تمر العلاقات التركية اليونانية بحالةٍ من التوتر الشديد، نتيجة تراكم نقاط الخلاف بين الطرفين التي تنوعت بين النزاع على النفط، ونوعية الهيمنة في جزيرة قبرص، وحدود مناطق السيادة في إيجه، وأخيرًا رفض اليونان تسليم 8 جنود أتراك تتهمهم تركيا بالمشاركة في انقلاب 15 من يوليو/تموز 2016، مقابل إلقاء تركيا القبض على جنديين يونانيين بتهمة الدخول إلى مناطق عسكرية تركية ممنوع الاقتراب منها؛ مما جعل الحكومة التركية تحولها إلى التحقيق بتهمة التجسس.
أزمات عدة يمر بها الطرفان، ليصبح التساؤل الأكثر إلحاحًا للطرح هو: ما مآل هذه الأزمات؟
قبل كل شيء، تجدر الإشارة إلى أن الأزمات بين الدولتين يعود تاريخها إلى بدايات القرن الماضي، حيث حاولت اليونان احتلال قسم كبير من أراضي الجمهورية التركية، في حربٍ استمرت بينها منذ عام 1919 وحتى عام 1921، وانتهت بانتصار تركيا.
ولم تكد نار التنافس بين الجارتين تخبو، حتى عادت للاشتعال، بعد اتجاه جزيرة قبرص التي تحوي مواطنين يونانيين وأتراك، في الخمسينيات، صوب إعداد دستور وشكل نظام الحكم تحضيرًا للاستقلال، واستمرت الأزمات على حدود حق السيادة في بحر إيجه ومناطق الاقتصاد الخالصة فيه، وأخيرًا، وليس بآخر، أزمة التنقيب عن الغاز الطبيعي في حوض شرق البحر المتوسط.
في الحقيقة، الهدف من زيارة أكار كان توجيه رسائل مهمة أرادت تركيا إيصالها لجارتها ومن دار في فلكها من الدول الأخرى
وبخصوص الأزمة الفاعلة حاليًّا بين الطرفين، فقد أشعل وقودها الجولة الاستطلاعية التي أجراها رئيس الأركان التركي خلوصي أكار، نهاية يناير/كانون الثاني 2017، حيث شملت هذه الجولة الاقتراب من جزيرة “كارداك” أو “إيميا” المتنازع عليها، وهو ما أعقبه نوع من التصعيد السياسي والإعلامي والعسكري بين البلدين، في الحقيقة، الهدف من زيارة أكار كان توجيه رسائل مهمة أرادت تركيا إيصالها لجارتها ومن دار في فلكها من الدول الأخرى. وكان فحوى الرسائل كان على النحو التالي:
ـ التعبير، على الأرجح، عن رفض تركيا محاولة اليونان فرض مسار الحل فيما يتعلق بقضية قبرص التي انتهت مفاوضتها يناير/كانون الثاني 2017، بالفشل، حيث أرادت اليونان حينها الاستئثار بالهيمنة، وطالبت بانسحاب القوات التركية من الجزيرة، بالإضافة إلى توجيه رسالة للتكتل الإسرائيلي المصري اليوناني فحواها: “تركيا دولة ذات قوة ملموسة، والمناورات العسكرية والتحالفات السياسية التي تقومون بها على الجانب اليوناني لجزيرة قبرص، ستواجه بالمزيد من العزم على حماية مصالحنا ومصالح القسم التركي من جزيرة قبرص التركية”، وقد سبق جولة أكار اقتراب لسفينة يونانية عسكرية من “كارداك” قبل بضعة أيام، بعد فشل مفاوضات قبرص أيضًا.
إذًا، يقوم الطرفان، في الغالب، بإرسال رسائل سياسية أو أمنية خاصة بالسياسات أو المصالح العليا عبر إجراء مناورات عسكرية تمس مناطق متنازعة عليها، أملًا في تذكير بعضهما بعضًا بحجم قوتهما، واستعدادهما للتحديات السياسية والأمنية، للإشارة إلى أن هناك “ندية” تحتاج توافقًا وليس تصعيدًا.
ليس الميدان العسكري السبيل الواحد الذي يحاول الطرفان إظهار التحدي والقوة ضد بعضهما، بل الميدان السياسي أيضًا يلعب دورًا كبيرًا، وقد عُكس ذلك بوضوح في إطار زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لأثينا
وما يزيد من هذا الاحتمال اقتراب قارب يوناني عسكري من جزيرة “كارداك” المتنازع عليها بين الطرفين في 17 من يناير/كانون الثاني المنصرم، واصطدامه بقارب تركي، تبع ذلك، إقدام وزير الدفاع اليوناني بانوس كامانوس، في 25 من يناير/كانون الثاني، بوضع إكليل من الورود على جزيرة “كارداك”، في ذكرى اشتعال الأزمة الكبرى بين البلدين عام 1996 التي قُتل على إثرها 3 جنود يونانيين.
