يعاني السودان، بعد تمرد ميليشيا الدعم السريع، قبل أكثر من عام، صمتًا سياسيًا وإعلاميًا مخجلًا ومعيبًا، عربيًا وإسلاميًا ودوليًا، بما لا يتوافق مع خطورة التمرد والحرب وتداعياتها على الإقليم والمنطقة.
كما لا يتوافق مع أيادي السودان البيضاء تجاه القضايا العربية والإسلامية، وحقه في الوقوف بصفه إلى حين انكشاف محنته، وفي الحد الأدنى رفع الصوت عاليًا سياسيًا وإعلاميًا عبر الوسائل المختلفة، الكلاسيكي والحداثي، للفت الانتباه إلى الحرب وتداعياتها الإنسانية المروعة، وعلى الأقل قراءتها بشكل صحيح بعيدًا عن الاستسهال أو الاستخفاف والتبسيط والتسطيح المتعمد في بعض الأحيان، لتبرير التجاهل والنأي بالنفس عمّا يجري في البلد العربي الإسلامي الأفريقي العزيز.
صمت غربي دولي
بداية وفي السياق السياسي والإعلامي والدولي، قال الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما ذات مرة، أثناء تظاهرة منددة بجرائم التطهير العرقي بإقليم دارفور عام 2005 التي ارتكبتها ميليشيا الجنجويد -الدعم السريع حاليًا-: “إذا اهتممنا سيهتم العالم وإذا تحركنا سيتبعنا العالم”، في إشارة إلى المكانة العالمية المركزية للولايات المتحدة، مع الانتباه إلى أنها تتآكل وتتراجع بشكل تدريجي وبطيء ومتواصل في السنوات والعقود الأخيرة، لكن دون أن ينال هذا بشكل جدّي وكبير من التأثير العالمي الكبير لواشنطن، وقدرتها على فرض ما تريده على أجندة الاهتمام والبحث الدولية.
إذًا، الصمت السياسي والإعلامي والدولي يعود في جانب مهم منه إلى تجاهل الولايات المتحدة للحدث السوداني، وذلك لعدة أسباب منها الانكفاء عن المنطقة لصالح التوجه شرقًا نحو قارة آسيا، بعد تأمين مصالحها الاستراتيجية حتى مع تدمير المنطقة وعصر ثرواتها ومقدراتها لآخر نقطة.
إلى ذلك، نحن أمام تطبيق أمريكي لقاعدة عدم التدخل في الصراعات الإقليمية والعالمية، وتركها تأخذ مداها، وإدارتها بدل حلّها، طالما أنها لا تؤثر سلبًا على مصالح أمريكا وحلفائها المهمين والاستراتيجيين الحقيقيين بالعالم، مثل “إسرائيل” وأوروبا وكندا.
في البُعد السوداني المباشر، كانت الولايات المتحدة تعرف دومًا مكامن قوة البلد المتعددة الجوانب، وأنه مثّل تاريخيًا قوة مضافة للعرب والمسلمين وأفريقيا والعالم الثالث، وبالتالي إن استنزافه وتحجميه يصبّان حكمًا لصالح الولايات المتحدة والغرب الراغبَين في الهيمنة ونهب واستغلال ثروات الشعوب، وهو ما ينطبق بالتأكيد على الحالة السودانية الثرية.
في سياق عالمي أوسع، لا شكّ أن المجتمع الدولي المتنفذ، سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا، يتبع الولايات المتحدة فعلًا كما قال أوباما عن حق السيناتور باراك أوباما عام 2005، قبل أن يصبح رئيسًا عام 2008، حيث خدم معظم أركان الإدارة الحالية معه في ولايتَيه الرئاسيتَين 2008- 2016، ما يفسّر هذا الصمت والتجاهل الدولي تجاه الحرب والتطورات والمستجدات في السودان.
دوليًا، وفيما يخص الأمم المتحدة، لا تزال واشنطن قادرة على فرض أجندتها، ما يقدم تفسيرًا لشلل المنظمة الدولية وعجزها عن اتخاذ موقف جدّي من الحرب بالسودان، مع استسهال الحديث عن طرفَي النزاع بعيدًا عن تسمية الأشياء بأسمائها.
هذا يحدث رغم صدور تقارير أممية رسمية عن المنظمة الدولية المتحدة، تؤكد تسليح متمردي الدعم السريع من قوى خارجية بشكل غير شرعي، وبما يفاقم الحرب والمعاناة في السودان، ورغم ذلك لم نرَ أبدًا تحركًا ملموسًا وفعّالًا من مجلس الأمن، بينما منعت بريطانيا العضو الدائم إجراء نقاش جدّي في المجلس كما الهيئات والمؤسسات الأخرى في الأمم المتحدة.
