يقول الرئيس الأسبق لمجموعة البنك الدولي، جيم يونغ كيم، إن الاستثمار في العنصر البشري أهم بكثير من ثروة الأمم أيًا كان حجمها، لافتًا إلى أن رأس المال البشري يشكل أغلبية الثروة في البلدان المرتفعة الدخل، ويتراجع نسبيًا كلما انخفضت ثروات البلدان، مشددًا على أن العالم لو استثمر بشكل صحيح في البشر لأصبح الجيل الحاليّ هو الأول في التاريخ الذي يُنهي الفقر.
وتمثل الصحة والتعليم الترمومتر الأكثر دقة لقياس مدى استثمار الدول في شعوبها، فبجانب تأثيرهما على المنظومة الاقتصادية كنتيجة منطقية مستقبلية لهذا الاستثمار، فإنهما يعكسان مدى وعي وإدراك الأنظمة والحكومات لقيمة هذا المورد، وأهميته في إخراج الدول من عنق الزجاجة ووضعها على الطريق الصحيح نحو الرخاء والريادة.
وبينما يحتفي الإعلام المصري هذه الأيام بالذكرى الـ11 لتظاهرات 30 يونيو/حزيران وانقلاب 2013 على أول رئيس مدني منتخب في تاريخ البلاد، سلط الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي وأذرعه الإعلامية ولجانه الإلكترونية الضوء على حجم الإنجازات التي تحققت في عهده على مدار السنوات الـ10 الماضية، بشأن صحة المصريين وتعليمهم، والطفرة التي شهدها المواطن المصري في هذين القطاعين.
وبعيدًا عن التصريحات الوردية التي يرددها الإعلام ولجانه بشكل ممنهج مع كل ذكرى سنوية لمثل تلك المناسبات والأحداث، التي في الغالب يحاول التغطية من خلالها على حجم الفشل الذي خيم على المجالات كافة، ويتلمسه المواطن ليلًا ونهارًا، تبقى لغة الأرقام والإحصائيات وشهادات المصريين الحية هي الفيصل في تقييم المشهد وقراءته بشكل موضوعي بعيدًا عن ثنائية التضخيم والتحقير.
الموازنة العامة للدولة.. الأرقام لا تكذب
– ينص دستور 2014 على إلزام الدولة بتخصيص ما لا يقل عن 6% من الناتج المحلي للإنفاق الحكومي على التعليم (4% للتعليم قبل الجامعي و2% للتعليم الجامعي) و3% للإنفاق على الصحة، وذلك بدءًا من السنة المالية 2017/2016.
– قبيل تولي السيسي السلطة كانت نسبة الإنفاق على الصحة 1.5% من الناتج المحلي في موازنة 2014/2013، وبعد 10 سنوات من الحكم، تراجعت إلى 1.17% في موازنة العام المالي المقبل 2024/2025، الأمر ذاته في التعليم، حيث تراجع معدل الإنفاق عليه كنسبة من الناتج المحلي من 3.9% في موازنة 2013/2014 إلى 1.72% في موازنة 2024/2025، ما يعني أن نسبة كل منهما لا تتجاوز 50% فقط من النسبة المستحقة دستوريًا.
– يقول الإعلام الحكومي إن موازنة التعليم والصحة وصلت في عهد السيسي إلى مستويات غير مسبوقة، حيث بلغت أكثر من 600% عما كانت عليه في 2013، قبل توليه المسؤولية، وهو ما تقوله الأرقام والتقديرات، فالصحة على سبيل المثال كانت ميزانتها في 2013/2014 قرابة 30.7 مليار جنيه، واليوم أصبحت 200 مليار جنيه.
