على طرف واد فاس وسط منطقةٍ سهليةٍ تحيط بها الغابات والحشائش البرية من جميع الجهات، تقع العاصمة الروحية للملكة المغربية، مدينة فاس التي تأسست سنة 789 ميلاديًا، على يد إدريس بن عبد الله الذي اتخذها عاصمة للدولة الإدريسية.
مدينة ذاع صيتها لطابعها الهادئ، ومناظرها الخلابة، وجمالها الطبيعي، وما احتوته من مآثر تاريخية قلّ مثيلها في مدن المملكة، مكّنتها أن تكون جزءًا أساسيًا من التراث الوطني المغربي.
تاريخ مدينة فاس
تختلف الروايات وتتعدّد في خصوص أصل تسمية المدينة، منها من يقول إنه لما دخل إدريس الأول مؤسس دولة الأدارسة إلى المغرب، شاء الله أن يستقر وجيشه في منطقة ما فضرب بالفأس فيها ليبدِؤوا البناء، لذلك سميت المدينة بـ “فاس” بسبب ضربة الفأس. فيما تقول روايات أخرى إن أصل التسمية أمازيغي، فكلمة أفاس تعني اليمين، فموقع هذه المنطقة بالنسبة للطرق القوافل التجارية في عهد تأسيسها تقع على الجهة اليمنى.
وتنقسم مدينة فاس إلى 3 أقسام، فاس البالي وهي المدينة القديمة التي تأسست على يد إدريس الأول، وفاس الجديد وقد بنيت في القرن الثالث عشر الميلادي في عهد الدولة المرينية، والمدينة الجديدة التي بناها الفرنسيون إبان فترة الاستعمار الفرنسي.
مثّلت مدينة فاس، أحد أهم ركائز الحكم في تاريخ المغرب
استقبلت المدينة في بدايتها هجرتين من نوع خاص: هجرة العائلات الأندلسية الفارة من حملات التفتيش والقمع الإيبيري الذين سكنوا في حي عدوة الأندلسيين، ثم العائلات العربية الوافدة من القيروان الذين سكنوا في حي عدوة القرويين، إضافة إلى تجمع يهودي كبير سكن حي الملاح، وكان هذا التفاعل السكاني مبعث روافد حضارية وثقافية طبعت خصوصيتها التاريخية وأغنت رصيدها التراثي.
مثّلت مدينة فاس، أحد أهم ركائز الحكم في تاريخ المغرب، فمن الإدارسة إلى الأمويين والزناتيين فالمرابطين، ومن ثم الموحدين الذين حاصروا المدينة تسعة أشهر ودخلوها في عام 1143 ميلادي، وصولا إلى المرينيين الذين اتخذوها مركزا لهم بدلا من مراكش، ثم مركزا للدولة العلوية.
معالم تاريخية
تتميّز مدينة فاس بعديد المعالم التاريخية، أبرزها المدينة العتيقة أو ما يُعرف أيضاً بـ”فاس البالي”، التي تأسّست في القرن التاسع الميلادي، وأدرجتها اليونسكو في قائمة مواقع الإرث العالمي عام 1981، على اعتبار أنها “مثال حي” من شرق المتوسط على مدينة مزدهرة أثّرت بشكل كبير، وخصوصاً بين القرنين 12 و15، على تطوّر فنون العمارة وتخطيط المدن، لا سيما في شمال أفريقيا والأندلس وأفريقيا جنوب الصحراء.
سور المدينة العتيقة
تتميز المدينة قصورها التي شيدها الأدارسة والمرينيون على التلال التي تطل على فاس من جهة الشمال، وكذلك المنازل القديمة المكونة من طابقين حولها أفنية ضيقة، لكنها كسيت بحشوات من الفسيفساء الخزفية، والأبواب المزخرفة بزخارف جصية محفورة، ويحاط بعض المنازل بالحدائق والبساتين.
ومن الآثار الباقية في المدينة القديمة، السور وبواباته الثماني والتي تم تشييدها بطريقة التربة المدكوكة بأقواسها الرائعة والنقوش والتخريم البارز فوقها والتي ترجع إلى عهد المرينين، ورغم القيام بتجديد بعضها في العصور التالية فإنها ظلت محتفظة بطابعها.
من بين هذه المعالم أيضًا، مدرسة الصفارين، نسبة إلى سوق صناعة النحاس بعدوة القرويين
فضلاً عن السور وأبوابه، يشدّك في المدينة، البرج الشمالي أو برج النار، تلك القلعة التي تعود إلى القرن الـ 16، والتي تحتوي على متحف أسلحة مثير للإعجاب، حيث تتضمن الأسلحة بعض القطع النادرة للغاية، ويمثل المتحف مستودع سلاح من جميع أنحاء العالم، على سبيل المثال يوجد مدفع طوله خمسة أمتار ويزن 12 طن وهو المدفع الذي استخدم خلال معركة الملوك الثلاثة.
