في 3 يونيو/حزيران عام 2013، فوجئ المصريون بإذاعة تسريب لاجتماع رئاسي عقده الرئيس المصري آنذاك محمد مرسي مع عدد من الساسة وقادة الرأي في مصر، لمناقشة مخاطر مشروع سد النهضة الإثيوبي، وتضمن الاجتماع – الذي لا يُعرف حتى اليوم هوية من سربه – بعض النقاشات المتعلقة بإجهاض هذا المشروع ولو عبر القوة مهما كانت النتائج السياسية المترتبة على ذلك.
ورغم عدم شروع أديس أبابا وقتها في بناء السد الذي كان مجرد خطط وأفكار لم تدخل حيز التنفيذ، فإن التسريب وضع الدولة المصرية في حرج كبير مع إثيوبيا والسودان على حد سواء، الأمر الذي تم تضخيمه وقتها بشأن عدم قدرة مرسي ونظامه على إدارة هذا الملف وتعريض أمن مصر المائي للخطر، وكان هذا الملف أحد الملفات الرئيسية التي رفعها المشاركون في تظاهرات 30 يونيو/حزيران بوصفه سببًا منطقيًا للمطالبة بإسقاط النظام.
ومع الإطاحة بنظام مرسي وتولي دولة الثالث من يوليو/تموز السلطة، استبشر الشارع المصري خيرًا بشأن إدارة الدولة الجديدة لهذا الملف الحيوي الذي يهدد حياة ملايين المصريين الذين يعتمدون على نهر النيل الذي يلبي 97% من احتياجاتهم المائية والذي بات مهددًا جراء المشروع الذي يحلم به الإثيوبيون.
لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، فقد نجحت إثيوبيا عامًا تلو الآخر في تدشين جزء من السد، فيما التزم الجانب المصري الشجب والتنديد والصراخ، منشغلًا بملفاته الداخلية وترسيخ أركان حكمه، لتعاود أديس أبابا البناء مجددًا، حتى أعلنت هذا الأسبوع عن عملية الملء الخامس للخزان، بعد الانتهاء من السد والانتهاء كذلك من أربعة عمليات ملء سابقة، ليصل حجم المياه المحتجزة خلف هذا السد قرابة 64 مليار م3 (41 مليار م3 خلال عمليات الملء الأربعة السابقة + 23 مليار م3 خلال عملية الملء الخامسة الحالية).
اليوم وبعد عقد كامل من ولاية السيسي، وعشرات الجولات المكوكية من المباحثات والاجتماعات الطائرة بين القاهرة وأديس أبابا والخرطوم، تخللتها الوعود والتعهدات بألا تُمس نقطة مياه واحدة من حصة المصريين.. يبقى التساؤل: هل بات الأمن المائي المصري في مأمن؟ وهل التزم نظام السيسي بالحفاظ على حصة المصريين من المياه كما تعهد سابقًا؟
أضرار كارثية
بعيدًا عن محاولة الإعلام الرسمي والموالي للنظام الحالي التقليل من الأضرار الناجمة عن بناء سد النهضة، وأن الأمور في سياقها الآمن، إلا أن لغة الأرقام وهي الأكثر دقة، تشير إلى كوارث حقيقية تعرضت لها الدولة المصرية وستتعرض لها خلال المرحلة المقبلة بسبب هذا المشروع الذي حجب نحو 41 مليار م3 من حصة مصر من مياه النيل البالغة 55.5 مليار م3، هذا بخلاف الـ23 مليار م3 خلال المرحلة الخامسة من الملء، ومن أبرز تلك الأضرار:
– تقليص الرقعة الزراعية لمصر والاضطرار لإعادة النظر في الدورة الزراعية بحيث يتم تخفيض أو استبعاد المحاصيل التي تستهلك كميات كبيرة من المياه كالأرز وقصب السكر وخلافه.
– اضطرار الدولة لتعويض هذا النقص في المياه وما نجم عنه من إعادة هيكلة في خريطة المحاصيل إلى استيراد كميات من السلع الغذائية من الخارج، كالأرز والسكر، وهو ما حدث مؤخرًا بعد أزمة اختفائهما من السوق المصري، فبعدما كانت مصر من أكثر البلدان إنتاجًا لهذين المحصولين، إذ بها تعاني من أزمات حادة فيهما ما دفعها للتوجه نحو الاستيراد بالعملة الصعبة، ما يزيد من أعبائها وديونها الخارجية التي تجاوزت 160 مليار دولار.
