ألقت الحداثة الغربية بظلالها على جميع المجتمعات، بغض النظر عن أوطانها وعقائدها وثقافتها، ومنها الأمة العربية والإسلامية التي انبهر بعض مفكريها بما يقدمه المشروع الحداثي الغربي، فأقبلوا عليه ليكون له مشروع مقابل في العالم العربي ولهذا انتقل مفهوم الحداثة إلى الساحة الفكرية العربية الحديثة على يد هؤلاء المفكرين الذين عملوا على توطينه في نسيج الثقافة والفكر العربي باسم التحديث والتجديد.
كانت الحداثة من المفاهيم الأكثر تداولًا في الدراسات الفكرية والأدبية والنقدية العربية والإسلامية، حيث استُخدمت على نطاق واسع، واعتبرت العديد من الأوساط والمؤسسات الثقافية نفسها المنبر لهذا الاتجاه الجديد في العالم العربي، بدعوى محاولة التقريب بين النموذج الحداثي الغربي والتراث الفكري العربي الإسلامي.
وعلى الرغم من انتقاد هذه المحاولة من التقريب والتجديد في الثقافة العربية من هؤلاء المفكرين الذين حاولوا إدخال الحداثة للوطن العربي، حيث وصفها الناقدون أنها محاولة عمياء لتقليد الغرب فحسب، إلا أنه تعددت الأبواب والمداخل لمحاولات التقريب من قبلهم، فكان منها ما هو أدبي وفني، وكان منها ما هو فكري وفلسفي وسياسي، في محاولة واضحة للتجديد مع الالتزام بجذور الثقافة العربية ذاتها وعدم المساس بالأصول.
حاول المحدثون في العالم العربي التوفيق بين متطلبات الحداثة وشروط وجودها في المجال العربي والإسلامي، وعلى الرغم من أن المهمة لم تكن سهلة لأن النظرة السائدة لمفهوم الحداثة تُعرقل وجوده في الفكر العربي، فإنهم عزموا قرارهم على محاولة تحريك العقل العربي والتعمق في البحث عن بدائل، ليحاولوا إيجاد بدائل لا تتنافر مع الماضي وإنما تمده مدًا عقلانيًا ونقديًا في المقام الأول.
مسرح توفيق الحكيم الذي أعاد الحياة لأهل الكهف
كان من بين هؤلاء “توفيق الحكيم”، كاتب وأديب مصري مزج بين الواقعية والرمزية في كتاباته التي تتميز بالخيال والعمق دون تعقيد أو غموض، واتخذ من ذلك اتجاهًا تعتمد عليه مسرحياته الأدبية التي تعتبر نقطة تحول جذرية في تاريخ المسرح العربي.
كانت مسرحيته “أهل الكهف” التي صُدرت عام 1933 بمثابة حدثًا مهمًا في تاريخ الدراما العربية، فقد كانت بداية لنشوء تيار مسرحي جديد عُرف بـ”المسرح الذهني”، حيث كانت مسرحياته من النوع الذي كُتب ليُقرأ، فيكتشف القارئ من خلاله عالمًا من الدلائل والرموز التي يمكن إسقاطها على الواقع في سهولة لتسهم في تقديم رؤية نقدية للحياة والمجتمع تتسم بقدر كبير من العمق والوعي، ولذلك سُمي التيار المسرحي الخاص بتوفيق الحكيم بالتيار الذهني لصعوبة تمثيله وتجسيده في عمل مسرحي بكامل صوره الرمزية العميقة، حيث وصف توفيق الحكيم أعماله ذات مرة قائلًا:
“إني اليوم أقيم مسرحي داخل الذهن وأجعل الممثلين أفكارًا تتحرك في المطلق من المعاني مرتدية أثواب الرموز”
استلهم توفيق الحكيم في أعماله المسرحية موضوعات مستمدة من التراث المصري وقد استلهم هذا التراث عبر عصوره المختلفة، سواء أكانت فرعونية أو رومانية أو قبطية أو إسلامية، وبسبب ذلك خاض الكثير من المعارك الفكرية في أثناء حياته خصوصًا مع الأزهر.
نجيب محفوظ ورفض الحداثة المرتبطة بالاستعمار
عاش نجيب محفوظ التقلبات والمنعطفات الحاسمة والثورات والحروب في مصر، من النكسة إلى حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، ومن ثورة 1919 إلى ثورة يوليو 1952، ومن كامب ديفيد إلى “الحرب على الإرهاب”، مسيرة صاخبة توّجتها جائزة نوبل، استطاع على امتدادها أن يصمد في وجه التقلبات والعواصف والتغيرات التي أصابت المجتمع والثقافة.
انتقد الأديب المصري المعروف كل حداثة مرتبطة بالاستعمار والفساد السياسي، حيث دار أغلب أدب نجيب محفوظ في مضمار “الحداثة” ونقدها إن كانت مستوردة على شكل غزو استعماري أوروبي، فالحداثة بالنسبة لمحفوظ تعني القدرة على نقد ذاتها بنفسها، من خلال العلم والديموقراطية والتسامح.
يمكن أن نجد محفوظ في روايتيه “أولاد حارتنا” و”الحرافيش” من الكتاب الحالمين بالخلاص لأبناء العالم من خلال العدالة والحرية، وهذه الرؤية الفلسفية ليست منفصلة عن “الثقافة” التي صاغها الإسلام، عن الصواب والخطأ، والثواب والعقاب، والحق والقوة.