وفي هذه المدينة العتيقة عديد المباني المثيرة للاهتمام من ذلك مسجد الأندلس، الذي بني في عام 1321ميلادي ويشتهر بمئذنته الخضراء والبيضاء البارزة والتي يعود طرازها في الواقع إلى القرن العاشر، حسب كتب التاريخ.
معالم كبيرة تحتضنها المدينة
أيضا “مدرسة العطارين”، التي تقع على مقربة من سوق التوابل والعطور، والتي أقيمت في سنة 1325 ميلادي على يد السلطان المريني يعقوب أبو سعيد عثمان الثاني، وتتميّز المدرسة بفنائها الذي يوجد فيه الكثير من تصميمات البلاط الرائعة وأعمال النحت والخشب.
من بين هذه المعالم أيضًا، مدرسة الصفارين، نسبة إلى سوق صناعة النحاس بعدوة القرويين الذي تنفتح عليه بواسطة بوابة يعلوها قوس منكسر ومتجاوز، ويطلق عليها أيضًا اسم “مدرسة الحلفاويين ” لوجودها بسوق تباع فيها الحلفاء. وبنيت هذه المدرسة على يد السلطان المريني يعقوب ابن عبد الحق، سنة 670 هجريًا.
تتميز معالم المدينة بزخرفتها
يتميز تصميم المدرسة بشكله غير المنتظم، ويضم مستويين رتبا حول صحن مكشوف، يحيط بهذا الأخير رواق تنفتح عليه مجموعة من الغرف المخصصة للطلبة وقاعة للصلاة، وفي الطابق الأول، توجد أربع غرف مخصصة لإيواء الطلبة ومنارة متناسقة الأجزاء زينت واجهاتها الأربعة بتشبيكات معمارية وبقطع من الزليج المتعدد الألوان، على شاكلة باقي صوامع الفترة المرينية.
متاحف المدينة
نظرًا لامتدادها التاريخي وتعدّد الحضارات التي تعاقبت عليها، تتميز مدينة فاس بمتاحفها، من ذلك متحف “دار البطحاء” الذي يقع داخل قصر الصيف المغاربي الذي بني في أواخر القرن التاسع عشر على الطراز الإسباني، وقد بناه السلطان مولاي عبد العزيز سنة 1897 ميلادي.
يجمع المتحف مجموعة مختارة من الأعمال الحرفية التقليدية المغربية، مثل الأبواب الخشبية المنحوتة، والأعمال المشكلة من الحديد المطاوع، وأعمال التطريز والسجاد، وتصاميم المجوهرات التراثية من كل الأنواع.
أخذ الجامع اسمه من مؤسسته السيدة فاطمة التي تعود أصلها إلى القيروان بتونس
كذلك متحف النجارين أو فندق النجارين كما يطلق عليه السكان المحليين، ويعرض هذا المتحف مجموعة كبيرة من الاعمال والمنحوتات الخشبية المغربية القديمة. ويتميّز الفناء الرئيسي لمبنى المتحف بأركانه القوية وشرفاته المزخرفة بالخشب المنحوت والجص.
جامع القرويين
تعتبر مدينة فاس “العاصمة الروحية” للمغرب، ذلك أنها تمتلك عديد المعالم الروحية، أهمها جامع القرويين الذي بني في عام 859 ميلادي خلال حكم الأدارسة، على يد فاطمة بنت محمد الفهرية القرشية المعروفة بـ”أم البنين”.
تحوّل الجامع إلى جامعة كبرى
تقول كتب التاريخ إنّ فاطمة الفهرية، ابنة مهاجر من عرب الحجاز يسمى محمد بن عبد الله الفهري، أقام في القيروان بعد فتحها على يد عقبة بن نافع الفهري، فترة من الزمان، وكان تاجرًا ثريًا، ثم ذهب الاثنان إلى المغرب ليستقرا في مدينة فاس، لتتزوج فاطمة هناك، إلا أن المنية وافت زوجها وأخوه وأبيها، فورثت ثروة كبيرة قررت استثمارها في الإنفاق على بناء جامع وتوسعته، ليتحول من مسجد صغير إلى جامعة كبيرة في الغرب الإسلامي تحمل اسم “جامعة القرويين”، وأخذ الجامع اسمه من مؤسسته السيدة فاطمة التي تعود أصلها إلى القيروان بتونس.