{مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} – (الأحزاب : 23)
خالد بلقاسم، عبدالكريم حسن، أبوبكر ثابتي، عزالدين سفيان، ابراهيم أباري، ومامدو أباري، قضوا نحبهم وغادروا هذه الدار الفانية في بقعة من الأرض مباركة وهم يؤدون واجبًا مباركًا. لقد قضى هؤلاء الرجال نحبهم وهم يعبدون ربهم كما آمرهم، في مسجد كيبيك الكبير عندما وقع الاعتداء الإرهابي على المسجد يوم 29 كانون الثاني (يناير) 2017. نسأل الله تعالى أن يتقبلهم جميعًا في عداد الشهداء وأن يسكنهم في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
أما الشهيد الحي أيمن دربالي فإنه من الذين ينتظرون كما تقول الآية الكريمة، أيمن هو هذا البطل الذي جعل من جسده درعًا بشريًا لحماية اخوته المصلين من القتل في ذلك اليوم الأليم والخالد في تاريخ مسلمي كندا. أيمن تلقى سبع رصاصات وهو الآن معاق مدى الحياة. ولكنه قدَّم لنا مثالا رائعًا للتضحية والإيثار والثبات والصمود.
لقد أقيم احتفال مساء يوم الأحد الثالث من شهر آذار – مارس في مدينة كيبيك لتكريم أيمن ولقد دُعيتُ لإلقاء كلمة في هذا الاحتفال. عندما تلقيتُ الدعوة لتكريم أيمن كان جوابي أنني لست أنا من يكرم أيمن، ولكن أيمن هو الذي يكرمنا ويشرفنا جميعًا لأنه بما قام به يوم الاعتداء على المسجد وما قام به طيلة حياته قبل الاعتداء وبعده قدم لنا مثالاً رائعًا من البطولة والإيثار والصمود.
أيمن دربالي مع عائلته
البطولة ليست ما تقوم به الجيوش الجرارة المدججة بالسلاح من أعمال حربية، ولكن البطولة هو أن يقف الانسان الأعزل أمام القوة الغاشمة دفاعًا عن نفسه وعن الآخرين. وهذا ما فعله أيمن في المسجد في آخر يوم استطاع فيه الوقوف على قدميه. لم يكن بيده رشاش يدافع به عن نفسه وعن إخوته المصلين ولكن كان في قلبه إيمان لا يتزعزع ولا تستطيع القوة الغاشمة أن تنال منه شيئا. عندما دخل القاتل إلى المسجد ليزرع رصاصه الآثم في صدور الأبرياء، كان بإمكان أيمن أن يفر أو أن يختبأ كما قد يفعل أي إنسان عادي في ظرف غير عادي كهذا الظرف، ولكن أيمن لم يفر ولم يختبأ لأنه كما أثبت لنا، أنه ليس إنسانًا عاديًا.
كان بإمكانه أن يفكر بحياته، وبحياة زوجته وأبنائه الثلاثة الذين لا معيل لهم إلا هو وأن يحاول النجاة بنفسه ولكنه لم يفعل. لقد اختار وفي أقل من لحظة أن يفكر بإخوانه المصلين كما يفكر بنفسه وبزوجته وأبنائه وقرر مواجهة القاتل وحماية الآخرين ممن كانوا معه في المسجد. لا أدري أن كان أيمن فكر في هذه اللحظات الحاسمة بقول الله تعالى: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) – [المائدة : 32]. ولكن بإمكاننا أن نتصور أن أيمن بتصرفه البطولي هذا قد ساهم بإحياء أكثر من نفس.
لقد كانت المعركة التي خاضها أيمن في المسجد في آخر يوم استطاع فيه السير على قدميه تتويجًا لرحلة طويلة من العمل في خدمة الآخرين. لقد قضى العديد من سنوات حياته في مساعدة الفقراء والمحرومين في بوليفيا، من ضمن فريق عمل المؤسسة الخيرية الكندية أوكسفام. وبسبب إقامته في بوليفيا تعلم الإسبانية إضافة لمعرفته السابقة بالعربية والفرنسية والانكليزية. ولقد أسس أيضًا جمعية خيرية لكفالة الأيتام وهذه الجمعية تكفل الآن ما يزيد على 200 عائلة يتيم في قطاع غزة.
لقد جاء حفل تكريم أيمن تعبيرًا عن روح التضامن مع المسلمين الذي يعيشه الكيبيكيون والكنديون منذ الاعتداء على المسجد، فلقد حضر الاحتفال ممثلون عن العديد من مكونات المجمتع الكيبيكي من مسلمين ومسيحيين ويهود واتباع ديانات أخرى. خلال الاحتفال قدم ممثل الكنيسة الإنجليكانية شيكا بمبلغ يزيد على ألف دولار جمع في الكنيسة لمساعدة أيمن.
