أشارت المنظمة التابعة للجامعة العربية في بيان لها إلى المخاطر التي تهدد اللغة العربية، بسبب مواصلة الاعتماد على اللغتين الفرنسية والإنجليزية في غالبية الجامعات العربية، إلى جانب مزاحمة استعمال اللهجات المحلية في البرامج التليفزيونية والإذاعية؛ الأمر الذي انعكس على المستوى التعليمي العام، مع ذلك، فإن خطر انحدار لغة الضاد يتضاعف لدى الجاليات العربية المغتربة التي تعيش بين أوساط أجنبية.
اضطرت ملايين العائلات بعد ثورات الربيع العربي إلى النزوح لدول أخرى أكثر أمانًا وتفهمًا لأوضاعهم الاجتماعية والسياسية، حيث توجهت نسب كبيرة إلى البلدان الغربية التي تناقض ثقافتهم وطباعهم الفكرية وقناعتهم العرفية، إلا أن محاولات الإدماج والاحتواء داخل مجتمعات هذه الدول تعود بالفائدة عليهم اجتماعيًا، لكنها بالمقابل قد تضر بهويتهم بدءًا من لغتهم ولغة أطفالهم الأم، فكيف يمكن أن تحافظ هذه العائلات على لغتها في المجتمعات الأجنبية؟
كيف تقلصت مساحة اللغة العربية بين أهلها؟
قد يتناسى البعض أن اللغة العربية حصاد الحضارة الإسلامية القديمة ورمز للهوية العربية، فعندما انتشرت اللغة العربية في زمن الخلافة لألف وأربعمئة عام كانت الدولة هي الراعي الأساسي لهذا الاهتمام، وكان علماء الأمم الأعجمية يسعون لتعلم لغة الضاد – مثل الإمام البخاري – لتنتشر منتجاتهم الفكرية وتبقى لدينا حتى هذا اليوم، علاوة على تأثيرها الذي امتد إلى اللغات الأخرى مثل التركية والفارسية والكردية والإسبانية والأوردية.
لسنوات طويلة، شكلت اللهجات المحلية والعامية مصدر تهديد للغة الضاد، خاصة بعد تعمد بعض القنوات الفضائية عرض برامج الكرتون المدبلجة باللهجات العامية؛ مما أثر على المخزون اللغوي لدى الطفل، إضافة إلى اعتماد الكادر الأكاديمي على الشرح والتدريس بالعامية، بالجانب إلى العوائل الموجودة في الدول الأجنبية وانحسار تعليم اللغة العربية بالأحاديث اليومية العامية دون الاهتمام بالقواعد النحوية والإملاء وغيرها من أساسيات اللغة.
إذًا، فهذه الأزمة مسؤولية مشتركة بين العائلة ومنظومة التعليم ووسائل الإعلام، فبالنسبة إلى التعليم، فإن افتقاده لأساليب الترغيب والتحفيز في تدريس اللغة العربية يشعر الطالب بصعوبة وتعقيد هذه اللغة حتى يتفادها وينجذب إلى لغات أكثر عصرية ومواكبة لمتطلباته، فهناك لغات أخرى تزاحم اللغة العربية في الفصول الدراسية، مما يفقدها أولويتها وأهميتها، عدا عن البعثات الدراسية للخارج التي تساهم في تنحية اللغة العربية وجذب الاهتمام نحو اللغة الأجنبية الجديدة، وبالتالي تتحول اللغة العربية إلى مزيج هجين من الألفاظ الأجنبية والعربية، وهذا ما يعتقد البعض بأنه دليل على المكانة الاجتماعية الراقية ومستوى التعليم الرفيع.
كما لعبت وسائل الإعلام دورًا بالغ الأهمية في تنميط هذه الفكرة الاستعراضية، فصورت الألفاظ الأجنبية بأنها دليل على التمدن والتحضر والتطور والثقافة، على النقيض ممن يتحدث الفصحى، فمثلته على أنه شخصية تقليدية وتوجهاتها الفكرية محدودة في ثقافة واحدة.
نسيان اللغة الأم لا يفرض من الخارج، بل من تغيرات داخلية في الجماعة التي تتحدث اللغة
بالنسبة إلى سوق العمل، شجعت متطلباته المهنية العصرية على إهمال اللغة العربية والتركيز على اللغات المسيطرة على قطاع الاقتصاد والتكنولوجيا، فالفرد الذي يتقن هذه اللغات قادر على اكتساب الخبرات والمهارات من الدول المتقدمة وبالتالي يحقق المزيد من النجاح في مجال العمل.
أما العائلة، فتعتبر مساهمتها في هدم أو بناء هذه الهوية الثقافية أساسية، فهي أول من يتابع رحلة التطور اللغوي والثقافي للطفل، وقادرة على إقناع أبنائها بالتخلي عن نظرة الانبهار باللغات الأجنبية وتنمية تقديرهم وفضولهم نحو المحتوى العربي من خلال النقاشات والأحاديث اليومية والأساليب التربوية.
هذا وتملك النظرة الإيجابية إلى اللغة أهمية أخرى، فإذا كانت النظرة إلى اللغة الأم مرموقة ولها مكانة في المجتمع، لن يكون لتعلم اللغة الأجنبية آثار سلبية، ولكن إذا لم يتم الاحتفاء بلغة الموطن، فتهمل تدريجيًا، أي أن نسيان اللغة الأم لا يفرض من الخارج، بل من تغيرات داخلية في الجماعة التي تتحدث اللغة.