– وقف وإرجاء مشروعات استصلاح الأراضي الزراعية، حيث كانت قد أعلنت الحكومة عن نيتها في استزراع نحو 4 ملايين فدان خلال السنوات الماضية، لكن الأزمة التي أحدثها سد النهضة والعجز المائي المتفاقم دفع الجميع لإعادة النظر في تلك المشروعات.
– تهديد مخزون مصر من المياه الجوفية والبالغ نحو 6.7 مليارات متر3، حيث لجأت الدولة لاستخدام هذا المخزون في استصلاح الأراضي في ظل أزمة مياه نهر النيل، الأمر الذي ينذر بكارثة إذا تعرض هذا المخزون للاستهلاك كونه يمثل احتياطيًا استراتيجيًا أوقات الأزمات ولا يمكن تعريضه لهذا التهديد الوجودي.
– استنزاف موارد الدولة في بناء محطات التحلية لتعويض العجز في مياه الشرب، حيث بلغت كلفة خطة تحلية المياه في مصر قرابة 3 مليارات دولار، لإنتاج 1.7 مليون متر3 من المياه يوميًا، تشكل نحو 6% من إجمالي استهلاك المصريين من مياه الشرب.
– تعميق العجز المصري من المياه، حيث تقدر موارد الدولة المائية بنحو 59.6 مليار م3 سنويًا، في حين تصل احتياجات المصريين من المياه قرابة 114 مليار م3، ما يعني أن هناك عجزًا يقترب من الـ50%، الأمر الذي أدخل مصر في مرحلة الفقر المائي، بعدما تقلصت حصة المواطن إلى 450 م3 سنويًا بينما يصل متوسط الاستهلاك الفردي سنويًا 1000 م3.
ما التداعيات على المواطن المصري؟
بجانب تداعيات تلك الأضرار على المواطن المصري من خلال منافذ الاقتصاد والسلع إلا أن هناك أضرارًا أخرى أكثر كارثية، تلك التي تتعلق بصحة المواطن وحياته المعيشية اليومية، والتي باتت هي الأخرى في مرمى التهديد بسبب سد النهضة:
– استخدام نظام معالجة مياه الصرف لإعادة استخدامها مرة أخرى كمياه للشرب لتعويض العجز الكبير الذي سببه السد، ما يعني أن المصريين يشربون اليوم من مياه الصرف المعالجة، ورغم ما يثار حول دقة وجودة محطات المعالجة الثلاثية، فإن خبراء الصحة والبيئة يشيرون إلى أنها تحمل الكثير من الأضرار بسبب طبيعة الصرف الصحي المصري المختلط، كونه مزيجًا من الصرف الزراعي والصناعي والشخصي في آن واحد، ما يجعل هناك صعوبة بالغة في تحلية هذه المياه، فضلًا عن الأمراض الناجمة بسبب تناول هذه المياه كفقر الدم عند الأطفال وسرطان البلعوم والمثانة عند الكبار.
– إجبار المواطن على ترشيد استهلاكه للمياه، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على حياته وصحته اليومية، وذلك إما بقطع المياه لفترات طويلة وإما رفع أسعارها بما يجعلها عبئًا على محدودي ومتوسطي الدخل، فيضطرون للترشيد قهرًا.
– تهديد الحياة المعيشية للفلاحين والذين يتجاوز عددهم 5 ملايين مواطن، حيث منعهم من زراعة المحاصيل الحيوية التي تدر عليهم دخلًا كالأرز وقصب السكر، وإجبارهم على زراعة محاصيل أخرى أقل جدوى، الأمر الذي ينعكس بطبيعة الحال على معيشتهم خاصة بعد زيادة أسعار الأسمدة وتعرض الكثير من المحاصيل للتلف بسبب نقص المياه.
