بخُطى واثقة، تسير أورسولا فون ديرلاين، أول امرأة في التاريخ الألماني تشغل منصب وزير الدفاع، في معرض برلين الدولي للطيران والفضاء المقام في إحدى ساحات مطار “برلين – شونفيلد”، كأنها صاحبة متجر، توزع الابتسامات على الزبائن، فيبادلونها نظرات الإعجاب، وكأن البضاعة نالت إعجابهم.
تشير السياسية الألمانية التي تشغل منصب وزيرة الدفاع منذ عام 2013، مرارًا وتكرارًا بيدها إلى أرجاء المعرض، مرةً إلى جناج شركةDiehl Defense الألمانية المصنعة لصواريخ (IRIS-T)، ومرةً إلى مدافع شركة راينميتال (Rheinmetall)، وأخرى إلى غواصات ثيسنكروب ThyssenKrupp Marine) (Systems، ومرات غيرها إلى تقنيات التسلح فائقة التطور في مجال الدبابات والأسلحة الثقيلة التي ملأت قاعة المعرض الكبيرة.
أورسولا تفعل ذلك غير مبالية بأصوات علت حين امتدت صفقات تصدير الكثير من الأسلحة إلى الدول التي تشهد نزاعات، وزجت ألمانيا بنفسها في سباق تسليح دول منطقة الشرق الأوسط، وساهمت عبر أسلحتها في تأجيج الصراعات في المنطقة.
الوجه الآخر لانتهازية الإرهاب
تتصدر شركات الدفاع في جميع أنحاء العالم واجهة المتربحين من صفقات السلاح تحت مظلة مكافحة الإرهاب، وقد حققت عائدات بلغت 370 مليار دولار عام 2015، وكانت الشركات الأمريكية قد اتخذت زمام المبادرة لتتربع على عرش “قراصنة الإرهاب”.
في ألمانيا أيضًا، صدرت شركات الدفاع أسلحة بقيمة 5 مليارات يورو إلى الخارج، فهي واحدة من ست دول (الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية) تصدر مجتمعة 78% من الأسلحة على النطاق العالمي، بحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية.
وبشكل عام، تجني شركات صناعة معدات التسلح الألمانية معظم أرباحها من خلال التوريد لدول خارج الناتو والاتحاد الأوروبي، وبحسب تقرير صادر عن وزارة الاقتصاد الألمانية، زادت صادرات الأسلحة الألمانية إلى 1.27 مليار يورو في الربع الثالث عام 2017، بينها 871 مليون يورو سيتم توريدها إلى بلدان خارج الاتحاد الأوروبي، وهي ليست دولاً أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ومع تصاعد الأزمات والحروب، أثار تصدير السلاح للأنظمة العربية الديكتاتورية كثيرًا من الجدل في ألمانيا، ومثَّلت الأنظمة العربية “أرباب الإرهاب”، وهم شركاء للحكومات الغربية في العديد من الأماكن، وبفضل الدعم هذا، يمكنهم مواصلة قمعهم لمواطنيهم تحت شعار مكافحة الإرهاب ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
لكن مكافحة الإرهاب يعود بمنافع اقتصادية وسياسية ملموسة لبعض الجهات، ألمانيا تستفيد أيضًا، حتى باتت محاصَرة بالغضب من حولها، أكثر من أي وقت مضى.
احتجاجات أمريكية على شحنات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية
واردات الخليج مصدر للاقتصاد الألماني
في وقت يسير فيه العالم المتقدم نحو تخفيض الإنفاق العسكري والاستفادة من ذلك في استثمارات أخرى خاصة بالصحة والتعليم، تلجأ بعض الدول العربية إلى رفع سقف الإنفاق العسكري نظرًا لانجرافها نحو النزاعات.
وتُقَّدر دول الخليج الغنية بالنفط بعامل مؤثر من عوامل تألق الماكينات الألمانية، حتى بات تبادل المصالح بين الطرفين أمرًا حتميًا، وفي حين تُدر واردات الخليج دخلاً وفيرًا على الاقتصاد الألماني، تُغرِق شركات السلاح الألمانية الشرق الأوسط بموجات التسليح التي بلغت قيمتها عشرات المليارت.
وبحسب التقرير الصادر عن وزارة الاقتصاد الألمانية، منحت السلطات في برلين تصاريح جديدة لصفقات تصدير الأسلحة مستغلةً سباق التسليح في الشرق الأوسط، ما أثار التساؤلات عن الآليات المعتمدة في تلك الصفقات والهدف منها، والتوقيت الدقيق لتواصل تسليم الأسلحة إلى بعض الدول ومنها السعودية ومصر.
التقرير تضمّن أرقامًا واضحة عن قيمة الصفقات التي زادت أكثر من 3 أضعاف عن عام 2016، وبلغت قيمة صادرات السلاح الألمانية لدول التحالف العربي في اليمن 1.3 مليار يورو (1.58 مليار دولار) في 2017، بزيادة 9% عن 2016، كان للسعودية النصيب الأكبر بـ254 مليون يورو (309.8 ملايين دولار)، والإمارات 214 مليون يورو (261 مليون دولار).