بقدر ما ساعد الاعتداء على إبراز الوجه البشع لدعاة العنصرية والكراهية في المجتمع الكيبيكي ساعد على إبراز الوجه البراق لأبناء هذا المجتمع المضياف المسالم المتمسك بقيم التضامن والإخوة الانسانية. وكما أظهر لنا هذا الاعتداء قاتلاً أعمت بصيرته ثقافة الكراهية والعنف جعلنا نكتشف بطلاً يعيش بين ظهرانينا مجهولاً من قبل الأكثرية الساحقة من أبناء المجتمع وهذا البطل اسمه أيمن دربالي. ولكن هنالك أيضًا أمور أخرى أبرزتها هذه التجربة المريرة ولا بد من تسليط الضوء عليها وإن كانت من البديهيات، منها:
تشييع ضحايا مسجد كيبيك الكبير
١- ضحايا الاعتداء وفدوا إلى هذه البلاد من تونس والجزائر والمغرب وغينيا وغيرها من البلدان ولكن كلهم مسلمون. إن هذه البديهية التي يتجاهلها الكثيرون إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الإسلام ليس قومية ولا مجوعة إثنية أو قبلية أو وطنية ولكنه دين يجتمع تحت لوائه الأبيض والأسود والأحمر والأصفر تجمعهم جميعا رابطة الأُخوَٓة والإيمان، وكما قال الله تعالى في كتابه الكريم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) – [الحجرات:10].
٢- لقد كان أيمن كما كان إخوانه الذين حصدهم رصاص الغدر في المسجد، كانوا جميعًا مواطنين فاعلين في هذا المجتمع الذي استقبلهم. لقد كانوا كلهم جامعيين وموظفين وأصحاب مهن حرة يعملون على بناء هذا المجتمع ككل أبنائه الشرفاء. أن إدعاء بعض المغررين أو المغرر بهم من العنصريين، أن المسلمين يرفضون الانخراط في المجتمع إدعاء عار من الصحة وبعيد كل البعد عن الحقيقة. أنه لمن المستبعد أن توجد في كندا مستشفى وليس فيها أطباء وممرضات مسلمون، ومن المستبعد أيضًا أن توجد جامعة وليس فيها طلاب مسلمون وأساتذة مسلمون، وهذه المعادلة تنطبق على مجمل مرافق الحياة في هذا المجتمع. هذا أمر طبيعي لأن المسلمين جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع. إنهم مواطنون ككل الناس لهم ما لغيرهم من حقوق وعليهم ما على غيرهم من واجبات.
٣- كل الضحايا مسلمون تلقوا رصاص الغدر وهم يعبدون الله في بيت من بيوت الله. لم يسقط أيمن ولا إخوانه ضحايا حادثة سير أو جريمة قتل فردية. لم يطلق المعتدي النار على الناس في الشارع أو في السوق أو في حافلة وإنما دخل المسجد وأطلق النار على المصلين في المسجد لا لشيء إلا لأنهم مسلمون. لذا يجب أن يعرف الناس أن ثقافة الخوف من الاسلام وكراهية المسلمين موجودة في المجتمع وإن كان أصحاب هذه الثقافة لا يمثلون كل أبناء المجتمع.
٤- لا يجوز الاختباء وراء مرتكب هذه الجريمة وتصوير الأمر على إنه عمل فردي وعمل معزول. خطاب الكراهية كان موجودًا قبل الاعتداء ولا يزال موجودًا بعد الاعتداء أيضًا ولا يمكن لأي عاقل أن يضع كل المسؤولية على كاهل مطلق الرصاص يوم التاسع والعشرين من كانون الثاني – يناير ٢٠١٧ وكأنه المسؤول الوحيد عن جرائم الكراهية ضد المسلمين فمنذ هذا التاريخ ومطلق الرصاص قابع وراء قضبان السجن ولكن خطاب الكراهية لم يتوقف وجرائم الكراهية لم تتوقف.
٥- إن مطلق الرصاص بلا شك ينتمي إلى هذا المجتمع ولكن الذين وضعوا الزهور أمام المسجد تعبيرا عن تضامنهم مع المسلمين هم أيضا من أبناء هذا المجتمع. لذا فانه من البديهي رفض فكرة إدانة المجتمع كله بسبب ما قام به أحد أبنائه. كما أنه من غير المقبول أن يدان مجمل المسلمين بسبب ما يقوم به بعض المسلمين أو بعض من يدعون الإسلام من أعمال إرهابية فإنه من المرفوض إدانة المجتمع الكيبيكي أو الكندي بسبب ما يقوم بِه بعض أفراده.
