خارج ترابها
فالإسلام السياسي مستهدف وآليته الديمقراطية، لا لشيء سوى لأنه انتهج المنهج الديمقراطي الذي يتصادم وحكم العائلات والأفراد والأمراء، وليس أدل من ذلك هو أن الأنظمة السابقة نفسها في تونس وليبيا حاولت احتوائهم في البداية، ودخلت معهم في حوار جدي خاصة في ليبيا من خلال مشروع مصالحة لإخراجهم من السجون وتمكينهم من جمعيات وهو ما اعترفت به الجماعة نفسها، كذلك حصل نوع من المهادنة ثم العفو بين التيار الإسلامي التونسي والرئيس المخلوع بن علي في وقت ما بعد تغيير اسم الحركة، أملاً في ترخيص حزبي لكن سرعانما كشفت عجلة الانقلاب النوفمبري عن حقيقتها بعد فوز النهضة بالانتخابات البرلمانية 1989 عبر مرشحين مستقلين.
لقد كان كذلك الأولى من سياسة التخوين والهروب إلى الأمام المتوخاة من دول الخليج لا سيما أبو ظبي، أن لا ينساقوا وراء الانفاق الباهض والفجور في الخصومة، ما زاد في تدمير وتشرذم المنطقة وقد توعد قائد شرطة أبوظبي صراحة تنظيمات الإسلام السياسي معتبرا “إسرائيل” وايران أفضل منهم ومتوعدا كذلك بمطاردتهم حتى يصبحوا قلة قليلة، ولو أن ما أنفق من بترودولار في تطويعهم لما ضمنت اصطفافهم وخطبت ودهم، وبالتالي تعزيز الموقف العربي ومزيد توحده مقابل الصف الإيراني وذيوله في المنطقة الذي تسعى الإمارات والسعودية للتكتل ضده كصف شيعي، لكن عن جهالة ما أجج الإنقسام في الصف العربي السني.
كما تخشى أبوظبي من مزيد ترسيخ تونس لقدمها في الديمقراطية التشاركية، خصيصاً وأن الانتخابات المقبلة ستكون محطة مهمة جدًا في ترسيخ الديمقراطية واللامركزية في تونس، وهذا لا يخيف إلا غير الواثقين من سياساتهم ومصالحهم وعلاقاتهم مع شعوبهم.
الجزائر وتونس فتعلمان جيدًا مصالحهما وخطورة التلاعب بمصيرهما، فلا غرابة أن يكون حينها مصدر التسريب الفرنسي مصدر أمني جزائري
وبالتالي، يمكن فهم تلك المخاوف دون تفهمها، عندما نرى ما يجري في الدول الإقليمية الأخرى كليبيا، وما فعلته الإمارات في اليمن وبميناء عدن بعد تجربتها في إدراة شركة موانئها بدبي، يبدو أنه أسال لعابها في التفكير جيواستراتيجيا خارج ترابها، وما قاله محمد عتيق الفلاحي الأمين العام للهلال الأحمر الإماراتي حول ما إذا تم تسليم ميناء عدن للصين وسحبه منها، فإنهم سيعترفون بشرعية الحوثيين، لا بل سيروجون لها في العالم أجمع. هل بعد هذه المصالح مصلحة؟
أما الجزائر وتونس فتعلمان جيدا مصالحهما وخطورة التلاعب بمصيرهما، فلا غرابة أن يكون حينها مصدر التسريب الفرنسي مصدر أمني جزائري، وتلك رسالة واضحة أن “الشقيقة الكبرى” عندنا في المغرب العربي تعي جيدا مصالح المغرب العربي قبل غيرها. فالوعي بتلك المطامع هو جزء من الحل لدرء كل القلاقل، إن لم نقل هو الحل كله.