ثمة تشابه لا يخفى بين إهانة وزير الخارجية الإماراتي ذكرى فخر الدين باشا، قائد حامية المدينة في الحرب الأولى، وإعلان السلطات المصرية تغيير اسم شارع سليم الأول، السلطان العثماني التاسع، في حي الزيتون بمدينة القاهرة. فالدوافع السياسية، سيما تلك المتعلقة بالخصومة المحتدمة بين الإمارات ومصر، من جهة، وتركيا، من جهة أخرى، تقف خلف الحادثتين.
لا وزير خارجية الإمارات عرف بخبرته في التاريخ العثماني، وتاريخ الحرب الأولى، ولا ذكرى فتح مصر على يد سليم الأول، في العقد الثاني من القرن السادس عشر، من القرب بحيث تؤثر على بنية الهوية الوطنية المصرية، أو رؤية المصريين لأنفسهم. ولكن هناك شيئاً من الاختلاف بين الحادثتين، أيضاً. ففي الجدل حول فخرالدين باشا، قام وزير الخارجية الإماراتي بإعادة تغريدة لشخص مجهول الهوية، حتى وإن اعتقد البعض أن له صلة ما بالإمارات، كتبت بصورة فجة، وقصد بها الإهانة أكثر من التعبير عن وجهة نظر.
في الحالة المصرية، جاء إعلان محافظ القاهرة الكبرى إلغاء اسم شارع سليم الأول مستندا إلى توصية مؤرخ واستاذ جامعي، قدم وجهة نظر، شبه علمية، في السلطان العثماني وذكراه.
السلطان العثماني لا يستحق إطلاق اسمه على شارع في مدينة القاهرة، أو أي مدينة مصرية أخرى. وهذا ما قبله المحافظ؛ الذي أعلن، في خطوة ديمقرطية نادرة، عن بدء مشاورات مع القاطنين في الشارع لاختيار اسم آخر!
طبقاً لدوائر محافظة القاهرة، السلطة الحكومية المحلية في العاصمة المصرية، بدأت المسألة باستجابة المحافظ لمذكرة وضعها أستاذ التاريخ «المعاصر» بجامعة حلوان، محمد صبري الدالي، قال فيها أن السلطان سليم الأول «أول مستعمر للبلاد (مصر)، أفقدها استقلالها وحولها مجرد ولاية من ولايات الدولة العثمانية»؛ وأنه «قام بقتل آلاف المصريين خلال دفاعهم عنها (مصر) وأعدم آخر سلطان مملوكي، وهو طومان باي، وحل الجيش المصري».
بذلك، فإن السلطان العثماني لا يستحق إطلاق اسمه على شارع في مدينة القاهرة، أو أي مدينة مصرية أخرى. وهذا ما قبله المحافظ؛ الذي أعلن، في خطوة ديمقرطية نادرة، عن بدء مشاورات مع القاطنين في الشارع لاختيار اسم آخر!
في حدود ما أعلم، لم يثر قرار محافظة القاهرة تغيير اسم الشارع أي نقاش عام خلال الأسابيع الأربعة التي مرت منذ إعلانه، لا في أوساط الإعلام ولا الأوساط الأكاديمية. في ظل ما تعيشه مصر الآن، ربما يمكن تفهم عدم اهتمام المصريين بهكذا مسألة. في بلاد يسيطر على مقاليد حكمها ضابط انقلابي فاشي، لم يترك صوتاً معارضاً إلا أخرسه، معتقلاً عشرات الألوف، بمحاكمة أو غير محاكمة، ومطلقاً العنان لأجهزته الأمنية لاغتيال المعارضين أو تغييبهم؛ بلاد يعيش مواطنوها كابوساً لا حد له من الأعباء الاقتصادية، فقدان وسائل المعاش، وغياب الأمل في المستقبل، يصعب أن يكترث أحد بقيام نظام الحكم بتغيير اسم شارع ما.
ولكن المسألة، تستحق، بالرغم من ذلك، بعضاً من الاهتمام، ليس لأبعادها السياسية، فهناك من السياسي ما هو أكثر أهمية بالفعل، ولكن للكيفية التي يستخدم فيها السياسي للعبث بالموروث، والتاريخي أداة لتحقيق أهداف سياسية قصيرة النظر.
قدم سليم الأول مصر غازياً، بالتأكيد، في ظروف صراع محتدم على مصير المشرق. ولدت الدولة العثمانية من أيديولوجيا الثغور الجهادية، وكانت اندفاعتها الرئيسية باتجاه الإمبراطورية البيزنطية وممالك البلقان غير المسلمة، متجنبة إلى حد كبير الصراع مع الممالك الإسلامية، سواء في الهضبة الإيرانية، العراق، أو بلاد الشام ومصر.
