وصل معدل المياه غير الصالحة للشرب والاستخدام الآدمي في قطاع غزة إلى 97%، وذلك لعدة أسباب وحوادث مرتبطة بها على مر التاريخ، ويعد الاحتلال الإسرائيلي أهم العوامل الرئيسية التي افتعلت هذه الكارثة، فيما تعود العوامل الثانوية الأخرى للمواطنين بغزة، حتى أصبحت هذه الأزمة سياسية بامتياز.
ظهر اهتمام الاحتلال الإسرائيلي بموضوع المياه قبل احتلاله للأرض الفلسطينية من خلال المؤتمر الصهيوني الأول بمدينة بازل بسويسرا عام 1897، الذي أكد أهمية المشروع المائي بالنسبة للمشروع الصهيوني، وقد تقدم رئيس المؤتمر آنذاك وأحد كبار مؤسسي الصهيونية “حاييم وايزمن” بمقترح لرئيس وزراء بريطانيا بلفور بعد صدور وعده المشؤوم بإعطاء اليهود وطن قومي لهم بفلسطين منذ عام 1917، بأهمية ترسيم حدود “إسرائيل” بحيث تضم معها نهر الليطاني في لبنان، وأنهار الأردن وبني ياس بفلسطين وسوريا.
وبعد احتلال فلسطين عام 1948 سيطرت “إسرائيل” على أغلب مصادر المياه في فلسطين، وخاصة خليج العقبة وبحيرة طبريا ومياه البحر الأبيض المتوسط، فعملت على تأميم المياه التي عدتها ملكًا عامًا للدولة عام 1949، كما أنها قامت عام 1964 بمحاولة توصيل المياه من بحيرة طبريا شمال فلسطين، إلى صحراء النقب جنوب الأراضي المحتلة، عبر شبكة أنفاق كبيرة سُميت بـ”أنفاق عيلبون” تصل بين الجهتين.
ولكن هذا المشروع واجه فشلاً ذريعًا بعد تفجير وتدمير النفق حينها من قوات العاصفة التابعة لحركة فتح عام 1965 التي كانت شرارة الثورة الفلسطينية المعاصرة.
ومن الملاحظ هنا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي حاولت منذ ذلك العام الاستيلاء على جميع مصادر المياه لصالح صحراء النقب بالذات، وذلك من أجل جلب المستوطنين لها، حيث يبلغ عدد سكان الصحراء حاليًّا 1.5 مليون مستوطن.
كانت هزيمة “إسرائيل” في حرب 1973 بمثابة نكبة عليها، إذ خسرت مشاريعها التي أنجزتها بسيناء لري مستوطنات النقب
وبعد حرب 1967 سيطرت “إسرائيل” على مياه الأبيض المتوسط بغزة، بالإضافة إلى وادي غزة، وكذلك حرصت أن يصل مدى احتلالها للأراضي العربية إلى قناة السويس، فكانت هناك محاولات عديدة حينها بتجميع مياه سيناء وأهمها قناة السويس لصالح صحراء النقب، كما أنها حاولت تنفيذ مشروع “جونستون” الذي يقضي بتحويل مجرى مياه نهر الأردن الفاصل بين فلسطين والأردن لصحراء النقب، فلجأت لاجتياح الأردن عام 1968، ولكنها تعرضت لأول هزيمة بتاريخها وأُجبرت على الانسحاب بفعل ضربات المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني ضمن معركة الكرامة.
وبعد أن وضعت حرب 1967 أوزارها، تم تحويل ملكية المياه العربية المحتلة تحت إدارة الحاكم العسكري، وهذا يُظهر مدى اهتمام الاحتلال الإسرائيلي بالمياه، فضلاً عن ذلك فإن الخطين باللون الأزرق الموجودان على علم “إسرائيل” تعني “دولة “إسرائيل” من النيل إلى الفرات”.
كانت هزيمة “إسرائيل” في حرب 1973 بمثابة نكبة عليها، إذ خسرت مشاريعها التي أنجزتها بسيناء لري مستوطنات النقب، فطرح المهندس الإسرائيلي اليشع كالي عام 1974 مشروعًا يقضي بتحويل مجرى مياه نهر النيل تحت عنوان “مياه السلام” الذي يقضي بتوسيع نهر الترعة في الإسماعيلية لزيادة تدفق المياه فيها، تمهيدًا لنقلها لصحراء النقب لري 2.17 مليون دونم.
