يشكّل اللعب في المراحل الأولى من عمر الفرد عاملًا أساسيًّا لتطوّره النفسيّ والاجتماعيّ والعاطفي والإدراكي، نظرًا لكونه سلوكًا فطريًّا ملحًّا لا نشاطًا هامشيًا يمكن الاستغناء عنه، وبالتالي يرى الكثير من علماء النفس والتربوييّن أنّ افتقاد الطفل للعب والقدرة على خلق هذا السلوك قد تؤدي غالبًا إلى خلق شخصية غير مستقرة، مضطربة، وغير قادرة على الاندماج مجتمعيًا في المراحل العمرية المتقدمة.
ولو نظرنا إلى الأطفال اليوم، لوجدنا أنّ معظمهم يقضون جلّ أوقاتهم ما بين المدرسة أو المؤسسات التي قد تقدّم لهم أنشطة لا منهجية منظمة من قبل عدد من البالغين. أما في المنزل فغالبًا ما سيكونون أمام شاشة التلفاز أو الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وألعاب الفيديو، على خِلاف ما اعتادت عليه الأجيال السابقة من قضاء الوقت خارج جدران المنزل، ينتقلون من حيّ لآخر مجاور، مستمتعين بالخيارات المتعددة أمامهم للتسلية واللعب مثل ركوب الدراجات أو القفز بالحبل أو الألعاب الشعبية العديدة التي تختلف من مكانٍ لآخر.
علينا أنْ ندرك حقًا أنّ أطفال اليوم لا يحصلون على امتيازات اللعب التي كان يحصل عليها الأجيال السابقة، نظرًا لغياب فكرة اللعب غير المنظم أو الممنهج من دائرة حياتهم وقضاء أوقات فراغهم بعيدًا عن اللعب، ما دفع علماء النفس لاستخدام مصطلح “عجز اللعب” لوصف ذلك، لما يرونه من مشكلةٍ حقيقية تؤثر على الطفل على أصعدة متعددة.
اللعب الحرّ: حجر أساس لتطوّر الطفل
ومما لا شكّ فيه أنّ مراحل الطفولة التي تشهد حرمانًا أو نقصًا في اللعب، تخلّ بالتطور العاطفي والاجتماعي والإدراكي الطبيعي للفرد، الأمر الذي استدعى الكثير من الباحثين النفسيين للتساؤل حول فيما إذا كان الحدّ من اللعب الحرّ عند الأطفال سيؤدي لخلق جيلٍ من البالغين المضطربين غير القادرين على الاندماج في المجتمع والاستقرار النفسيّ.
ولذلك وضعت عالمة النفس والاجتماع الأمريكية ميلدريد بارتن نوهال نظريةً قسمت فيها لعب الأطفال إلى عدة أنواع، تمتاز الأربعة الأولى بكونها لا تنطوي على الكثير من التفاعل الاجتماعيّ مع الأطفال الآخرين، غير أنّ المرحلة الأخيرة تعتمد بشكلٍ أساسيّ على ذلك، وأيّ خلل في هذه المرحلة سيعود سلبًا على الطفل.
في العامين الأولين من عمر الطفل، تُعرف المرحلة الأولى باسم “اللعب غير المشغول”، وهنا لا يؤدي الطفل دورًا في اللعب سوى المراقبة، وغالبًا ما يؤدي حركاتٍ عشوائية غير ثابتة نسبيًا ودون أي هدف واضح، غير أنّه يتفاعل مع الأشياء من حوله بإثارة واهتمام، إذ أنّ العالم كلّه جديد عليه، يستدعي الاكتشاف والتجريب.
أمّا ما بين العام الثاني والثالث يكون الطفل غير مهتمٍ أو مدرك لما يفعله الآخرون، لذلك يشيع “اللعب الانفرادي” أو “المستقل” حيث يميل للعب بمفرده دون ملاحظة ما قد يفعله الأطفال الآخرون من حوله بسبب محدودية مهاراته الاجتماعية والجسمية والمعرفية. تليها مرحلة “لعب المشاهدة” إذ يبدو الطفل فيها مهتمًا في اللعب مع غيره من الأطفال، غير أنه يتواني عن الانضمام إليهم، وقد يكتفي فقد بطرح الأسئلة أو التحدث، ولكنّ النشاط الرئيسي عنده ببساطة هو المشاهدة والمراقبة.
ترتكز أهمية اللعب الرّمزي نظرًا لإشارته إلى أيّ مدى يتطوّر دماغ الطفل، الأمر الذي يمكن استشفافه من قدرته على تحويل ما لديه من ألعاب وأشياء إلى رموزٍ تظهر حقًا قدرة دماغه على التخيّل والتقليد
تتغير نظرة الطفل للألعاب بعد عامه الثاني، فبعد أنْ كان يراها محض أشياء تثير انتباهه وحسب، تبدأ شيئًا فشيئًا بامتلاك معاني رمزية متعددة وفقًا لوظيفتها، وتتعدد طرق استعماله أو تعامله معها تبعًا لأهداف مختلفة، إذ تغدو الألعاب رموزًا لأغراض أخرى، فقد تحاول طفلتك أن تحمل دميتها وكأنها تتقمص دور الطفل وهي بدورها الأم، تطعمها وتتحدث إليها وتغسل ثيابها تمامًا كما تفعل أمها معها.
وترتكز أهمية هذا النّوع من التّمثيل الرّمزي نظرًا لإشارتها إلى أيّ مدى يتطوّر دماغ الطفل، الأمر الذي يمكن استشفافه من قدرته على تحويل ما لديه من ألعاب وأشياء إلى رموزٍ تظهر حقًا قدرة دماغه على التخيّل والتقليد والوعي واقتماص الأدوار الاجتماعية.