ولكن بروز الدولة الصفوية في إيران قوة تهديد للمجال العثماني، جيوسياسياً وطائفياً، أجبر السلطان العثماني، سليم الأول (حكم 1512 ـ 1520)، على الاستدارة لمواجهة المخاطر في الجوار الإسلامي. تعامل سليم الأول مع الصفويين، أولاً، وربما ما كان سيتوجه للمعركة مع المماليك لولا توفر أدلة على وجود تواطؤ مملوكي مع الصفويين. كانت السلطنة المملوكية قد جاوزت لحظة قوتها وازدهارها بعقود طوال، ولم يستطع المماليك الصمود طويلاً أمام القوة العثمانية الفتية، والمتقدمة تقنياً، لا في معركة مرج دابق بشمال سوريا، ولا على أبواب القاهرة في الريدانية.
ولكن، وحتى بعد دخول سليم الأول وقواته مدينة القاهرة، استمر طومان باي، آخر السلاطين المماليك، في المقاومة، منتهجاً ما يشبه حرب العصابات. وهذا ما جعل الغزو العثماني لمصر، سيما في أسابيعه الأولى، أكثر دموية، بخلاف الوضع في الشام، حيث رحب العلماء والأعيان بالسيطرة العثمانية.
بيد أن مصر لم ينظر لها آنذاك من منظار الهوية الوطنية أو القومية، لأن الهويات القومية لم تكن قد ولدت بعد، لا في مصر ولا في أي مكان آخر من العالم. في القرن السادس عشر، كان نظام العالم لم يزل يستند إلى الأطر الإمبراطورية أو السلطانية، متعددة الأعراق والجماعات، الإثنية والدينية والمذهبية. وقد شكلت الطبقات الحاكمة في هذه الإمبراطوريات والسلطنات من نخب محترفة، كما في الدولتين العثمانية والمملوكية، أو الأتباع المؤدلجين، كما في الدولة الصفوية.
هؤلاء من صنعوا تاريخ مصر، من شكلوا ميراثها ومنحوها ملامحها عبر القرون
معركة السيطرة العثمانية على مصر لم تكن في جوهرها معركة بين السلطان والشعب المصري، بل بين جند عثمانيين مسلحين ومماليك مسلحين؛ وأغلبية الجند العثمانيين لم يكونوا أتراكاً، كما أن المماليك لم يكونوا مصريين، لا بالمعنى الإثني ولا بالمعنى القومي الحديث. المصريون، الأهالي من السكان، لم يلعبوا دوراً فاعلاً في الحرب ولا كانوا هدفاً لها؛ وإن سقط منهم ضحايا، فقد سقطوا بفعل بشاعة معارك المدن، أو لولاء أعداد قليلة منهم للمماليك. والمماليك لم يدافعوا عن مصر واستقلالها، لا عن هوية مصر القومية، ولا عن سيادة قرارها الوطني. مصر، بالنسبة للمماليك، كانت ملكاً وغنيمة، وما إن أقرت السلطة العثمانية الجديدة امتيازاتهم، حتى عادوا للعب دورهم السابق، وحكم مصر وإدارتها باسم السلطنة العثمانية.
إن غاب هذا التاريخ عن رجل السلطة، محافظ القاهرة، فكيف غاب عن الأستاذ الجامعي؟ ولكن هناك ما هو أكثر إثارة للدهشة. فسليم الأول ليس غازي مصر الوحيد الذي أطلق اسمه على أحد الشوارع، أو الشواهد الرئيسية، بمدينة مصرية كبرى. شارعان في حيين في مدينة القاهرة يحملان اسم قمبيز، الإمبراطور الفارسي، الذي غزا مصر وسيطر عليها في القرن السادس قبل الميلاد؛ وشارع بمدينة الاسكندرية يحمل اسم الاسكندر الأكبر، الغازي المقدوني لمصر، ومن وضع نهاية لعصرها الفرعوني؛ بل إن اسم الاسكندرية نفسها معطوف على الأمبراطور المقدوني الأسطوري.
كما أن شارعاً بارزاً بجوار الجامع الأزهر، يحمل اسم القائد جوهر، الصقلي، الذي سيطر على مصر باسم الفاطميين. أول مساجد مصر وأكبرها هو، بالطبع، مسجد عمرو بن العاص، الفاتح العربي ـ المسلم لمصر؛ كما يحمل مسجد آخر، ثالث مساجد مصر الجامعة، الذي يعتبر أحد أجمل مساجد القاهرة وأعقدها عمارة، اسم ابن طولون، الوالي العسكري العباسي، من أصول تركية. محمد علي، الذي يسمى أحياناً مؤسس مصر الحديثة، لم يكن مصرياً؛ ولا كان كل حكام منذ نهاية العصر الفرعوني، حتى انقلاب تموز/يوليو 1952. فهل يتم حذف كل هذه الأسماء من شوارع مصر وشواهدها؟
هؤلاء من صنعوا تاريخ مصر، من شكلوا ميراثها ومنحوها ملامحها عبر القرون. كونهم غير مصريين نشأة، ولماذا جاءوا إلى مصر، لابد أن يكون شغل المؤرخ ومادة غرف الدرس. أما طمس أسمائهم، بدوافع سياسية بحتة، والاعتقاد بأن تغيير أسماء الشوارع يغير التاريخ، فليس سوى إجراء بربري ساذج.