كما دخل مركبان يونانيان المياه الإقليمية التركية بالتزامن مع زيارة كامانوس، وقد ردت القوات الأمنية التركية على اقتراب الطائرة المُقلة لكامانوس، عبر التأثير عليها بواسطة طائرات إف 16، مطالبةً لها بالانسحاب الفوري.
وفي 29 من يناير/كانون الثاني، اتجه رئيس الأركان التركي خلوص أكار، صوب زيار “كارداك”، إلا أن مركب يوناني اقترب من المركب التركي الذي يقل أكار، ومنعه من تحقيق زيارته، وتعليقًا على الحادثة، صرحت الحكومة اليونانية بأن “تركيا تظن اليونان سوريا أو العراق، لكننا سنُثبت لهم بأننا دولة مستقلة قوية”.
ليس الميدان العسكري السبيل الواحد الذي يحاول الطرفان إظهار التحدي والقوة ضد بعضهما، بل الميدان السياسي أيضًا يلعب دورًا كبيرًا، وقد عُكس ذلك بوضوح في إطار زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لأثينا، مطلع ديسمبر/كانون الأول 2017، حيث أدلى بتصريحات أغضبت مضيفيه، حينما اقترح مراجعة معاهدة “لوزان” المُوقعة عام 1923 التي رسمت الحددود التركية مع اليونان، وهو ما رفضته اليونان بالإشارة إلى أن المعاهدة “غير قابلة للتفاوض بأي حالٍ من الأحوال”.
ويوم الجمعة 2 من مارس/ آذار 2018، ألقت القوات التركية القبض على جنديين يونانيين، داخل الأراضي التركية، مما خلق تساؤلًا جديدًا عن إمكانية إجراء صفقة تبادل بين تركيا واليونان، بحيث تقوم الأخيرة بتسليم الـ8 جنود الأتراك المنقلبين مقابل هذين الجنديين.
تأتي أزمة الجنود اليونانيين، ورفض تسليم ضباط انقلابيين والاقتراب من جزر متنازع عليها، وغيرها، في إطار السياسات الدنيا التي لا تحرك صراعًا يهدد الأمن القومي
قبل البدء في الاطلاع على آراء الساسة في الأمر، منطقيًا يبدو أنه من الصعب أن تُقدم تركيا على عقد صفقة بهذا الشكل، إذ إن عرضها ذلك لا يمس هيبتها فقط، بل هيبة الطرف اليوناني أيضًا، حيث يصعب على البلدين أن يقبلان بعقد صفقة تتضمن تبادل جنود نظاميين مقابل ضباط متهمين بانقلاب وخيانة.
وقد جاء تأكيد هذا الاعتقاد على لسان الناطق باسم الحكومة التركية بكر بوزداغ الذي نفى وجود أي نية لدى الحكومة التركية، لإجراء صفقة تبادل جنود مع اليونان، موضحًا أن الحكومة اليونانية لم تتقدم بطلب بخصوص ذلك، والحكومة التركية لا تُفكر إطلاقًا في ذلك.
وفيما ذكر بوزداغ أن الجنديين يحقق معهم الآن، أشار إلى أن تركيا لا تقبل القيام بصفقة تُقلل من حقوق تركيا في “استعادة الانقلابيين الفارين”، مؤكّدًا أن القرار قانوني وليس سياسي.
في الختام، تأتي أزمة الجنود اليونانيين، ورفض تسليم ضباط انقلابيين والاقتراب من جزر متنازع عليها، وغيرها، في إطار السياسات الدنيا التي لا تحرك صراعًا يهدد الأمن القومي، غير أن قضيتي حل أزمة قبرص والتنقيب عن الغاز في محيط جزيرة قبرص الذي تقف فيه مصر واليونان و”إسرائيل” وقبرص اليونانية، ضد تركيا التي أعلنت عام 2014، قواعد اشتباك تقضي باستهداف أي جسم عسكري أو تقني يقترب من محيط جزيرة القبرص من دون التوافق معها، وقد طبقت تركيا هذه القواعد مؤخرًا، في 11 من فبراير/شباط تحديدًا، باعتراض معدات شركة “إيني” الإيطالية التي حاولت إجراء عمليات اكتشاف وتنقيب في محيط جزيرة قبرص، بعد الاتفاق مع قبرص اليونانية.