وفي نفس الخصوص، بينت بعض البحوث أن الأطفال الذين لديهم روابط قوية مع لغتهم الأم، يتمتعون بشعور أكبر بذواتهم وقيمتهم لأنفسهم، ويمكنهم اكتساب لغات أخرى بشكل أكثر سهولة وانسيابية، عدا عن أنهم الأكثر نجاحًا في المدرسة.
كيف تعالج العائلة المغتربة أزمة انحدار مستوى اللغة الأم؟
يقترح المختصون التربويون مجموعة من الأساليب التي تحافظ على اللغة الأم للطفل، وأبسطها الحديث باللغة العربية في المنزل حتى يتعود الطفل على الاستماع والتحاور بهذه اللغة دون غيرها، أما بالنسبة إلى ترك الطفل يتحدث باللغة الأجنبية وإجابته باللغة العربية، لن ينفعه في التعبير عن نفسه أو اختيار الكلمات المناسبة لوصف معتقداته وأفكاره، إضافة إلى ضرورة تعويده على القراءة باللغة العربية حتى لا تنحصر معرفته على اللهجة العامية.
كما يمكن اصطحابه إلى المخيمات الثقافية التي تنظم مسابقات مختلفة في كتابة القصص والأدب والشعر أو التأليف أو الإلقاء، وقد تكون هذه المخيمات مكلفة لبعض العائلات، لذلك تعد الدورات المنظمة في المساجد عن دروس القرآن وسير الأنبياء نشاطًا كافيًا لتعليمه اللغة بقواعدها وآدابها، وعند تأمين هذا المحيط “العربي” من حوله من الصعب أن تتولد لديه مشكلة في لغته الأم.
أعلنت وزارة التربية والتعليم في تركيا قرار إدراج اللغة العربية في المناهج الدراسية كمادة اختيارية لمن يرغب بتعلمها، وهو قرار سياسي جاء ليوافق الاحتياجات الاجتماعية والتطورات الاقتصادية والسياسية في البلد
ضمن التجارب التي قدمتها الدول المستضيفة لتلبية احتياجات طلاب الجاليات العربية، أعلنت وزارة التربية والتعليم في تركيا قرار إدراج اللغة العربية في المناهج الدراسية كمادة اختيارية لمن يرغب بتعلمها، وهو قرار سياسي جاء ليوافق الاحتياجات الاجتماعية والتطورات الاقتصادية والسياسية في البلد، وخاصة بعد زيادة السياحة العربية في أرجاء المدن التركية، ومراعاة للطلاب العرب الموجودين في مؤسساتها التعليمية، جدير بالذكر، أنه في نفس العام أعلنت ثماني جامعات في مختلف الولايات التركية إضافتها تخصصات علمية وأدبية باللغة العربية.
هذا بالتوافق مع فرنسا التي قررت العام الماضي إدخال اللغة العربية إلى منهاجها التعليمي، استجابةً للطلب المتزايد على تعلم اللغة العربية من أبناء الجاليات العربية، وفي تقرير صادر عن المعهد الفرنسي للاندماج لسنة 2015، أقبل نحو 57 ألف تلميذ على تعلم اللغة العربية على يد 680 معلمًا من الجزائر والمغرب وتونس في إطار برنامج تعلم لغات البلد الأصلي لسنة 2012.
لماذا الاهتمام باللغة العربية؟
يعتبر المسلمون أن اللغة العربية خصوصية إسلامية والتخلي عنها يعني الانفصال عن الثوابت الاجتماعية والمكتسبات الثقافية والتراثية واستبدال للهوية الدينية، وانتشارها بين الفئات المختلفة في المجتمع يعد إشارة إلى التماسك والوعي الاجتماعي بأهمية اللغة في الوقت الذي تتزاحم فيه الدول على التعريف بلغاتهم ونشرها بطرق مختلفة، سواء من خلال المنح الدراسية أو المنتجات الاقتصادية والأفكار الثقافية التي تبثها عبر منصات التواصل الاجتماعي، علمًا أن اليونسكو أشارت سابقًا أن اللغة الأم واحدة من أقوى الأدوات المستخدمة في الحفاظ على الثقافة، لأنها تمنح الفرصة لأبنائها بالتعرف على أسرار الأدب القديم والحديث، وتخلق رابط بين الحاضر والماضي.
تعتمد الشركات التجارية على خبراء لغويين قادرين على إدارة حملاتهم الإعلانية من خلال معرفة اللغة وثقافة أهلها، حتى تضمن نجاحها في السوق العربي ومواصلة انتشارها في 22 دولة
أما الأسباب المهنية فهي كثيرة ومغرية، وخاصة أن منطقة الشرق الأوسط بؤرة ساخنة للأحداث السياسية التي تتطلب تقارير صحفية وتغطيات إخبارية مستمرة للأحداث الجارية بغرض عرضها للمجتمع الدولي، ولتحقيق هذا الطلب لا بد من وجود كوادر صحفية متقنة للغة العربية وقادرة على صياغة القصة الصحفية بصورة دقيقة.
بالإضافة إلى أن الدول العربية تعتبر بيئة خصبة للنمو التجاري السريع والفرص الاستثمارية، ومن أجل تحقيق أرباح في هذه المنطقة، تعتمد الشركات التجارية على خبراء لغويين قادرين على إدارة حملاتهم الإعلانية من خلال معرفة اللغة وثقافة أهلها، حتى تضمن نجاحها في السوق العربي ومواصلة انتشارها في 22 دولة للوصول إلى أهدافها الاقتصادية، كما أن هذه الفرص المادية التي تحملها اللغة العربية لأبنائها وللناطقين بها، لا تقل أهمية عن الدوافع المعنوية والاجتماعية لتعلمها.