هنالك من يحاول الترويج لفكرة أن الدعوة لمحاربة الإسلاموفوبيا اتهام للمجتمع الكيبيكي بانه مجتمع عنصري وأنه إسلاموفوبي وهذا غير صحيح. المجتمع الكيبيكي ليس عنصريا و ليس إسلاموفوبيا وليس محل إتهام ولكن العنصرية والإسلاموفوبيا موجودتان ويجب محاربتهما لحماية المجتمع ككل وليس فقط المسلمين من أبناء هذا المجتمع.
٦- سألني سائل من بدأ الإسلاموفوبيا وأين بدأت و كان جوابي سريعا و غير متوقع. لقد أجبت سائلي ان الإسلاموفوبيا بدأت في مكة المكرمة و الذي بدأها هم القريشيون أبناء قبيلة الرسول عليه الصلاة و السلام. منذ اللحظة الاولى التي صدع بها الرسول عليه الصلاة والسلام بما امر به بعد نزول الوحي بدأت حملة التخويف من الاسلام و اضطهاد المسلمين على أيدي أعيان قريش من أمثال ابي لهب عّم الرسول عليه الصلاة و السلام و ابي جهل خال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وعمر ابن الخطاب نفسه قبل أن يفتح الله قلبه للإيمان و يصبح من أقوى دعاة الاسلام و أشد المدافعين عن المسلمين.
إن ضحايا خطاب الكراهية والعنف ليسوا فقط أيمن وأبو بكر وخالد وعبدالكريم وعزالدين ومامدو و ابراهيما وعوائلهم ولكن ضحايا هذا الخطاب هم أبناء المجتمع كله وفي طليعتهم عائلة مطلق الرصاص نفسه
هذه اللفتة التاريخية تظهر لنا انه كما ان الاسلام دين عالمي فان الإسلاموفوبيا وباء عالمي ايضا و كما ان الرسول عليه الصلاة و السلام و المسلمين الأوائل حاربوا هذا الوباء و انتصروا عليه في مكة علينا نحن في هذه الايام ان نحاربه و ان ننتصر عليه في كل مكان. اننا ندعو للقضاء على الداء و علاج المصابين به و لا ندعو للقضاء على المصابين بهذا الداء. الرسول عليه الصلاة و السلام لم يقتل الإسلاموفوبيين الأوائل و انما عمل على تثقيفهم و استطاع ان يأخذ بايديهم و يخرجهم، إلا من أبى، من الظلمات الى النور. الانسان عدو ما يجهل و بالتالي فان الإسلاموفوبيا التي هي الخوف من الاسلام و التخويف منه اهم دعائمها هو الجهل بالاسلام، و أنجع الوسائل لاستإصالها هو التعريف بالإسلام و الانفتاح على الآخرين ليتعرفوا على حياة المسلمين. عندها سيجد الناس ان المسلمين مواطنون ككل الناس يريدون العيش بأمن و سلام ككل الناس ولا يشكلون خطرا على احد من الناس.
٧- إن الذين شاركوا في حفل تكريم أيمن دربالي مساء يوم الثالث من آذار – مارس ٢٠١٧ و الذين شاركوا في أنشطة احياء الذكرى السنوية الاولى للاعتداء على المصلين في المسجد، و على رأسهم السيد جوستان ترودو رئيس وزراء كندا و السيد فيليب كويار رئيس وزراء كيبيك و السيد ريجيس لابوم رئيس بلدية مدنية كيبيك و السيدة فالاري بلانت رئيسة بلدية مونتريال، يمثلون قيادة البلد و جميع اطياف المجتمع. لهذا فانه على جميع قيادات البلد و جميع أبناء المجتمع العمل يدا بيد لوضع حد لثقافة العنف و الكراهية.
إن ضحايا خطاب الكراهية والعنف ليسوا فقط أيمن وأبوبكر وخالد وعبدالكريم وعزالدين ومامدو وابراهيما وعوائلهم ولكن ضحايا هذا الخطاب هم أبناء المجتمع كله و في طليعتهم عائلة مطلق الرصاص نفسه. لقد دمر هذا القاتل حياته و حياة أهله كما دمر حياة ضحاياه من المسلمين. ان نار الكراهية و العنف اذا ما اشتعلت في المجتمع لن تفرق بين مسلم و غير مسلم و انما ستلتهم كل ما في طريقها و ستقضي على القاتل و ضحاياه في نفس الوقت. لهذا لا بد للجميع من التكاتف و التضامن للقضاء على الجهل و وضع حد لثقافة الكراهية و العنف و نشر ثقافة التعارف و السلام: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) – (الحجرات : 13).