في الكثير من البلدان حول العالم، تستخدم قوات الأمن الأسلحة النارية ضد المتظاهرين السلميين العُزَّل، أو في ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، وهي أيضًا أداة قمع في يد الدولة
وأشارت صحيفة “تاغس شبيغل” الألمانية، إلى أن الجواب في التقرير تضمّن الموافقة على أصول الدفاع السعودية بقيمة 148 مليون يورو في الربع الثالث من العام الماضي، علمًا بأنه وفي الفترة نفسها من العام الذي سبقه كانت نحو 41 مليون يورو.
ودفعت التقارير الحقوقية عن غارات التحالف العربي التي خلفت العديد من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين اليمنيين، ودفعت كثيرين للنزوح من قراهم ومدنهم، إلى إعلان الحكومة الألمانية قرارها وقف صادرات الأسلحة إلى الدول المشاركة في حرب اليمن، ومنها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لكن الصحفي الألماني ماركوس بيكل رئيس مجلة العفو، يصف الالتزام بأنه جزئي، لما تمثله أموال هذه الدول في الاقتصاد الألماني.
بيكل كان شاهدًا على استقبال المستشارة ميركل أو وزير الخارجية آنذاك فرانك فالتر شتاينماير السياسيين الإماراتيين في برلين، على الرغم من الدراية الألمانية الكاملة بتورط الإمارات في حرب اليمن التي أودت بحياة الآلاف خلال العامين الماضيين، كذلك نرى وفودًا اقتصادية إلى جانب الوزراء والمسؤولين ترغب في متابعة المشاريع المدنية هناك، ولكنها تتابع أيضًا المشاريع العسكرية.
وعلى الرغم من أن دول الخليج تريد أن تنأى بنفسها إلى حد كبير عن واردات الأسلحة بحلول عام 2030، لكنهم لا يستطيعون الاستغناء عن نقل التكنولوجيا؛ لذلك فإن المشاركة الاقتصادية المدنية والعسكرية تسيران جنبًا إلى جنب، بل قد تسير الأخيرة منفردة بعيدة عن الأولى.
على سبيل المثال، تشتري دول الخليج دبابة “ليوبارد 2” الألمانية، ليس لأنهم يريدون فعلاً أن يشنوا حروبًا صحراوية، لكن لأنها تتناسب بشكل جيد مع نطاقهم العسكري، ونظرًا لأن ألمانيا لا تريد أن تقف على جانب من المنافسة مع الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو فرنسا.
مصر.. بنادق ألمانية لقمع المتظاهرين
في الكثير من البلدان حول العالم، تستخدم قوات الأمن الأسلحة النارية ضد المتظاهرين السلميين العُزَّل، أو في ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، وهي أيضًا أداة قمع في يد الدولة.
وخلال السنوات الأربعة الماضية، شَكَل نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إلى جانب أشقائه في السعودية والإمارات، محور الثورة المضادة في الشرق الأوسط الذي يسعى لعودة الأوضاع إلى نصابها قبل الربيع العربي من اليمن وحتى ليبيا.
وقبل أن يعتلي السيسي كرسي الرئاسة، كانت ألمانيا من أكبر المساهمين في نجاحه في الانتخابات الرئاسية، نتيجة دعمها للقمع الذي قضى به على جميع معارضيه، وبعد توليه الرئاسة، أصبح لألمانيا باع طويل في تمويل النظام المصري.
دخل نظام السيسي إلى قائمة أكبر خمسة مستوردين للأسلحة الألمانية، حيث بلغ حجم صادرات السلاح الألماني إلى مصر 428 مليون يورو عام 2017، بزيادة 7% عن السنة التي سبقتها، لتكون هذه الصفقة الأضخم من نوعها بين البلدين في التاريخ.
وعلى الرغم من فرض الاتحاد الأوروبي حظر تصدير السلاح إلى مصر بعد مقتل مئات المعارضين في أغسطس/آب 2013، صدَّرت ألمانيا إلى مصر خلال السنوات الماضية دبابات اُستخدمت بشكل أساسي في مظاهرات لصد المتظاهرين.
قال الكتاب الألماني ماركوس بيكل: “المبرر الألماني المعلن خلف تصدير الأسلحة لمصر، هو محاربة تنظيم “داعش” حتى لا تغرق البلاد في فوضى غير محمودة العواقب”
وبحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية، فإن ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا زودت السلطات المصرية بمعدات وبرامج عالية التقنية من أجهزة التجسس والتنصت، وهو ما اعتبرته المنظمة مخالفًا لقواعد الحرية الشخصية، بالإضافة إلى أنها ما زالت واحدة من 12 دولة من الاتحاد الأوروبي تصدر الأسلحة إلى مصر.