واجه هذا المشروع رفضًا مصريًا، ولهذا نرى الاهتمام الإسرائيلي المبالغ فيه بجمهورية إثيوبيا التي تعد منبع نافورة مياه النيل، وقد وصل لها مسبقًا 400 خبير إسرائيلي لإنشاء سدود على ضفاف النيل الأزرق، عُرف باسم “سد النهضة” الذي سيعمل على تجفيف النهر بمصر، كورقة لابتزاز جمهورية مصر التي رفضت تحويل النهر للأراضي المحتلة.
كما أنها حاولت السيطرة على مجرى نهر الليطاني في لبنان خلال حربها على منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت عام 1982، لتحويل مجراه إلى بحيرة طبريا خوفًا على جفافه بعد مد أنابيب من البحيرة لصحراء النقب، ثم محاولة استغلال مياه نهر الفرات في زمن الرئيس التركي توجورت أزال عام 1987 فيما سُمي بمشروع “أنابيب السلام”، تنقل بموجبه المياه من تركيا إلى سوريا ولبنان ثم بحيرة طبريا، حيث أعلنت أمريكا تبنيها هذا المشروع بـ20 مليار دولار، ولكن كل مشاريعها باءت بالفشل، وخاصة بعد الرفض السوري للمشروع الأخير.
حفر الاحتلال قبل انسحابه من قطاع غزة الآبار الضخمة على طول الحدود الشرقية للقطاع (الخط الفاصل بين الأراضي المحتلة وغزة)، مما أدى لتقليل منسوب المياه الجوفية لأكثر من النصف
توجيه الأنظار لمياه غزة
من هنا لجأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بمنتصف التسعينيات من القرن الماضي، لإنشاء مشاريع مائية بقطاع غزة، فعملت على إنشاء السدود على ضفاف وادي غزة التي تنبع مياهه من جبال الخليل بالضفة الغربية، ويعبر الحدود الشمالية الغربية من النقب وصولاً لوسط غزة، وذلك من أجل استغلال المياه لصالح الصحراء، فقد تم حرمان القطاع من أهم مصادر المياه العذبة، كما أوضح ماهر سالم مدير عام المياه والصرف الصحي ببلدية غزة.
وأكد سالم لـ”نون بوست” أن الاحتلال استبدل المياه العذبة التي تصب في الوادي بمياه المجاري التابعة للمستوطنات والمدن المحتلة، وقد أنشأ لهذه المجاري سدودًا خاصة بها يقوم بفتحها بكل مرة تمتلئ بها حتى تهوى بتدفق كبير على منازل الغزيين، وهو ما أدى إلى غرق مناطق بكاملها بالمياه ونزوح عدد كبير من سكانها مثل منطقة المغراقة وسط القطاع، مشيرًا إلى أن أمر الوادي كانت أهم المصادر التي حرمت غزة من مياهها العذبة.
كما حفر الاحتلال قبل انسحابه من قطاع غزة الآبار الضخمة على طول الحدود الشرقية للقطاع (الخط الفاصل بين الأراضي المحتلة وغزة)، مما أدى لتقليل منسوب المياه الجوفية لأكثر من النصف، ومع ضخ مياه البحر المالحة والملوثة بمياه المجاري بغزة للخزان الجوفي، تغيرت الطبيعة الكيميائية لمياه غزة، مما استجوب كارثة بيئية ممكن أن تؤثر على عدة أصعدة.
وأشار سالم إلى أن 97% من مياه الشرب بغزة غير صالحة للشرب، بسبب موجة من التغييرات الكيميائية طرأت عليه، فنسبة النترات بمياه غزة وصلت إلى 250 ملجم لكل لتر، في حين أن منظمة الصحة العالمية حذرت ألا تزيد على 50، كما وصلت نسبة الكلوريد إلى 1800 ملجم في اللتر، والمسموح به عالميًا فقط 250 ملجم، كما وصلت نسبة الأملاح بمياه غزة إلى أكثر من 11 ألف، في حين أن المسموح به أيضًا ألا يزيد على 300.
كانت الأمم المتحدة قد أعلنت أن قطاع غزة سيكون غير صالح للعيش خلال ثلاث سنوات ابتداءً من 2017، وفي عام 2020 سينتهي ما تبقى صالحًا من مياه الشرب التي لا تتعدى نسبتها 3%
سرقة المياه من غزة وإعادة بيعها لغزة
كما أن قطاع غزة يستهلك سنويًا 250 مليون متر مكعب من المياه، في حين يصل معدل المياه في الخزان الجوفي جراء الأمطار ومياه البحر إلى 100 مليون متر مكعب سنويًا، وتمثل مياه البحر والأمطار المصدران الرئيسيان حاليًّا للمياه الجوفية بغزة بعد فصل مياه الوادي عنها وسرقة مياهها الجوفية من “إسرائيل”.
