“الحياة ليست سهلة على أي واحد منا، ولكن ماذا سنفعل! يجب أن يكون لدينا المثابرة وقبل كل شيء الثقة في أنفسنا، ويجب أن نؤمن بأننا موهوبون بشيء ما، وأن هذا الشيء، مهما كان الثمن، يجب أن يتحقق“.
هذه الكلمات هي إحدى ما كتبت الاستثنائية “مدام كِوري” العالمة الشهيرة التي يعرفها الكثيرون بصفتها مكتشفة العناصر ربما الأكثر إشعاعًا بالجدول الدوري والحاصلة على جائزتي نوبل، لكن، هل كانت حياة ماري تشع تألقًا كاكتشافاتها، أم أن وجهًا آخر حملته حياتها ربما لا نعرف عنه شيئًا؟
بولندا تحت الاحتلال
ولدت ماري سكوودوفسكا في بولندا لأب وأم يعملان بالتعليم، لها شقيقتان وشقيق واحد، وأسرتها لم تكن من الأسر الثرية بل فقيرة نوعًا ما.
نالوا جميعهم قسطًا وافرًا من التعليم نظرًا لتفتح الأم والأب الشديدين، لكن عواقب وقفت أمام استكمال دراسة الفتيات الجامعية، أولهم وفاة الأم والشقيقة الكبرى في سن مبكرة وثانيهم وقوع بولندا آنذاك تحت الاحتلال الروسي الذي ساهم في جعلها دولة رجعية نوعة ما ولا تؤمن بأحقية الفتيات في الدراسة الجامعية؛ فانتقلت شقيقتها لباريس من أجل دراسة الطب، وانتقلت ماري للعمل كمربية في أحد البيوت الثرية.
الطبقية
في الفترة التي عملت فيها ماري كمربية أحبت شابًا من عائلة زورا وسكي مخدوميها، لكنهم رفضوا الزواج بسبب أنها ليست من طبقتهم الاجتماعية؛ الأمر الذي كان له عميق الأثر عليها.
لم تختلف الحالة المادية لماري بعد الزواج عن قبل الزواج ، فعلى الرغم من عبقريتها هي وزوجها فإنهما واجها معضلات مادية كثيرة
باريس
انتقلت ماري لباريس من أجل الدراسة، والتحقت بجامعة السوربون، كانت نسبة الفتيات بتلك الجامعة آنذاك لا تتعدى الـ3% ، لذا كانت أمام تحدٍ كبير.
أحد عناصر ذلك التحدي هي الحياة المادية الصعبة التي جعلتها تدرس وتعمل في نفس الوقت من أجل توفير السكن والطعام، لكنها في المقابل حققت المعجزة وتألقت في مجالي الفيزياء والرياضيات بتقدير ممتاز.
في تلك الفترة التقت بأستاذها “بيير كوري”، لم يلتقيا علميًا وذهنيًا فقط بل تكلل تعاونهما بالزواج عام 1895 لتغير اسمها بعد ذلك لـ”ماري كوري“، ويثمر هذا الزواج فتاتين، واكتشاف عنصري البولونيوم والراديوم عام 1898.
لم تختلف الحالة المادية لماري بعد الزواج عن قبل الزواج، فعلى الرغم من عبقريتها هي وزوجها فإنهما واجها معضلات مادية كثيرة إما لاحتياجات بيتهما أو من أجل تمويل التجارب والبحوث التي يقومون بها.
على الرغم من ذلك عملا بجد معًا، ليتمكنا من اكتشاف العنصرين الجديدين بالإضافة لظاهرة النشاط الإشعاعي؛ ليحصلا معًا – بالإضافة لعالمين آخرين – على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1903، لتكون السيدة كِوري – ورغم عدم موافقة اللجنة في البدء على اختيارها – أول امرأة تحصل على تلك الجائزة.
ماري كوري مع زوجها بيير كوري
فقدان الزوج
في نهاية عقده الرابع، توفي بيير كوري في حادث عام 1906، لتصبح بعدها ماري أمًا وحيدة لطفلتين وعالمة وحيدة في معملها، لكن عملاً كثيرًا كان يحتاج للإنجاز ومعادلات كثيرة لم يتم حلها بعد؛ مما دفع ماري لتنحية حزنها جانبًا والاستمرار في عملها ودورها المجتمعي، فتم تعيينها مكان زوجها في نفس الصفوف التي كان يُدرسها لتكون أول امرأة تنال منصب الأستاذية بالسوربون.
