حازت الشخصيات المريضة نفسيًا على اهتمامٍ بالغ في السينما والمسلسلات والروايات، ما جعل منها أقرب للفهم العام، وبفضل هوليوود وأفلامها، باتت مصطلحات من قبيل سايكوباث أو سوسيوباث متداولة بشكلٍ واسع على نطاقات مختلفة، على الرغم من أنها لا تخرج من حيّز كونها مجرد مصطلحات شعبية بديلة للمصطلح الذي يعتمده مجتمع الطب النفسيّ ويُعرف بالشخصية المعادية للمجتمع أو ” antisocial personality disorder“.
ولنفهم الملامح العامة لتلك الشخصية، فلا بدّ من الاستعانة بالدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض العقلية والنفسية “DSM5“، والذي يعرّف الشخصية المعادية للمجتمع بكونها تلك الشخصية التي تتسم بثلاث سماتٍ أو أكثر من السمات التالية؛ عدم احترام قوانين المجتمع، انتهاك حقوق الآخرين المادية والعاطفية، الكذب والخداع والاستغلال المستمر للآخرين، الافتقار للتعاطف والندم حيال الأفعال، الأنانية الشديدة والإحساس بالتفوق، العدوان واستعمال العنف والإساءة بالتعامل مع الآخرين.
يعتبر مصطلحي سايكوباث وسوسيوباث مجرد مصطلحات شعبية بديلة للمصطلح الذي يعتمده مجتمع الطب النفسيّ ويُعرف بالشخصية المعادية للمجتمع أو ” antisocial personality disorder“.
إذن فيشير مصطلح الشخصية المعادية للمجتمع إلى مجموعة من السمات الشخصية التي تشمل نمطًا معيّنًا من السلوكيات والأفكار التي تنطوي على كونها نمطًا دائمًا للحياة يمكن استشفافه من خلال التقييم النفسي الذي يستكشف الأفكار والمشاعر والعلاقات مع الآخرين وأنماط السلوك والتاريخ العائلي والتاريخ الشخصي والطبي للفرد.
قد لا يكون من السهل بمكانٍ اكتشاف ذلك الاضطراب عند الأفراد، فغالبًا ما تبدو تلك الشخصية على قدرٍ عالٍ من الذكاء والكاريزمية والقدرة على محاكاة العواطف أو التفاعل معها بطريقةٍ قد تجذب كلّ من حولهم ظاهريًا. ولكن في الحقيقة فثمة إنسان يجيد تمثيل دوره على أكمل وجه تبهرك لطافته وعذوبة كلامه وقدرته على استيعاب من أمامه ومرونته في التعامل وشهامته الظاهرية المؤقتة ووعوده البراقة.
الاختلاف الأكبر بين الشخصيتين يكمن في وجود أو تمحور الضمير في إطار الحيّز اليومي للفرد. إذ ليس لدى الشخصية المعتلة نفسيًا أي ضمير ولا يقيم اعتبارًا لأيّ صوابٍ أو خطأ، على عكس الشخصية المعتلة اجتماعيًا
ومع ذلك، فثمة أوجه اختلاف رئيسية يمكن لمسها بين الشخصية السايكوباتية من جهة، والشخصية السوسيوباثية من جهةٍ أخرى، لعلّ أهمها وجود أو تمحور الضمير في إطار الحيّز اليومي للفرد. إذ ليس لدى الشخصية المعتلة نفسيًا أي ضمير ولا يقيم اعتبارًا لأيّ صوابٍ أو خطأ، لذلك فإنّ أيّ شكلٍ من أفعاله وسلوكياته وتصرفاته كالقتل والسرقة والخداع وغيرها، لا تكون محكومةً بتاتًا بأيّ رادعٍ أخلاقيّ أو مرجعٍ ضميريّ على الرغم من محاولة تلك الشخصية بالتظاهر أمام الآخرين على عكس ذلك.
أما الشخصية المعتلة اجتماعيًا فعادةً ما يشكّل الضمير عندها مرجعًا ولو ضعيفًا لقياس الأفعال والتصرفات، فقد يعلم أنّ السرقة فعلٌ خاطئ، وقد يشعر ببعض الذنب أو الندم في بعض الأحيان، ولكن ذلك لن يوقف سلوكه أو انسياقه وراء أفعاله.
كلا الشخصيتين تفتقر إلى التعاطف والقدرة على وضع النفس في مكان الآخرين والنظر للأمور من زاويتهم، لكنّ الأمر يكون على درجةٍ أكبر عند الشخصية المعتلة نفسيًا، إذ ينعدم اهتمامه بالآخرين ويتجاهل عواطفهم ومشاعرهم، ويميل للتلاعب بهم واستخدامهم، فشخص من هذا النوع من الشخصيات يرى الآخرين كأشياء أو أدوات يمكنه استخدامها لمصلحته الخاصة وتحقيق أهدافه.