– قد تكون تلك الأرقام صحيحة من حيث الكم لكنها مضللة من حيث القيمة، بمعنى أن الـ30.7 مليار جنيه ميزانية الصحة في 2013 كانت تساوي وقتها 4.3 مليار دولار (بسعر الدولار آنذاك 7.08 جنيه) لكنها اليوم (200 مليار جنيه) تساوي 4.2 مليار دولار (بسعر الدولار 47 جنيهًا) أو 6.2 مليار دولار بسعر وضع الموازنة في 2023 حين كان الدولار يساوي 31 جنيهًا في البنوك الرسمية، الوضع ذاته يمكن قياسه على التعليم، وفي ظل اعتماد القطاعين في مدخلات صناعتهما على الاستيراد من الخارج (الأدوية والمستلزمات والورق والتكنولوجيا.. إلخ) فإن القيمة الدولارية ربما تكون الأكثر دقة في التقييم والقراءة.
– في موازنة 2016/2017 حاولت الحكومة التحايل على الاستحقاق الدستوري الذي يفرض نسبة معينة للصحة والتعليم من الناتج المحلي من خلال ابتكار تعريف جديد للقطاعين يتضمن إضافة إنفاق الهيئات الاقتصادية والتعليمية وبعض الشركات على المجالين، واحتسابه ضمن الموازنة، هذا بخلاف إضافة نصيب قطاعي الصحة والتعليم من أعباء فوائد الديون، باعتبارهما استفادا من تلك الديون، وهو ما يؤدي في النهاية إلى زيادة الرقم المعلن في الموازنة وإن لم يكن يعبر عن الواقع الفعلي المنفق عليهما.
– وسواء كان سعر الدولار 31 جنيهًا في 2023 أم 47 جنيهًا بسعر اليوم، فإن نسبة الإنفاق على الصحة والتعليم كنسبة من الناتج المحلي أقل بكثير مما ينص عليه الدستور، وهي المخالفة التي تستوجب محاسبة العديد من الأجهزة التشريعية والتنفيذية التي تمرر تلك الميزانيات دون تدقيق أو دراسة.
– بعد 9 سنوات تقريبًا من التضليل والتلاعب بلغة الأرقام لإيهام الشارع بالتزام الدولة بمحصصات التعليم والصحة دستوريًا، خرج السيسي ليعلن صراحة ويعترف للمرة الأولى بأن الدولة لا تلتزم بهذا الاستحقاق، حيث قال على هامش فعاليات المؤتمر الوطني للشباب بالإسكندرية الذي عقد في 14 يونيو/حزيران 2023 :”معاك المبلغ ده؟ هتعمل استحقاق دستوري إزاي للتعليم؟ مش بتقولوا كدة؟ أنتم عاوزين أضحك عليكم؟ تقول لي استحقاق دستوري للصحة والتعليم؟ هل الدولة المصرية معاها هذه الأموال للـ100 مليون، تعلمهم؟…الأرقام المطلوبة مش موجودة يا جماعة، ولازم كلنا نبقى موجودين على أرض الواقع”.
تراجع الخدمات الصحية والتعليمية
– انخفض عدد المستشفيات العلاجية الحكومية من 6 آلاف مستشفى عام 2014 إلى 5650 منشأة عام 2021، بنسبة تراجع بلغت 5.9%، كما انخفض عدد الأسرّة في المشافي من 98 ألفًا و700 سرير في 2014 إلى 83 ألف سرير في 2021، ما تسبب في تراجع نسبة الأسرة لكل مواطن من 1.4 سرير لكل 1000 نسمة إلى 1.2 سرير لكل 1000 نسمة في الفترة ذاتها (المتوسط العالمي 3 أسرة لكل 1000 نسمة) بحسب الإحصائيات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (رسمي).
– تراجع عدد المستشفيات بالنسبة للسكان من مستشفى لكل 66.1 ألف مواطن في 2007، إلى مستشفى لكل 137 ألف مواطن في 2014، وصولًا إلى مستشفى لكل 153.9 ألف مواطن في 2019، بل إن هناك بعض المحافظات على مستوى الجمهورية تعاني من عجز شديد في عدد المستشفيات الحكومية بها قياسًا بعدد سكانها، فمثلًا محافظة المنيا التي يتجاوز عدد سكانها أكثر من 6 ملايين نسمة، بها مستشفى واحد لكل 172 ألف مواطن، كما أن هناك محافظات بأكملها لا يوجد بها أكثر من 5 مستشفيات مثل محافظة مطروح وتعدادها أكثر من نصف مليون مواطن.