تبدأ المرحلة الرابعة من اللعب بعد عمر الثالثة، حيث يحتاج الأطفال فيها شركاء في اللعب يشتركون معًا في أهداف اللعبة دون أن يضعوا أية قواعد لها، وغالبًا ما يلعبون بنفس الألعاب أو يتبادلونها فيما بينهم، ويشكّل هذا النوع من “اللعب الموازي” الخطوة الأولى في اكتساب طفلك للقدرة الاجتماعية وإنشاء العلاقات بعيدًا عن دائرة والديْه، فالشركاء في اللعب الموازي هم أول أصدقاء طفلك، ولذلك يُنظر إلى هذا النوع من اللعب على أنه مرحلة انتقالية من اللعب المنفرد غير الناضج اجتماعيًا إلى اللعب الذي يمتاز بكونه أكثر نضجًا اجتماعيًا.
يساهم اللعب التعاوني في نضوج الهوية الذاتية وسط المجموعة من خلال تحديد الأدوار التي قد يلعبها الطفل وسط أعضاء المجموعة الآخرين
وفي مرحلة ما قبل المدرسة، يبدأ “اللعب التعاوني” بالنضوج شيئًا فشيئًا، إذ يصبح الطفل قادرًا على التعاون مع غيره من الأطفال لتحديد أهداف منظمة ومحددة للعب، والأطفال هنا إمّا بداخل مجموعة اللعب أو خارجها، وبذلك تتشكل شخصيته الاجتماعية بشكلٍ واضج وجليّ عن طريق قدرته على التعاون مع الأطفال الآخرين من حوله.
كما تساعد مرحلة اللعب التعاوني على نضوج الهوية الذاتية وسط المجموعة من خلال تحديد الأدوار التي قد يلعبها الطفل وسط أعضاء المجموعة الآخرين، ما يتطلب المزيد من النضج الاجتماعي والمهارات الاجتماعية الأكثر تقدّمًا مثل تقاسم أو تشارك الألعاب والالتزام بالأدوار وقواعد اللعبة والرضوخ للقوانين والتفاوض والتسوية وغيرها من المهارات التي تشكّل جزءًا من السلوكيات الإدراكية المهم اكتسابها في تلك المرحلة من العمر.
يتيح اللعب الحرّ للطفل اكتشاف ردود أفعالٍ أكثر إبداعًا وأقلّ تقييدًا ما يعزّز المهارات الاجتماعية على نحو أفضل، ويساعد على تماسك المجموعات وتوطيد العلاقات بينها بشكلٍ أقوى
يتفق العلماء الحديثون أنّ نظرية بارتن ساهمت بشكلٍ كبير في فهمنا للعب وأهميته لنموّ الطفل وتطوّره على عدة أصعدة، وعلى الرغم من اقتراح تصنيفات بديلة لتلك المراحل إلا أنها ما زالت تُستخدم على نطاق واسع لا سيّما مع الاتفاق الكبير على قدرتها في بناء شخصية الطفل الذاتية والاجتماعية.
ويأتي التأكيد على تفضيل اللعب الحرّ على ذلك المنظّم أو الخاضع لقواعد مؤسساتية من قبل البالغين بكونه يتيح للطفل اكتشاف ردود أفعالٍ أكثر إبداعًا وأقلّ تقييدًا ما يعزّز المهارات الاجتماعية على نحو أفضل، ويساعد على تماسك المجموعات وتوطيد العلاقات بينها بشكلٍ أقوى، الأمر الذي يشكّل تحديًّا للدماغ أثناء مراحل النمو الأولى أكثر من مجرد اتباع القواعد المحددة سلفًا، ففي اللعب الحر على سبيل المثال، يبتكر الأطفال أنشطةً وأدوارًا جديدة قد تتضمن بعض الألعاب والشخصيات الخيالية، ما يعزّز التطور العصبي في المناطق الدماغية المرتبطة بردود الأفعال الاجتماعية والعاطفية.
بالإضافة لذلك، يساهم اللعب دومًا في مساعدة الطفل على التخلص من القلق والتوتر والمواقف الحياتية المُجهدة، ولهذا السبب بات في السنوات الأخيرة كجزءٍ من العلاج النفسي المُستخدم في علاج ضحايا الصدمات والحروب والاعتداءات الأسرية أو الجنسية من الأطفال. ويفترض المعالجون النفسيون على سبيل المثال أنّ الطفل من خلال اللعب التخيُّلي، يكون قادرًا بشكلٍ أفضل على التكيف مع المواقف الصعبة.
وبالمحصلة، ينبغي فعلًا التساؤل عن المشكلات النفسية أو الاختلالات التي قد تحدث عند الأطفال في السنوات الأخيرة نتيجة انخفاض معدلات اللعب عندهم في الوقت الذي تطغى فيه التكنولوجيا الحديثة على جلّ أوقاتهم وتسحبهم من الحيّز الاجتماعي، لا سيّما ومع ميل الكثير من الآباء في الآونة الأخيرة إلى الاهتمام بالأنشطة المنهجية المنظمة والتركيز على التفوّق الدراسي أو الفني أو الرياضي للطفل ضمن إطار تقييدي يخضع لقوانين البالغين وقواعدهم، على خلاف ما اعتادت عليه الأجيال السابقة التي أمضت جلّ طفولتها في الأحياء والأزقة مع غيرهم من الأطفال.