وفي حين لا يهتم المعتلّ اجتماعيًا سوى بنفسه وبتحقيق مطامحه، إلا أنه عادة ما يكون أقلّ تلاعبًا بالآخرين في حال قورن بذلك المعتلّ نفسيًا الذي يتسم ببرودة قلبه، فهو يرسم بعناية تحرّكاته ويخطط بكلّ ما أوتي من مكرٍ وأنانية ليحصل على ما يريد، سواء على مستوى العلاقات الشخصية أو العملية وغيرها.
فالمعتلون نفسيًا يجدون صعوبةً في تشكيل ارتباطاتٍ عاطفية حقيقية مع الآخرين، إذ جلّ علاقاتهم تتمركز حول التلاعب بهم بأكبر قدرٍ للحصول على فائدة ما، فالآخرون مجرد بيادق لتحقيق الأهداف، وهذا ما يفسّر سبب غياب التعاطف أو الشعور بالذنب حيال السلوكيات المؤذية لهم.
خذ على سبيل المثال شخصية “باتريك باتمان” في فيلم “أمريكان سايكو” لتفهم هذه الشخصية بشكلٍ أفضل. فلدينا هنا رجل أعمال ناجح، ذو شخصيةٍ جذابة كما يبدو، أنيق، عذب الكلام، قادر على جذب النساء عاطفيًا والآخرين بطريقة تتسم بالقدرة على الإقناع واستخدام أساليب الحديث المنطقية، جديرٌ بالثقة. لكنْ خلف هذا كلّه فثمة شخصية انتهازية تسعى بكل ما أوتيت من قوة الوصول لمصالحها وأهدافها من خلال سلّم التلاعب بكلّ من حولها دون أنْ تسائل نفسها أخلاقيّا أو عاطفيًا حيال ما تفعله.
قد تصوّر الأفلام والبرامج التلفزيونية عادةً ذلك النوع من الشخصيات بكونهما شخصيات شريرة لا تتوانى عن القتل والتعذيب والتنكيل، بطبيعة الحال ليسوا جميعهم هكذا. ففي حين ثمة من يتلذّذ بالقتل والتعذيب ويسعى إلى ذلك، هنالك الشخصية المعادية للمجتمع التي تتمحور حول السلوكيات الطائشة والتلاعب بالآخرين للحصول على ما تريد ليس إلا، حتى وإنْ اضطرت لإيذاء الآخرين فالهدف هنا هو الوصول للأهداف وتحقيق المراد لا القتل لأجل القتل أو التعذيب لأجل التعذيب.
تلعب الوراثة والجينات دورًا في تكوين الشخصية السايكوباثية، في حين تشكّل البيئة والمجتمع الدور الأكبر في الشخصية السوسيوباثية
إلى الآن، ما زالت الأسباب الحقيقية لتكوّن تلك الشخصية غير معروفةٍ بشكلٍ واضح، ففي حين يعتقد العديد من الباحثين في علم النفس أنّ الوراثة والجينات تلعب الدور الأكبر في تكوين الشخصية السايكوباتية، كما تلعب بيولوجيا الدماغ دورًا كبيرًا في ذلك، إذ أظهرت العديد من الأبحاث أنّ ثمة اختلاف في أجزاء دماغ السايكوباث التي عادةً ما يُعتقد أنها مسؤولة عن تنظيم العاطفة والتعاطف والتحكم بالسلوكيات والاندفاع.
ومن جهةٍ أخرى، يرى باحثون أنّ الشخصية السوسيوباثية هي نتاج المجتمع وتفاعل الفرد مع بيئته المحيطة به، كنمط التنشئة والتربية في الطفولة ومرحلة المراهقة، والتجارب الناتجة عن الأسرة أو المدرسة أو غيرها في مراحل مبكرة ومهمة للنموّ العقليّ والنفسيّ مما أدى إلى الإيذاء الجسدي، والإساءة العاطفية، أو صدمة الطفولة.
أما فيما يتعلّق بالطابع الإجراميّ عند كلا الشخصيتين، فيغلب على السايكوباث ميله لخوض تلك السلوكيات بعناية شديدة وتخطيط كبير يضمن سلامتهم وعدم الإمساك بهم مع وجود خطط للطوارئ بشكلٍ دائم. أما السوسيوباث فيميل من جهته إلى كونه أكثر اندفاعًا بشكلٍ غير منظم، وعلى النقيض من ذلك فيغلب عليه التهوّر وعدم مراعاة المخاطر أو العواقب المترتبة على السلوكيات والأفعال ما يزيد من احتمالية القبض عليه والإمساك به.
تذكّر أليكس ديلارج في فيلم ستانلي كوبريك “البرتقالة الميكانيكية”، ذلك الشاب العابث ترتكب جرائم عنف متطرف واغتصاب وسرقة لمجرد الاستمتاع بتهوّر شديد ودون أيّ تخطيط مسبق أو تفكير بالعواقب، لتفهم ذلك النوع من الشخصيات.