– انخفض عدد الأطباء العاملين في الحكومة بنسبة 65% بسبب الرواتب الضعيفة والمنظومة التشريعية والقانونية الحمائية التي يتحفظ عليها الأطباء، فيما تشير تقديرات مستقلة إلى أن أكثر من 80% من أطباء مصر يعملون بالخارج، الأمر الذي يشكل ضغطًا كبيرًا على الطاقم الطبي الموجود بالفعل الذي لا يلبي احتياجات المرضى المتزايدة.
– وعلى مستوى التعليم، ارتفعت كثافة الطلاب في الفصل الواحد داخل المدارس الحكومية من 40.9 طالبًا في الفصل عام 2013 إلى 48.7 طالبًا في الفصل في 2023، كما تراجعت أعداد المدرسين من 942 ألف مدرس إلى 809 ألف مدرس في الفترة ذاتها بنسبة انخفاض 14.1%، هذا في الوقت الذي زاد فيه عدد الطلاب في المدارس الحكومية من 16.8 مليون طالب في 2014 إلى 22.6 مليون طالب في العام الحاليّ، بزيادة نسبتها 34%، كما ارتفع عجز المعلمين ليصل إلى 350 ألف معلم.
– ورغم بناء الدولة للآلاف من المدارس والمستشفيات على مدار السنوات الـ10 الماضية فضلًا عن زيادة مخصصات التعليم والصحة في الموازنة، كمًا وليس قيمة، فإن تلك الزيادات لم تتناسب وحجم الزيادة السكانية، حيث ارتفع عدد المصريين من 93.3 مليون مواطن في إحصاء 2013 إلى نحو 106.2 مليون في أبريل/نيسان 2024 بزيادة قدرها 13 مليون مواطن.
– المثير للجدل هنا وبحسب تعاطي الشارع المصري ونخبته مع تلك الأرقام، أن الدولة تولي اهتمامًا كبيرًا ببعض القطاعات الأخرى على حساب الصحة والتعليم، كالأمن والمشروعات القومية الجديدة، فضلًا عن خدمة الدين المتصاعدة التي تستحوذ على نصيب الأسد في الموازنة العامة للدولة، ما يجعل مقومات بناء الإنسان القوي والمتعلم ليست على ذات الدرجة من الأهمية التي تتمتع بها مجالات أخرى ربما تكون أقل أهمية قياسًا بالاستثمار في العنصر البشري.
القطاع الخاص يسحب البساط
في الوقت الذي تراجعت فيه المستشفيات الحكومية زادت أعداد المستشفيات الخاصة من 941 مشفى في 2014 إلى 1131 في 2019، فيما زاد عدد أسرة مستشفيات القطاع الخاص من 24 ألفًا و600 سرير في 2014 إلى 34 ألفًا و500 سرير في 2021 بزيادة قدرها 40% تقريبًا، ومع ذلك لم تعوض تلك الزيادة التراجع الواضح في المشافي الحكومية، حيث تشير الأرقام إلى انخفاض أسرة المستشفيات الحكومية والخاصة معًا من 123 ألفًا و353 سرير عام 2014 إلى 117 ألفًا و504 سرير عام 2021 بتراجع بلغ 4.7%.
وصادق الرئيس السيسي الأسبوع الماضي على قانون يتيح للمستثمرين المصريين أو الأجانب من القطاع الخاص إنشاء وتشغيل وإدارة وتطوير المنشآت الصحية الحكومية في مصر، وهو ما يُعرف إعلاميًا بـ”قانون تأجير المستشفيات الحكومية”، وهو القانون الذي رفضته شرائح مجتمعية وطبية كبيرة لما يترتب عليه من خصخصة للقطاع الصحي بهدف تحقيق الربح على حساب الخدمة المجانية المقدمة لمحدودي ومتوسطي الدخل من المصريين، الأمر الذي يزيد من المعاناة ويعمق المأساة الصحية في البلاد.