واستكملت التجارب التي كانا قد بدآها، لتستطيع استخلاص عنصر الراديوم وتنال جائزة نوبل الثانية عام 1911 اعترافًا بفضلها في تقدم الكيمياء باكتشافها عنصري الراديوم البولونيوم، وفصلها لمعدن الريديوم، ودراستها لطبيعة ومركبات هذا العنصر المهم.
في الفترة التي نالت فيها تلك الجائزة، تولى اليمين السياسي مهاجمة مدام كوري، واتهامها بأنها غانية أغوت تلميذ زوجها العالم بول لانجفان ليهجر زوجته من أجلها، وأثارت فضيحة عالمية جعلت لجنة نوبل تكتب لها بعدم الحضور لاستلام جائزتها بسبب الخوف من المساس بسمعة الجائزة، وسلمها الملك جوستاف الخامس جائزتها، وفي أثناء تلاوتها للخطاب ومن أجل وضع حد للجدل القائم صرحت: “أود أن أذكركم بأن العمل الكيميائي الذي هدف إلى إثبات أن الريديوم عنصر جديد قمت بتنفيذه بنفسي ولكن يبقى مرتبطًا بالعمل المشترك مع بيير كِوري“.
الصحف التي جعلت من ماري مادة لعناوينها الأولى في قضة التشهير، هي نفسها التي تجاهلت تمامًا حصولها على جائزة نوبل الثانية ولم تكتب عنها.
ماري كوري وعائلتها
المعهد والحرب
نيلها لجائزة نوبل الثانية مكنها من الحديث مع الحكومة الفرنسية من أجل إنشاء معهد الراديوم الذي تم بناؤه والانتهاء منه عام 1914، وأُطلق على الشارع الذي يقع فيه اسم “بيير كوري“، إلا أن نشوب الحرب العالمية الأولى جعل العمل في المعهد يتوقف، حيث التحق أغلب الباحثين بالجيش الفرنسي، واستئنف فيه العمل عام 1919.
في فرنسا وفي أثناء الحرب، كان للسيدة كوري إسهامات لا تنسى في المجال الطبي، فرغم أنها بولندية وعوملت كأجنبية غير مرغوب فيها وقفت بجوار فرنسا في أثناء حربها مع الألمان فترأست الخدمات الإشعاعية التابعة للصليب الأحمر وأسست أول مركز أشعة فرنسي عام 1914 وجهزت 20 عربة أشعة متنقلة و200 مركز أشعة للمستشفيات الميدانية.
في العام 1915 أنتجت ماري نوعًا من الإبر الجوفاء تحوي الرادون عالج نحو مليون جندي جريح، رغم كل تلك المجهودات لم تولِ الحكومة الفرنسية أي اهتمام بإسهاماتها الواضحة في الميدان.
ماري كوري
نهايتها مع الإشعاع
لطالما حملت مدام كوري أنابيب العناصر الأشعة في جيبها أو في أدراج مكتبها، فلم يكن العلماء آنذاك على دراية بأخطار التعرض لإشعاع دون ملابس واقية، فأصيبت السيدة كوري بالسرطان، وفي ربيع عام 1934 كانت زيارتها الأخيرة لبولندا حيث كانت تعالج من فقر الدم اللاتنسجي.
توفيت في العام 1937 ودفنت بجوار زوجها بيير في مقبرة سو، في العام 1995 نقل رفاتهما للبانتيون، وكانت السيدة الوحيدة التي تنال هذا التكريم، فأدوات السيدة كوري وملابسها ومقتنياتها محفوظة الآن في متحف باسمها، داخل صناديق مبطنة بالرصاص نظرًا لكمية الإشعاع الكبيرة التي تنبعث منها.
الصدى الكبير الذي يتردد الآن عند ذكر مدام كوري لم يأتِ من فراغ، ولم يكن حصيلة عمل سنوات متتالية فقط وساعات طوال من الوقوف في المعامل، وإنما نتيجة للكثير من الظروف والمتغيرات التي دفعت تلك السيدة للمزيد من العمل من أجل أن تنتزع مكانتها دون أن تنتظر أن يمنحها إياها أحد.