كما أن “إسرائيل” تعيد بيع المياه المسروقة للقطاع بمعدل 55 مليون متر مكعب سنويًا، إذًا فهناك عجز ونقص بالمياه بمعدل 100 متر مكعب سنويًا، ويبلغ استعمال المواطن الغزي للمياه 60 لترًا يوميًا، في حين أن المستوطن الإسرائيلي يستعمل أكثر من 600 لتر يوميًا من مياه القطاع.
وإلى جانب ذلك فقد تسبب سكان غزة في تراكم أزمة المياه إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي كما أوضح سالم، وذلك من خلال حفر الآبار غير المرخصة في ظل غياب الإجراءات القانونية والعقابية بحق المخالفين لهذا الأمر، فحسب القانون الفلسطيني، فإن كل 5 دونمات (5000 متر مربع) يُسمح بحفر بئر مياه إن كان الأمر يحتاج لذلك فقط وبإشراف البلدية، ولكن الآبار أصبحت تُحفر بشكل مبالغ به، فكل 100 متر مربع يوجد بئر مياه، أي ما يعادل 50 بئرًا كل خمس دونمات.
كارثة صحية
كانت الأمم المتحدة قد أعلنت أن قطاع غزة سيكون غير صالح للعيش خلال ثلاث سنوات ابتداءً من 2017، وفي عام 2020 سينتهي ما تبقى صالحًا من مياه الشرب التي لا تتعدى نسبتها 3%، جاء ذلك بعدما أظهرت صور جوية كمية الفضلات ومياه الصرف الصحي في بحر غزة، حيث تمتد إلى أكثر من 30 ميلاً، فيما وصلت كميات كبيرة من هذه المجاري للمدن المحتلة وأهمها مدينة عسقلان، وعلى إثرها حذرت بلدية غزة ووزارة الصحة الفلسطينية سكان القطاع بعدم السباحة في البحر طيلة فترة الصيف، الأمر الذي لاقى معارضة من الشعب الغزي ولم يُبال بتلوث مياه البحر، كونه المتنفس الوحيد لهم في ظل الحصار الخانق، كما أعلنت سلطات الاحتلال الإسرائيلي توقفها عن سرقة مياه غزة وذلك لتمكين المياه الجوفية من استعادة عافيتها.
من هذه الأزمة جاء قرار السلطة الفلسطينية بتحلية مشاريع غزة بمشاريع دولية قبل حلول الكوارث
ونتج عن ذلك عدة أمراض سجلتها مشافي غزة، وخاصة مرض الفشل الكلوي، حيث أفاد الناطق باسم وزارة الصحة الفلسطينية الدكتور أشرف القدرة في حديث حاص لـ”نون بوست” بأن عدد مرضى الفشل الكلوي في قطاع غزة تعدى الـ700 حالة، ونسبة الإصابة به سنويًا تبلغ 15%، فيما فارق بعضهم الحياة نتيجة عدم توفر علاج لهم بمشافي غزة؛ مما يفاقم من هذا المرض ويجعل الخيار المفتوح أمامه هو الموت المحقق، في الوقت الذي ينعدم علاجه بمشافي غزة وحرمانهم من العلاج خارج الوطن، وبالمبالغ الخيالية التي من ممكن أن يتحملها على عاتقه في حال توفر علاج له.
كما أن قطاع الصحة بحاجة إلى أجهزة حديثة متخصصة بمرض الكلى، حيث يتم منع دخول مثل هذه الأجهزة من الاحتلال الإسرائيلي، فيما التحدي الأكبر هو انقطاع الأجهزة القديمة عن العمل بشكل مفاجئ نتيجة انقطاع تيار الكهرباء بشكل متكرر، حيث تصل ساعات وصلها يوميًا 3 ساعات مقابل 12 ساعة متواصلة من القطع.
حلول جذرية
من هنا جاءت قرارات الحكومة الفلسطينية تحت رئاسة الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الدكتور رامي الحمد الله، بتحلية مشاريع غزة بمشاريع دولية قبل حلول الكوارث، أهمها مشروع رفح الذي سيكلف نصف مليار دولار أمريكي، ومشروع الوسطى الذي سيكلف 650 مليون دولار، وقد عُقد له مؤتمر للدول المانحة في بروكسل في نهاية شهر فبراير الماضي، لتعد أول محطة تحلية مياه دولية بقطاع غزة.