انتقد الأديب المصري المعروف كل حداثة مرتبطة بالاستعمار والفساد السياسي
الأخوين رحباني وكلاسيكيات الموسيقى العربية
عاصي الرحباني وفيروز
ولد عاصي ومنصور الرحباني في قرية صغيرة بالقرب من بيروت لأب من هواة الموسيقى كان يعزف على آلة البزق التركية الأصل، والتحقا بالتعليم الموسيقي منذ الصغر، ودرسا الفنون الغربية وتمرنا على الموسيقى الشرقية، كما لهم العديد من المسرحيات الغنائية، وقدما بعض الأعمال التي أعادت تقديم التراث الموسيقي العربي مثل الموشحات الأندلسية والقصائد القديمة وبعض أعمال سيد درويش ومحمد عبد الوهاب.
يعتبر الأخوان رحباني حالة ثنائية فريدة شكلت في النهاية مدرسة في الغناء والموسيقى والمسرح، أسسها الأخوان عاصي ومنصور الرحباني، واتخذوا من “فيروز” أيقونة لتلك الحالة، ليصير ثلاثتهم من أعلام الموسيقى العربية المعاصرة، ومن أهم أسباب نجاح الأخوين ثباتهما على الجذور الشعبية للفن العربي، حيث تنوعت صور الفن الشعبي في أعمالهما بين الإيقاعات الشرقية والجمل المستوحاة من فنون الشام القديمة ورقصة الدبكة.
الطاهر الحداد النقابي
مفكر ومناضل سياسي من تونس، ويعتبر أحد رموز حركة الإصلاح وتحرير المرأة التونسية، هو مفكر لم ينتظر استفاقة الجموع ليتحرك، بل سبقها فبادر إلى كتابة مقالات في الصحف والدوريات المحلية فوصف الحالة العامة في البلاد ونادى باستفاقة الشعب في مواجهة الجهل والتخلف والظلم والاستبداد.
“الإسلام ثورة على القديم، ونداء للتحرر من تقليد الآباء والأجداد، وبعث لحياة التجديد والتوليد، ولكن المسلمين من حولوه بتقديسهم لأسلافهم واحتقار أنفسهم إلى سد يفصل بينهم وبين الحياة” – الطاهر الحداد
انخرط في مسار مختلف ألا وهو مسار العمل النقابي، فأ-*سس صحبة مجموعة من الوطنيين “جامعة عموم العملة التونسيين” (1924) أول نقابة تونسية، وقد أتاح له نشاطه فيها أن يكون أكثر قربًا من الحياة الاجتماعية وأكثر وعيًا بحقائقها وأبعادها.
الحداد كشف عن الوضعية الاجتماعية الدونية المزرية التي كانت عليها المرأة التونسية مطلع القرن العشرين، ونبّه إلى أنها لا تتناسب مع روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها، حيث بين ذلك في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” المنشور عام 1930.
“نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت ومتخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي” – محمد عابد الجابري
محمد عابد الجابري ناقد العقل العربي
صاحب مشروع “نقد العقل العربي” من خلال قراءة التراث العربي بروح نقدية، فقد وظف الجابري بعض مناهج الفكر الفلسفي المعاصر لإنتاج مقالة نقدية في قضايا الفكر العربي، حيث وصف الجابري فكره ذات مرة قائلًا: “نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت ومتخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي”.
كان الجابري المثقف الذي نقل الفلسفة إلى قلب المعترك السياسي، حيث كان المفكر المنفتح على التيارات المختلفة والفلسفات المغايرة، حيث كرس حياته للإنسان، في رفع الظلم عنه، ونشر حقوق الإنسانية، ونقل المجتمع نقلة نوعية من مجتمع لا يتم فيه تداول السلطات ولا يعرف حقوق الإنسان، حيث نجده وثق تلك الأفكار في كتابه “حفريات في الذاكرة”، قبل أن ينتقل في دوره التنويري لشباب المغرب العربي لينشئ جريدة “المحرر” أول جريدة باللغة العربية في المغرب.
شعر نازك الملائكة
نازك الملائكة البغدادية العراقيّة شاعرة تمردت على قوافي الشعر وأوزانه الخليلية وخالفت الشعراء الأوائل وجعلت من تجديدها التجريبي أساسًا لأسلوبها المعروف بـ”الشعر الحر”، حيث يعتقد الكثيرون أن نازك الملائكة أول من كتبت الشعر الحر عام 1947 ويعتبر البعض قصيدتها المسماة “الكوليرا” من أوائل الشعر الحر في الأدب العربي، وقد بدأت الملائكة في كتابة الشعر الحر في فترة زمنية مقاربة جدًا للشاعر بدر شاكر السياب وزميلين لهما هما الشاعران شاذل طاقة وعبد الوهاب البياتي، وهؤلاء الأربعة سجلوا في التاريخ بوصفهم رواد الشعر الحديث في العراق.
على الرغم من انتقاد الكثير من “الأصوليين” لكل من حاول التجديد والتحديث في الثقافة العربية، واتهموهم بالتقليد الأعمى للنموذج الغربي غير المتوافق مع التراث العربي والإسلامي، فإن هؤلاء استطاعوا بجدارة التوفيق بين المشروع التجديدي الحداثي النقدي وما تتطلبه الثقافة العربية دون المساس بالجذور الأصلية ودون مهاجمتها أو التقليل من أهميتها.