وفي مقال رأي للكاتب ماركوس بيكل نشرته صحيفة “تاغس تسايتونغ” الألمانية، سلط فيه الضوء على صادرات ألمانيا من الأسلحة الموجهة إلى مصر، أكد بيكل أن ألمانيا لم تعد تهتم بحقوق الإنسان التي يجري انتهاكها بصفة يومية من نظام السيسي، معتبرًا أن المكاسب المادية التي تجنيها ألمانيا من صناعة السلاح أصبحت أهم من حقوق الإنسان عند المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ونائبها زيغمار غابرييل.
وبيّن الكاتب أن المبرر الألماني المعلن خلف تصدير الأسلحة لمصر، هو محاربة تنظيم “داعش” حتى لا تغرق البلاد في فوضى غير محمودة العواقب، وبدلاً من أن يدعم غابرييل منظمات المجتمع المدني في مصر، صرح في لقائه الأخير في القاهرة بأن “السيسي رئيس مثير للإعجاب”.
عناصر من الجيش الألماني يقومون بتدريب قوات البيشمركة الكردية
دعم الارهاب ومكافحته.. الجمع بين المتناقضات
انطلاقًا من عقيدة متأصلة في دستورها، تعارض ألمانيا الحروب معارضة تقليدية، في نفس الوقت، يواصل مجلس الأمن الاتحادي الألماني الذي يعقد جلساته سرًا إصدار تراخيص لتصدير الاسلحة، لتحتل مؤخرًا المرتبة الثالثة بين الدول المصدرة للأسلحة في العالم.
تصدر ألمانيا الأسلحة إلى الشرق الأوسط وتحاول في نفس الوقت التوسط في النزاعات هناك، فمثلًا، سمح مجلس الأمن الاتحادي مرة أخرى، بتسليم الأسلحة إلى الإمارات التي تؤِّرق مضاجع اليمنيين، وفي الوقت نفسه، استضاف وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل ممثلين عن أطراف النزاع اليمني في برلين لمناقشة السبل السياسية للخروج من الصراع معهم.
هذا التناقض لا يمكن حله إلا بتعليق صادرات الأسلحة إلى البلدان المعنية، وبناءً على ذلك، طالب البرلمان الأوروبي بوقف صادرات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية، لكن ألمانيا ترى أن النجاح في الحرب على الإرهاب لا يتم إلا بالعمل مع شريكتها (السعودية)، وهو ما أكده وزير الخارجية السابق فرانك فالتر شتاينماير، بقوله: “نحن نتحمل مسؤولية مشتركة في إطار التحالف الدولي ضد تنظيم (داعش)”.
وفي حين تشارك القوات الألمانية في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بطائرات استطلاع من طراز “تورنادو”، وطائرة تزود بالوقود انطلاقًا من قاعدة “الأزرق” الجوية في الأردن، تواجه ألمانيا تهمًا بدعم الإرهاب “بلا رحمة”.
كان لافتًا موقف ألمانيا المتناقض تجاه “إسرائيل”، ففي حين ترفض ألمانيا قرار إدارة ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، تتخذ مسألة توريد السلاح أبعادًا مختلفة، فقد وردت ألمانيا إلى “إسرائيل” معدات تسلح بقيمة 600 مليون يورو
وسبق أن وضعت الحكومة التركية قائمة لمن تتهمهم بـ”داعمي الإرهاب”، تضم نحو 700 شركات ألمانية عملاقة، حسب المجلة الأسبوعية “دي تسايت”، لكن الحكومة الألمانية أعلنت فيما بعد أن تركيا سحبت القائمة المثيرة للجدل، مؤكدة أنها تلقت تأكيدات من أنقرة بأن تسليم القائمة عن طريق الشرطة الدولية كان نتيجة “مشكلة في التواصل“.
وفي العراق، رواية أخرى تكشف انتهازية الإرهاب، وتدور بشأن تدريب ألمانيا لقوات البيشمركة، ومشاركتها في الضربات الجوية التي يقودها التحالف الدولي، ودعم الأكراد بالأسلحة في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، لكن بعد تقلص التنظيم، تريد ألمانيا تغيير تفويض جيشها في المنطقة وتوسيع مهامها لتشمل كل العراق، وذلك من خلال وساطة مرتقبة بين بغداد وأربيل.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كان لافتًا موقف ألمانيا المتناقض تجاه “إسرائيل”، ففي حين ترفض ألمانيا قرار إدارة ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل“، تتخذ مسألة توريد السلاح أبعادًا مختلفة، فقد وردت ألمانيا إلى “إسرائيل” معدات تسلح بقيمة 600 مليون يورو تقريبًا، رغم حرب غزة الأخيرة، وسبق أن صدَّرت ألمانيا ثلاث غواصات مع وجود خطط لتسليم الغواصة الرابعة “تانين”.
هكذا، حول شعار “صنع في ألمانيا” نزاعات الشرق الأوسط إلى أموال طائلة في جيوب مصنعي وسماسرة السلاح وخزائن الحكومات الدول الكبرى.