المتأمل للقوانين الغربية خاصة الفرنسية منها، يقول من الوهلة الأولى إن هذه القوانين والتشريعات الأجنبية كانت نتاجًا حتميًا للتطور الذي شهده الغرب في القرن الثامن عشر، غير أن الأمر معاكس لذلك تمامًا، فمعظم هذه القوانين، مستمدة من الفقه الإسلامي بشهادة الغربيين أنفسهم.
مدونة بونابرت
يقول المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه “حضارة العرب”، إن الجنرال الفرنسي الأشهر نابليون بونابرت عند عودته إلى بلاده فرنسا راجعًا من مصر سنة 1801، أخذ معه كتاب فقهي من مذهب الإمام مالك بن أنس اسمه “شرح الدردير على متن خليل”، ويعتبر الفقه المالكي أول فقه إسلامي رافق الأوروبيين.
هذا الكتاب الفقهي الذي أخذه بونابرت معه، يقول لوبون، إنه بنى عليه القانون الفرنسي الذي كان أحد أهم أسباب نهضة الدولة، خاصة في مادة الأحكام والعقود والالتزامات، ليكون بذلك للفقه الإسلامي خاصة المالكي أثر كبير في التشريع الفرنسي خاصة مدونة الفقه المدني المعروفة بمدونة نابليون.
بدء العمل بمقتضيات الفقه الإسلامي خاصة المالكي منه في ربوع أوروبا لم يكن عقب صدور القانون الفرنسي سنة 1805، بل كان قبل ذلك مع فتح المسلمين لبلاد الأندلس
تقول، أيضًا، بعض نتائج دراسات ومقارنات قام بها علماء مسلمون ورجال قانون نذكر منهم: مخلوف المنياوي القاضي في عهد الخديوي إسماعيل في مصر الذي أجرى مقارنة بين القانون الفرنسي والفقه المالكي، وقدري باشا وزير العدل المصري في أواخر القرن التاسع عشر، والعالم الأزهري سيد عبد الله علي حسين صاحب المقارنات التشريعية إن التشابه بين الفقه المالكي والقانون الفرنسي بلغ 90%.
فيما يشير أستاذ القانون الدولي في الجامعة الهولندية مشيل دي توب إلى تأثير الروح الإنسانية والخلقية التي جاء بها الإسلام وتجسدت في فلسفته الفقهية وفضلها على أوروبا في العصر الوسيط، حيث يذكّر بما كانت تعانيه البشرية من بؤس وتعاسة، وتأثير القواعد التشريعية الإسلامية على ذلك، وأثرها في القانون الدولي.
قبل نابليون بونابرت
بدء العمل بمقتضيات الفقه الإسلامي خاصة المالكي منه في ربوع أوروبا لم يكن عقب صدور القانون الفرنسي سنة 1805، بل كان قبل ذلك مع فتح المسلمين لبلاد الأندلس، وتقول بعض المصادر التاريخية إن ألفونس التاسع ملك قشتالة كتب أول مدونة قانونية في أوروبا، نشرت بتعليقات لاتينية في ثلاثة مجلدات، وقد استمدها خاصة من قانون الولايات في الأندلس المسلمة الراجع إلى سنة 679 هجريًا الموافق لسنة 1289ميلاديًا.
إلى جانب ذلك، استمدّ فريدريك الثاني ملك صقلية وإمبراطور جرمانيا قوانينه سنة 1250 ميلاديًا من الفقه الإسلامي، من ذلك وضعه للضرائب المباشرة وغير المباشرة، والهياكل العسكرية والرسوم الجمركية واحتكار الدولة للمعادن وبعض البضائع مما كان يعرف في الشريعة الإسلامية منذ القرنين التاسع والعاشر ولكنه أصبح نموذجًا احتذت به أوروبا كلها.
https://www.youtube.com/watch?v=pk5D6PPJEic
يقول مؤرخون إن الفضل لدخول الفقه المالكي إلى أوروبا يعود إلى الباب سلفستر الثاني، فقد درس هذا الأخير في قرطبة، واسترعى انتباهه فقه الإمام مالك بن أنس، فاعتنى به عناية فائقة لها فعالية بلغت الحد الأقصى، وانكب على دراسته دراسة معمقة لسنوات عديدة، وفي عودته إلى فرنسا عاد محملاً بهذا الفقه وأصوله بما فيها من شــراءات وتعويضات ومبيعـــات وشروط.