ومن جهة أخرى، ورغم المواقف الجديدة بالعموم لروسيا والصين، إلا أنها لم تسعَ جدّيًا لفرض القضية السودانية على الأجندة الدولية مع تحرك روسي محمود وإيجابي بالفترة الأخيرة، لكن لم تتضح معالمه أو آفاقه النهائية بعد.
غيبوبة عربية
وبالعموم، يمكن وضع التجاهل الأمريكي الغربي الدولي المرفوض والمستهجن وغير المستغرب في سياقاته المختلفة، كما ذُكر آنفًا، أما المرفوض والمستغرب والمستهجن فهذا الصمت العربي الإسلامي والإعلامي المدوي رسميًا وغير رسمي، رغم التعاطف الجماهيري والشعبي الكبير، وبما لا يليق مع أهمية السودان وثرواته وقدراته البشرية والمادية.
وبما لا يليق أيضًا مع أياديه البيضاء تجاه القضايا العربية والإسلامية والأفريقية، وإيواء وإغاثة مئات الآلاف بل ملايين اللاجئين عبر السنوات والعقود الماضية وحضوره الإيجابي في الأزمات العربية والإسلامية والأفريقية، خاصة أنه مثّل تاريخيًا جسرًا عربيًا وإسلاميًا نحو القارة السمراء، وكان بمثابة حائط صدّ بوجه التوغل الإسرائيلي واستغلال القارة لتنفيذ أجندة معادية للسودان وبالتبعية والضرورة للعرب والمسلمين والقارة نفسها بشكل عام.
وبتفصيل أكثر وفيما يخص الجامعة العربية، فقد جاء موقفها مستهجنًا كونها لم تتحرك جديًا ولم تعقد اجتماع قمة خاصًّا ورفيعًا حول السودان، ولم تبادر حتى إلى تشكيل لجنة معنية بالملف أو حتى تعيين مبعوث للملف السوداني كما فعلت الأمم المتحدة مثلًا ولو من باب رفع العتب، ما يؤكد من جهة أخرى شلل الجامعة وأزماتها البنيوية، وعجزها عن التدخل الفعّال في قضايا عربية رئيسية ومركزية.
هذا يعود بشكل رئيسي إلى انهيار القوى العربية المركزية بعد احتلال حواضرنا ومدننا التاريخية والكبرى في دمشق وبغداد، وتدمير حلب والموصل واختطاف القاهرة، بينما تفتقد المنظومة العربية برمتها تقريبًا الشرعية الشعبية بالداخل، وتبحث عنها لدى القوى الخارجية المتنفذة خاصة الغربية -أمريكا وأوروبا-، والتي لا تملك مصلحة في التدخل الإيجابي بل تبدو راغبة في تأجيج الأزمة السودانية الداخلية طالما أنها لا تفيض على المنطقة والعالم أو تؤثر سلبًا على المصالح الغربية والدولية، بينما يفترض أن العكس صحيح في الحالة العربية.
رغم ذلك، ثمة مواقف سياسية جيدة ولو نظريًا للسعودية ومصر والجزائر، لجهة تفهُّم خطورة ما يجري بالسودان وتداعيته السلبية على المصالح والأمن القومي العربي، ودعم القيادة الشرعية ووحدة وسيادة البلاد وسلامة أراضيها، لكن دون أنياب وترجمة فعلية لتلك المواقف ودفع جدّي باتجاه إنهاء الحرب والعودة للحوار ومسار الانتقال الدستوري الديمقراطي السياسي، باعتبار ذلك مصلحة حيوية للسودان ومحيطه مع استحالة العودة للوراء إلى مرحلة ما قبل سقوط نظام عمر البشير.
شيء مماثل يمكن قوله عن منظمة التعاون الإسلامي، التي يتمتع فيها العرب بنفوذ كبير مع قدرتهم على فرض ووضع ما يريدون على أجندة المنظمة.
بناءً عليه، يبدو صمت الإعلام العربي الرسمي التابع للأنظمة وموقفه المخزي تجاه السودان وشؤونه، انعكاسًا طبيعيًا لمواقف المنظومة الرسمية كلها، بينما يبدو مفاجئًا وغريبًا موقف الإعلام المعارض والمستقل -بشكله القديم والجديد- الذي لم يقم بدوره المطلوب تجاه السودان، مع حديث عام وتعاطٍ تقليدي وحتى خجول ودون اهتمام مركزي، إذ لم يحتل الأولوية بالتغطية والتركيز رغم أن التمرد بدأ قبل الحرب الإسرائيلية على غزة، التي على أهميتها ومركزيتها لا تمثل مبررًا لتجاهل المحنة السودانية.