حفل صاخب بأغان قديمة لفنان مستهلك عاجز عن التجدد في كل موسم، ترافقه موجة من التفاعلات المتحمسة لفنه ومنها مشاركته الرقص على الرّكح والاقتراب من شخصه إلى حد الالتصاق والعناق، موجة الحماس تثير موجة من النقد الشرس ضد الفنان وفنه وضد المتحمسين وخاصة المتحمسات إلى حد الالتصاق.
تتخذ موجة النقد منحى أخلاقيًا، فترد موجة الحماس بموجة عناد وينتقل الحديث إلى صراع أصالة ضد حداثة ومن الباطن تقدمية ضد رجعية، حدث هذا في تونس في أصياف كثيرة، ويحدث مثله في مسارح عربية أخرى، وقد التحقت بلاد الحرمين مؤخرًا بالموجة، ويغيب في الزحمة سؤال مهم: هل هذا تحديث مشوه وغير أخلاقي أم أنه هو التحديث بصيغته اليتيمة؟ نحاول المساهمة في النقاش لعل نتبيّن الطريق.
الاختلاف حول الطرب ليس جديدًا
الميل إلى الطرب ليس واحدًا عند كل الناس، والثقافة الدينية وضعت دومًا حواجز في تقبل أنواع منه وحكمت عليه، لكن الناس لم يرتدعوا وظل هناك “طربيون” يبحثون عن الملهاة في أي مكان وبأي وسيلة، وظل هناك “متزمتون” يرفضون ويقيسون أخلاق الناس. إذن ليس هذا موضوع النقاش الحقيقي.
المظاهر المرافقة للعرض الحديث كمشاركة الفنان الركح والتغنج له علانية أو حتى التعري له رمزيًا برميه بالملابس الداخلية على رؤوس الملأ، أو كغرام سيدة حصان بفنان يقودها زوجها إلى وراء الكواليس لعناق الفنان المغني والبكاء بين يديه هيامًا به، هذه المظاهر لا تمر دون أسئلة عن المرجعية الأخلاقية للأسرة الحديثة. هذه الأسئلة قريبة جدًا من الأسئلة التي يطرحها المتزمتون، لكننا لا نرد عليها بأحكام وفتاوى، بل نبحث خلفها عن تصور العالم في الزمن الحديث وعن نمط التربية المتبع. وعن غيرة الرجل وعن حفظ البيت والأسرة.
لقد تغيرت الأسرة (ونهتم هنا بالأسرة العربية المسلمة) وتغير نمط التفكير الذي تقام عليه، لكن هل تم اختراع نمط من الداخل الثقافي القديم أم تم استدعاء نمط خارجي مبني على أسس مختلفة؟ نظن أن المعضلة تكمن هنا في المرجعيات التحديثية.
التغيرات اجتماعية أولًا (تحولات من مجتمع ريفي زراعي متماسك حول الجد والنسب إلى أسرة نواه تقوم على مصدر دخل مستقل صناعي أو تجاري) ثم لحقت بها أنماط تفكير هنا بدأت الاستعارة من نمط التحديث الغربي فصار مثالًا وقدوة.
نمط تفكيك الأسرة
نمط تحديث المجتمعات ثقافيًا كما نلاحظه في الغرب الأوروبي تخلى عن الأسرة لصالح الفرد. في مراحله الأخيرة نشهد الفرد الذي يعيش لنفسه ويتمتع بدخله ويكيف حياته على فردانيته بما في ذلك نمط السلوك والمرجعيات الأخلاقية التي يسير عليها. إن الإنجاب وتربية الأبناء تصير أمورًا ثانوية بإطراد حتى إن الحكومات تعاني من توقف النمو الديموغرافي وتتبع سياسات تشجيع على الإنجاب ولو خارج الأسرة بنية ترميم بنية السكان والتصدي للهجرة، فهي تشاهد نهاية مجتمعاتها واستبدال متأن بشعوب وافدة.
في هذا التوجه الفرداني تصبح سلوكيات مثل الغيرة والحرص على الشرف وصيانة العرض سلوكيات مفوتة بمرجعيات أخلاقية متخلفة وغير ذات فائدة للفرد، ومن هنا يتسرب التصريح بالإعجاب بالغير إلى حد عرض النفس عليه، وهذه سيرة الغربيين عامة والغربيات خاصة مع نجوم الفن والرياضة، فهم الأيقونات الجديدة وأهداف الحب والتعلق. دون طرح السؤال هل يجوز ذلك؟ لقد تمت إجازته وصار معيارًا سلوكيًا يوصف بالتحرر مرادف التقدم.