غير أن سلفستر قدّم الفقه المالكي على أنه قانون روماني جديد، من هنا انتشر مذهب الإمام مالك بن أنس انتشارًا واسعًا في العقود والمبايعات والأهلية وغيرها مما يشمل الحياة العامة والخاصة حتى استقرت بين الأوروبيين كعرف أو ما يسمى بالعادة الشفوية، ما لبثت فيما بعد أن صبغت في صورة قوانين مقننة ومنها القانون الفرنسي الذى تم وضعه سنة 1805 ميلادية
بعض الأمثلة والمقارنات
من بين القوانين التي تؤكّد أن التشريع الفرنسي يستمدّ في أغلبه من الفقه المالكي، مثلاً في العقود، حيث نجد أن ما جاء في القانون الفرنسي في مسألة العقود من شروط لزومه بالإيجاب والقبول من المتعاقدين، وشرط صحة العقد بصفة عامة، وعيوب العقد، وحرية المتعاقدين، وانتقال الملكية للموكل، كل ذلك نجده في فقه الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه.
كذلك الأمر في الملكية ودليلها وتثبيتها وحكم وضع اليد وشروطه ونتائجه، وأن وضع اليد على المنقول يعادل حجة الملكية، وجواز نزع الملكية للمنفعة العامة، وأحكام الملكية المشتركة، وتحديد ملكية المناجم، وطرق نقل الملكية في المنقول والعقار، وسقوط الحق بمضي المدة.
يعتبر القراض أهم أنواع الشركات في المذهب المالكي
ومن مجالي هذا التأثير في الحقل الاقتصادي قضايا الشركات وقد ضمنها البنوك، وهي تقوم في العالم المعاصر بأجل الخدمات لتنشيط مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فالشركة بصورة عامة في المذهب المالكي هي كما يقول ابن عرفة: “شركة بقدر متمول بين ملكين فأكثر ملكًا فقط”، والشركة في القانون الفرنسي شبيهة بها بل تستعمل “المدونة الفرنسية” نفس التعابير التي وجدت في النصوص الفقهية القديمة بما يدل على أن التشريع الفرنسي اقتبس منها.
وأهم أنواع الشركات اليوم في الغرب الشركة المعروفة بالقراض، ويعتبر القراض أهم أنواع الشركات في المذهب المالكي لأنها لا تمس رأس المال المشارك فيها وإنما تقتصر مسؤوليته على حصته في الشركة أي أن أرباب المال ملزمون على قدر المال كما في القانون الفرنسي وغيره من القوانين الأوروبية وخاصة منها القانون الألماني الذي أصبحت العمليات المصرفية تجري اليوم في نطاقه على نسق البنوك من دون فائدة وهو مظهر لأثر الفقه الإسلامي في المجتمع الألماني اليوم.
نابليون بونابرت
من هذا التأثير أيضًا، ما نجده في موضوع الجنسية، فالجنسية في الحقيقة ميزة تتسم بها أمة بعينها وهي أيضًا وصف لمن ينتسب لأمة من الأمم ولم يهتم الإسلام بالجنسية أو العنصر بقدر ما اهتم بالملة أو النحلة الدينية، ولكن ليس معنى هذا أن أحكام هذا المفهوم لم تكن واضحة ومضبوطة في الإسلام، فقد قال النووي في تقريبه نقلاً عن عبد الله بن المبارك وغيره إن من أقام في بلدة أربع سنين نسب إليها، وقد تحدث المراكشي في إعلامه عن أمد الحصول على هذه الجنسية حسب الفقه الإسلامي، وقد اختارت مدونات قانونية أوروبية وأمريكية نفس المدة لإقرار جنسية الأجنبي المقيم في البلد.