ملف السد.. 10 أعوام من الفشل
لم ترتق إدارة النظام المصري لملف السد النهضة إلى ما كان يأمله المصريون حين سخروا من مرسي وضيوفه خلال اجتماع الاتحادية في يونيو/حزيران 2013، إذ جاءت النتائج مخيبة، وبدلًا من حسم هذا الملف لصالح المصريين والحفاظ على حصة الدولة من مياه النيل، إذ بالنظام يقدم هدية على طبق من ذهب للإثيوبيين حين وقع على اتفاقية إعلان المبادئ 2015 التي منحت أديس أبابا الضوء الأخضر في بناء السد والحصول على التمويل والدعم الدولي له، وهو ما لم يكن يحدث لولا الموافقة المصرية وتوقيعها على الإعلان.
ورغم حساسية هذا الملف، فإن نظام ما بعد الثالث من يوليو/تموز 2013 لم ينخرط فيه إلا بعد عام كامل، حيث كان مشغولًا بترتيب أوراقه الداخلية والبحث عن شرعية وجوده في ظل الرفض الدولي لما قام به ضد أول نظام مدني منتخب في التاريخ المصري.
البداية كانت في يونيو/حزيران 2014 حين اتفقت القاهرة وأديس أبابا على استئناف المفاوضات مرة أخرى ليُعقد أول اجتماع بين الطرفين بجانب الطرف السوداني في سبتمبر/أيلول من نفس العام، وفي أكتوبر/تشرين 2014 تم الاتفاق على اختيار مكتبين استشاريين أحدهما هولندي والثاني فرنسي لعمل الدراسات المطلوبة بشأن السد.
ثم جاءت النقطة الفاصلة في مسار المفاوضات، مارس/آذار 2015، حين وقع السيسي ونظيره السوداني السابق عمر البشير ورئيس وزراء إثيوبيا السابق هايلي ديسالين في العاصمة السودانية الخرطوم وثيقة “إعلان مبادئ سد النهضة”، تلك الوثيقة التي منحت أديس أبابا اعترافًا وموافقة مصرية بشكل رسمي على بناء المشروع ليبدأ من بعدها الإثيوبيون في الانتقال نحو مرحلة مختلفة من المفاوضات، حيث التسويف والمماطلة وعدم احترام القوانين واللوائح وتجاهل كل التهديدات والتحذيرات والمناشدات، المصرية والإقليمية والدولية.
افتقد المفاوض المصري للحسم والحزم في إدارة هذا الملف، وتسبب برعونته وجهله بأوراق الضغط التي يملكها في منح أديس أبابا الفرصة لتنفيذ حلمها القومي في بناء هذا المشروع الذي تم تصديره للشارع الإثيوبي كونه مسألة حياة أو موت.
ورسخ ما حدث في 10 يونيو/حزيران 2018 داخل قصر الاتحادية بالقاهرة طبيعة إدارة الجانب المصري لهذا الملف الوجودي، وذلك حين طلب السيسي من رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، أن يقسم بعدم إلحاق الضرر بمصر، فيما يخص مياه النيل، حيث استجاب وأقسم بالله أن بلاده لن تضر مصر، حينها تعاطى الإعلام الداعم للنظام مع تلك التصريحات على أنها انتصار دبلوماسي يحسب للدولة المصرية، وأن الملف قد حسم بشكل نهائي، غير أنه وبعد أيام قليلة من هذا التصريح أعلنت إثيوبيا بدء عمليات الملء وقرب الانتهاء من تدشين السد.
وبعد عشر سنوات كاملة من المفاوضات الجافة والعقيمة والتسويف الإثيوبي الممنهج، والوعود التي لا تتوقف بالحفاظ على حصة المياه التقليدية، ها هي مصر لم تجن سوى تفاقم العجز المائي وإجبار المواطنين على التقشف وتناول مياه الصرف الصحي المعالجة، والاضطرار إلى تغيير الدورة الزراعية وتحميل الدولة فوق طاقتها كلفة اقتصادية باهظة للتعاطي مع تداعيات هذا المشروع، هذا بخلاف تعريض حياة الأجيال القادمة للخطر في ظل تزايد الاحتياجات وتناقص الموارد وافتقاد الرؤية لتحديات المرحلة المقبلة.