لا تكف وسائل الإعلام عن نقل صور الموت والهدم في قطاع غزة، فهذه الأخبار لا يمكنها أن تنكر الواقع المرير الذي يعيشه أهالي هذه المدينة منذ سنوات طويلة لا تنتهي، فلم تترك جرائم الاحتلال والحروب المتتالية والحصار وإغلاق المعبر المستمر والانقسام المهلك فرصة لهذا المكان لينتعش أو يرينا الجانب المشرق منه ويعرفنا على تاريخه العريق الذي تسابقت العديد من الحضارات القديمة كالفراعنة والإغريق والرومان والبيزنطيين والعثمانيين، في إثرائها تاريخيًا وتراثيًا.
حيث توجد فيها بعض أهم المعالم التاريخية التي وثقت أسماء شخصيات بارزة في تلك الحقبة، كما اختلف اسمها باختلاف الأمم التي صارعت على حكمها، فمثلًا أطلق الفراعنة عليها اسم “غزاتو”، أما الكنعانيون اختاروا اسم “هزاتي”، والآشوريون واليونانيون أسموها “عزاتي” و”فازا”، والصليبيون أسموها “غادرز”، وغيرها الكثير من الأسماء.
لا تبشر المستجدات الحاليّة بأي بصيص أمل قد يشفي أهالي غزة مما فقدوه أو يوعدهم بمستقبل أفضل، لكن بعيدًا عن السياسة والحقائق البشعة سوف نعرض أهم الأماكن السياحية والتاريخية التي يمكن زيارتها في غزة لو لم تكن تحت الحصار.
المسجد العمري الكبير
أطلق هذا الاسم عليه تكريمًا للخليفة عمر بن الخطاب، وسمي بالكبير لأنه أكبر جامع في غزة، إذ كان بالبداية معبدًا دينيًا في عهد الرومان ثم حوله البيزنطيون إلى كنيسة القديس يوحنا في القرن الخامس الميلادي، وبعد الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي حوله المسلمون إلى مسجد، وأصيب بأضرار بالغة بعد القصف البريطاني في أثناء الحرب العالمية الأولى، وفي عام 1925 قام المجلس الإسلامي الأعلى بترميمه، ويذكر أن الدولة العثمانية من أكثر الدول التي اهتمت بهذا المعلم.
يقع الجامع الكبير في حي الدرج في البلدة القديمة وتبلغ مساحته نحو 44.132 قدم مربعة، فهو يتسع لنحو ثلاثة آلاف مصل، ويضم في طابقه الأول قاعة رئيسية للصلاة ومصلى للنساء، أما طابقه العلوي ففيه مدرسة لتعليم القرآن الكريم، بينما يحتوي الطابق السفلي على قاعة استقبال، وقاعة أثرية يتعدى عمرها ألفي عام مجهزة لتكون متحفًا إسلاميًا، بالإضافة لاحتوائه على ثالث أكبر مكتبة إسلامية في فلسطين، فالمكتبة فيها 132 مخطوطة، تعود أقدمها لسنة 920 هجريًا، بالإضافة إلى مجموعة من الدواوين النادرة مثل ديوان الغزي ابن قزاعة.
كما يضم المسجد نحو 400 بيت أثري، منها 32 تعود إلى فترة حكم المماليك والعثمانيين، وتزينه الأقواس الدائرية، ويزدحم هذا المسجد في شهر رمضان وخلال الرحلات المدرسية الترفيهية، وهذه الزيارة تضمن للسائح أو الزائر رحلة تاريخية غنية لموقعه الذي يحيط بعدة أماكن تاريخية أخرى.
حمام السمرة
تشير النقوش التي رسمت على لوحة رخامية بداخل هذا الحمام إلى أن أول ترميم له يعود إلى زمن العهد المملوكي، عندما قام الملك سنجر بن عبد الله المؤيدي بتجديده عام 658 هجريًا، فعند الدخول لأروقته يمكنك استشعار الألف عام التي مرت على هذا المكان، فهو يعتبر أحد النماذج القديمة للحمامات العثمانية وثاني أكبر وأهم معلم أثري في القطاع – بعد الجامع العمري الكبير – لأنه الحمام الوحيد الذي يعمل حتى الآن.
يرتاد هذا الحمام كل من الرجال والنساء لكن بشكل منفصل ودوري، فالفترة الصباحية والمسائية مخصصة للرجال، وفترة الظهيرة للنساء، ويزوره الناس عادةً للتخلص من متاعب وضغوط الحياة اليومية، أو احتفالًا في المناسبات الاجتماعية مثل الزواج.
ويتكون الحمام من سرداب طويل يهبط بك من الخارج إلى أرضية الحمام التي تقابلها ساحة مفتوحة مزينة بقبة فيها فراغات وفتحات مستديرة مزينة بالزجاج الملون الذي يسمح للضوء بالنفاد، ينتقل منها الشخص إلى الغرفة الدافئة التي تهيئه للدخول إلى المغطس الساخن، وهو عبارة عن حوض صغير من الماء الساخن، تتراوح درجة حرارته بين 40 و50 درجة مئوية.