تحديث الفن العربي وإعادة تنشيط المسارح والعروض المفتوحة للجمهور (بعد أن كان الفن حبيس القصور مقصورًا على علية من قوم يكتمون مظاهره) جلب معه نفس الغرام بالفنان وصار هدفًا للتعلق والعشق بمظاهر لا تمت إلى المرجعيات الأخلاقية التقليدية بصلة، وبالنظر إلى ما قدمناه من ذكر التغير الاجتماعي فإن هذا توجه فرداني يصلنا كحتمية سلوكية ضمن باقة التغيير الاجتماعي والثقافي (الأخلاقي المرجعي) التي طرأت على الغرب واستحسنها ويعيشها بامتلاء، لكن هل أن هذه الباقة حتمية ويجب الاستسلام لها وعيشها بنفس الطريقة الغربية؟
تمزق المرجعيات
ما زالت الأسرة العربية/التونسية تربي الأبناء على فكرة الأسرة وترسخ رغم التحديث أن كل فتاة هي مشروع زوجة وأم وربة بيت بما يتبع ذلك من غيرة وتملك وصون للعرض، والفتى الصالح هو فتى يتزوج ويبني أسرة، وفي خلاف ذلك فهما فاسدان، لكن كيف يقود زوج زوجته لمعانقة رجل آخر ويعرب عن سعادته؟ (وما نستشهد به ليس حالة فردية إنما اكتفينا بما جلبت لنا الكاميرا).
هنا يظهر التمزق المرجعي في الأسرة العربية، فهي ليست أسرة تقليدية والمرجعية الأخلاقية لا تقوم فيها ولكنها مبقية رغم ذلك على شكل الأسرة. إنها أسرة تنفر من وصف المحافظة وتعيش حداثتها ولكن هل هي حداثتها أم سلعة وجدتها في سوق المرجعيات؟
لم يرتق الفرد العربي إلى اعتناق فردانيته بشكل كامل، لكنه لم يعد يستريح في مرجعيته التقليدية ذات المرجع الديني. (هناك مقاومة شرسة لهذا التوجه الفرادني لكنها مقاومة بلا مقترحات مغرية) لذلك نراه يسير بلا توقف في هذا الاتجاه ضمن استيعابه بوعي أو دونه لباقة التحديث الغربية، فالأمر عنده أقرب إلى اتباع موضة ملابس أو سيارات أو هواتف. يقتني ويستهلك ولا يسأل هل هذا هو الصواب؟ فإذا جوبه بخطاب مقاوم يصر على تقدميته وحداثته وينعت المقاومة الاجتماعية بالمحافظة والرجعية. (تترجم هذه المواقف بحركات سياسية وتخوض صراعات على السلطة ويدخل الفن في أدواتها الحربية وذلك منذ بواكير استقلال الدول العربية عن الاحتلالات المباشرة).
أجلى مظاهر هذا التمزق المرجعي نقرأه في حديث المرأة التونسية، فهي متعلمة ومتحررة وعاملة ومستقلة وتقرر لنفسها، لكنها تود أن تكون سيدة بيت وأم وتغار على زوجها غيرة مرضية وتقاتل بشراسة ضد التعدد، وهي نفسها من تعمل على أن يرافقها زوجها لتعانق راغب علامة في الكواليس، واحدة فقط تجرأت لكنها حققت شهوة الكثيرات، كيف تجمع بين فردانيتها ومحافظتها؟ هذا هو التمزق الكامن خلف مظاهر الاحتفال والقبلات المرسلة ورمي الفنانين بالملابس الداخلية.
هل هذا هو التحديث أم هذا تحديث هجين وافد مع بقية السلع الغربية الممتعة كالسيارة والهاتف؟ لم أصل بالقارئ إلى إجابة شافية لذلك سأحيله إلى غزة الطوفان، فمن هناك بدأ تحديث مختلف وسيكون له صدى في الأزمنة. لقد بدأ الصراع واستهلك وقتًا وجهدًا بين نموذج أبي عبيدة ونموذج راغب علامة.