وعلى الجانب الآخر ازدادت أعداد المدارس الخاصة في مصر خلال السنوات الماضية بشكل كبير، في الوقت الذي يتراجع فيه مستوى التعليم في المدارس الحكومية، حتى على مستوى التعليم الجامعي فتتفاخر السلطة ببناء عشرات الجامعات والمعاهد خلال العشرية الأخيرة، كانت المنشآت الخاصة والأهلية صاحبة اليد الطولى بها.
زادت الجامعات المصرية من 49 جامعة في 2014 إلى 109 جامعة في 2024 لكن أغلبها جامعات خاصة، مقسمة كالتالي: ارتفاع الجامعات الحكومية من 23 جامعة في 2014 إلى 28 جامعة في 2023، في المقابل زادت الجامعات الخاصة من 23 جامعة قبل 10 سنوات إلى 32 جامعة اليوم، بجانب 20 جامعة أهلية، و10 جامعات تكنولوجية، و9 أفرع لجامعات أجنبية، و6 جامعات باتفاقيات دولية، وجامعتين باتفاقيات إطارية، وجامعة بقوانين خاصة، وأكاديمية تُشرف عليها الوزارة.
ويستشهد البعض على تقليل الرئيس المصري من أهمية وقيمة التعليم بالتصريحات المثير للجدل الذي قاله في 1 أكتوبر/تشرين الأول 2018 حين قال نصًا: “يعمل إيه التعليم في وطن ضايع أو هيضيع”، محاولًا التأكيد على أن الحفاظ على الأوطان ليس مرتبطًا بالتعليم ولا مستواه.
المواطن يدفع الثمن
تسببت معدلات التضخم العالية عالميًا والأعلى محليًا، بجانب تهاوي قيمة العملة المحلية (الجنيه) أمام العملات الأجنبية، وتبعات سياسة الاستدانة والاقتراض المفرط، في إحداث طفرة هائلة في أسعار الخدمات التعليمية والصحية المقدمة للمصريين الذين يعاني أغلبهم من أوضاع معيشية صعبة، في ظل تواضع الأجور وعدم ملائمتها لمستويات التضخم العالية.
ويستنزف التعليم والصحة قرابة 25% من حجم إنفاق الأسر المصرية (10.4% للصحة و 12.5% للتعليم) وفق أرقام الدخل والإنفاق الرسمية في 2020، ويرجح زيادة تلك المعدلات مع ارتفاع نسب التضخم خلال الأعوام الـ4 الأخيرة التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة.
وأمام خصخصة التعليم في ظل المستوى المتدني للمنظومة حكوميًا، كذلك الخدمات الصحية بعدما خرجت الكثير من المشافي الحكومية عن الخدمة عمليًا بسبب ارتفاع أسعار السلع والمستلزمات الطبية والعلاجية، بات التعليم والصحة من الرفاهيات التي لا يُمنحها إلا القادرون، أما غالبية الشعب فليس أمامهم سوى الصمود والتزام عتبات المؤسسات الحكومية حتى لو كان الثمن مزيد من الجهل والمرض.
هكذا وبعد 10 سنوات من ولاية السيسي يواصل المصريون انزلاقهم من السيئ للأسوأ، لا صحة ولا تعليم ولا رواتب مناسبة ولا أمل في الإصلاح، رغم الجهود المبذولة لكنها لا تتناسب وحجم التحديات والطموحات، لتزداد معاناة الشعب الذي توهم في 2013 أن خروجه على النظام الأسبق سيحمل له طوق النجاة فيما هو قادم.. فهل نجا المصريون مما هربوا منه قبل 10 سنوات؟.