تتوسط القاعة الرئيسية نافورة مياه متصلة بممر يقود إلى حمام البخار الساخن والاستراحة الداخلية وغرفة التدليك، وتزين الغرفة بالأواني الفخارية والمطرزات التراثية الفلسطينية وتستخدم كغرفة استراحة بعد الفراغ من الاستحمام، ويوجد سلم صغير تشاهد من خلاله القباب الصغيرة وكميات الأخشاب والحطب المجهزة لاستخدامها في تسخين المياه والأرضيات.
فهذا الحمام يضمن حصول الزائر على أوقات لطيفة من الاسترخاء والاستجمام، علاوة على الاستفادة من فوائده الطبية مثل تنشيط الدورة الدموية وعلاج التقلصات العضلية وتنظيف الجسد من الشوائب داخل أقدم الحمامات في المدينة.
سوق القيسارية
يعرف أيضًا باسم سوق الذهب، وهو عبارة عن ممر ضيق للغاية، سقفه مقبب على هيئة أقواس، وعلى جوانبه محلات تشبه الأقبية صغيرة الحجم على غرف متلاصقة وجاء اسم السوق من القيساريات، أحد أشكال المنشآت التجارية التي عرفت في العصر الروماني واستمر إنشاؤها في العصور الإسلامية لدورها الفعال في الصناعة أو بسبب الاستفادة منها كبيوت مؤقتة لبعض العائلات الفقيرة، وهي أشبه بالخان الصغير الذي يحتوي على معامل ودكاكين صغيرة.
يعرف أن السوق مر بمراحل وتحولات تاريخية مختلفة، ففي البداية كان إسطبلاً لخيول الجنود، ومن ثم تحول إلى مركز لبيع ودمغ الجلود وبيع وحياكة الأحذية، إلى أن أصبح مركزًا لتداول وبيع وشراء الذهب وموقع لصرف العملات، بعد هجرة الفلسطينيين من قراهم وبلادهم بعد النكبة، حتى تضاعف عدد محال بيع الذهب وازدادت قيمة السوق التراثية مع تدفق حركة البضائع والناس إليه، لكن الوضع الاقتصادي الأخير أثر سلبيًا على نشاطه التجاري، لكن لا تزال ممراته الضيقة وأجوائه الحيوية فرصة للتعرف على الحياة الشعبية لهذا البلد.
قصر الباشا
يعود هذا المبنى إلى العصر المملوكي زمن الظاهر بيبرس الذي اتخذ هذا المبنى مقرًا له عقب خلاف الملكة شجرة الدر وعز الدين أيبك وقبل أن يواجه التتار وسمي في تلك الفترة باسم قصر النائب، وبعد انتهاء حكم المماليك، تغير اسمه إلى دار السعادة أو الباشا نسبة إلى البشوات الذين كانوا يتولون الحكم في غزة، ولاحقًا استخدم كمركز للشرطة ومقر للقائد العسكري في زمن الانتداب البريطاني، واستمد شهرته وقيمته الأثرية عندما أمضى فيه نابليون بونابرت ثلاث ليالٍ خلال حملته على مصر وسوريا في العام 1799، ومن هنا جاء اسمها الثاني “قلعة نابليون”.
قديمًا، كان القصر يضم مباني أخرى مثل مبنى الحريم أو الحرملك ومسجد خاص بالقصر، إضافة إلى حجرة ضيقة تحت الأرض، كانت تستخدم كسجن للنساء في العهد اليوناني، ومن خلال نفس البوابة درج إلى أسفل القبو يوجد سجن للرجال، وفي كلا المكانين شبابيك بنيت بغرض إدخال ضوء الشمس إلى الحجر.
أكثر ما يتميز به القصر هو واجهاته المليئة بالزخارف والأسود المتقابلة على البوابة وهي الشعار الخاص بالدولة المملوكية وبالأخص بالظاهر بيبرس التي كانت تسمى بـ”رنك بيبرس” آنذاك.
من الداخل، يتكون القصر من مبنيين منفصلين، يشكلان فيما بينهما ساحة وسطية بخلاف الساحة الرئيسية للمبنى، ويتكون كل مبنى من طابقين، فالمبنى الكبير الشمالي كان يستخدم مقرًا للحكم واحتوى على مداخل على هيئة أطباق نجمية وتزينه بعض الزخارف النباتية والهندسية التي استخدم فيها الأحجار الجيرية والرخامية الملونة.
ويتكون الطابق الأول، من ثلاث غرف خصصت لاستقبال زائري الحاكم، وعند الانتقال إلى الطابق الثاني المكون من غرفتين عبر درج خارجي نجد الغرفة الكبرى وهي ديوان الحكم، حيث يجلس الأمير ومن حوله حاشيته ورعاياه، ومنها درج إلى أعلى سطح المبني يطل على مدينة غزة بالكامل عبر درج رخامي ومن فوقه قبة مخروطية جميلة، أما الغرفة الأخرى فقد كانت تخصص لاستراحته.
أما في الجهة الجنوبية المقابلة للمبني الرئيسي فيقع المبنى الثاني بالقصر الذي كان مخصصًا للحرس والعسكر، ويتكون من غرفتين وسطح، يسمح بالإطلال على المكان المجاور للمراقبة، وبه غرفة أخرى خصصت كسجن أيضًا، وتدل الدراسات التي أجريت أن هناك قبوًا أسفل هذا المبني اندثر مع الزمن وغطي بالأتربة والطريق، ويحتاج إلى إعادة ترميم لأنه بالتأكيد يحتوي على الكنوز الأثرية التي يمكنها أن تضيف قيمة تاريخية جديدة على هذا المكان.
قبل نحو خمسة أعوام، تم تحويل القصر إلى متحف، وأصبحت حجراته مركزًا للمكتشفات الأثرية التي جمعت من كل أماكن قطاع غزة، بينها عملات معدنية وألواح لتوابيت وأدوات زينة وفخاريات وزعت على خمس صالات عرض رئيسية أطلق عليها أسماء مدن عريقة في فلسطين التاريخية، فمثلًا في الطابق الأرضي قاعة حيفا ويعرض فيها المكتشفات اليونانية والبيزنطية، التي امتاز فيها العصر اليوناني بدقة المشغولات الفنية.
أما قاعة يافا، فتحتوي على الآثار الرومانية التي شكلت الفخاريات الجزء الأكبر منها، وبجوارها تقع قاعة القدس التي احتوت على الآثار في العصور الإسلامية على اختلاف الممالك والولايات الحاكمة، وفي الطابق العلوي، تقع قاعة عكا التي تعتبر بانوراما المتحف حيث تتنوع معروضاتها بدءًا من العصر الحجري إلى البرونزي فالكنعاني ثم الحديدي.
وأخيرًا قاعة الرملة التي تعتبر قاعة المرأة لمحتوياتها التي تحكي قصة جمال المرأة على مر العصور، حيث يعرض فيها أدوات الزينة والحلي مصنوعة من البرونز والعاج، وقوارير زجاجية كانت تستخدم للعطور وتماثيل مصنوعة من الرصاص لأسود كانت تزين أبواب منازل الوجهاء والقادة.
كنيسة برفيريوس
سميت برفيريوس نسبة إلى القديس اليوناني الذي بناها في القرن الخامس الميلادي بعد أن جاء إلى فلسطين واستقر في القدس، لكنه عاد إلى القسطنطينية ليطلب من الإمبراطورة أفدويسكا بناء كنيسة في القطاع حتى ساعدته على إنشائها، ليدفن بعد ذلك فيها في الزاوية الشمالية الشرقية للكنيسة، فعند الدخول من الباب ترى اسم القديس يتصدر البهو، يحتفل المسيحيون في غزة بعيد هذا القديس في اليوم العاشر من الشهر الثالث من كل عام.
تنتمي إلى الكنيسة الرومانية الأرثوذوكسية، ولا يفصلها عن مسجد كاتب ولاية إلا جدار قديم وتمتد على مساحة تصل إلى 200 متر مربع، تحدها من الجهة الشمالية مقبرة تعود إلى عام 1790، ويدفن فيها المسيحيين أمواتهم، أنشأت هذه الكنيسة من عام 402 ميلادي وحتى 407، إذ استغرقت عملية بنائها نحو خمس سنوات.
يكمن الجمال المعماري في هذه الكنيسة في الألواح الرخامية والأعمدة الرخامية والحجارة الرملية التي صممت على شكل هندسي دائري ويزيد عمرها على مئات الأعوام، وتزين جدرانها رسومات مختلفة لشخصيات مسيحية مثل القديسة هيلانة وابنها قسطنطين، إضافة إلى الرموز الدينية.
عند زيارة هذه الكنيسة، يمكن الاستمتاع بمشهد تقارب الصليب والهلال، والشعور بمدى تسامح سكان هذه المدينة الذين لا يفرقون بين المسلم والمسيحي.
أما بالنسبة إلى الجانب الأكثر حداثة في القطاع، فيوجد نحو 430 مطعمًا حاصلاً على شهادة مزاولة مهنة، والمسجلون لدى هيئة الفنادق والمطاعم نحو 120 مطعمًا، حيث تستحوذ مدينة غزة على العدد الأكبر منها، بالإضافة إلى 17 فندقًا لا تشغل سوى 2% من غرفه بسبب اشتداد الحصار الإسرائيلي على القطاع، لكن لا شك أن هذه الأماكن ما زالت توفر أجواءً مريحة وجميلة لأهلها، خاصة بسبب مواقعها القريبة من الساحل والميناء الذي يعتبر أهم متنفس للسكان.