لم يكن الدستور الصادر في 1 من يونيو/حزيران 1959، أول دستور تونسي يصدر في العهد الحديث للبلاد، فقبل ذلك بقرابة مئة سنة أصدرت تونس أول دستور في العالم العربي في عهد محمد الصادق باي، باي تونس الثاني عشر.
13 بابًا و114 فصلاً
في الـ21 من يناير/كانون الثاني 1861، أصدر محمد الصادق باي، أول دستور تونسي منبثق عن وثيقة عهد الأمان التي صدرت عام 1857 في عهد أحمد باي، التي أقرت في فصولها الـ11 مساواة التونسيين في الحقوق والواجبات مهما كانت دياناتهم وأجناسهم وجنسياتهم، فضلاً عن حرية المعتقد وضمان الأمن في المال والأجساد لكل سكان الإيالة دون اعتبار الدين أو الجنس أو اللون.
تمحور الباب السادس حول ترتيب أعضاء المجلس الأكبر وشروطه
احتوى الدستور الذي بدأ العمل به في الـ26 من شهر أبريل/نيسان من نفس السنة 13 بابًا و114 فصلاً، حددوا حقوق وواجبات العائلة المالكة والوزراء والموظفين والرعية، كما أقر مبدأ الفصل بين السلطات الثلاثة (السلطة التنفيذية – السلطة التشريعية – السلطة القضائية) ونظم العلاقات بينها.
تعلق الباب الأول من الدستور بـ”قانون آل بيت المملكة الحسينيين”، وفيه 8 فصول حددت شروط من يتقدم من البيت الحسيني لولاية المملكة آنذاك، وبين الباب الثاني “ما للملك من حقوق وما عليه بخصوص سياسة المملكة بمعية أهل الحل والعقد”، وفي الباب الثالث “ترتيب الوزارات والمجلس الأكبر ومجالس الحكم”، فيما تحدث البابان الرابع والخامس عن “دخل الدولة” و”ترتيب خدمة الوزارات”.
وثيقة عهد الأمان
تمحور الباب السادس حول ترتيب أعضاء المجلس الأكبر وشروطه، و”خدمة المجلس الأكبر” بالباب السابع، بينما فصل الباب الثامن الجنايات التي تصدر من موظفي الدولة حال مباشرتهم لخدمتهم وغير ذلك، وضبط الباب التاسع “مدخول الدولة ومصروفها”، ونص الباب العاشر على ذكر مراقب الولايات، بينما تعلق الباب الـ11 بالموظفين على الإطلاق وما لهم وما عليهم وغير ذلك، والباب 12 فيما لأهل المملكة التونسية من الحقوق وما عليهم ليختم الدستور بالباب 13 الذي ضبط ما لرعايا الدول الأحباب القاطنين بالمملكة التونسية من الحقوق وما عليهم.
الفصل بين السلطات
أعطى الدستور التونسي لسنة 1861، السلطة التنفيذية للباي وجرده من عدة حقوق أخرى كان يتمتع بها في السابق، وأصبح مسؤولاً أمام المجلس الأكبر الذي بوسعه خلع الباي إذا خالف القانون، وتعويضه بولي العهد، فانتهى بذلك الحكم الشمولي.
مثل هذا الدستور، نتيجة حتمية لتطلع رجال الإصلاح إلى النهوض بواقع البلاد التونسية
كما جعل الدستور السلطة التشريعية مشتركة بين الباي والمجلس الأكبر الذي يتألف من 60 عضوًا ثلثيه من أعيان البلاد والثلث الآخر من رجال الدولة، وللمجلس الأكبر مراقبة الوزراء ومحاسبتهم، ومن أهم وظائفه أيضًا وضع القوانين وتنقيحها وشرحها وتأويلها والموافقة على الأداءات ودرس مشروع الميزانية.
أما السلطة القضائية فقد أصبحت مستقلة عن الباي، وفي مادته رقم 28 أقر الدستور أن القاضي الذي يكلف بمهمة القضاء لا يمكن للسلطة أن تقوم بنقله، وانبثق عن الدستور أيضًا إحداث مجلس الجنايات والأحكام العرفية لفصل جميع القضايا ما عدا القضايا العسكرية.
السياق الذي جاء فيه
جاء دستور يناير 1861، في سياق موجة من الإصلاحات بدأها أحمد باي عقب زيارته لفرنسا سنة 1846 بعد أن انبهر بمظاهر التمدن والعمران والحضارة، فقرر استنساخ تلك الحضارة في تونس عبر تحديث الجيش واستحداث مؤسسات دستورية وتعليمية على شاكلة المؤسسات الفرنسية.
حيث مثل هذا الدستور، نتيجة حتمية لتطلع رجال الإصلاح إلى النهوض بواقع البلاد التونسية، بعد صعود أوروبا حضاريًا وعسكريًا ولحماية بلدهم من تحرشات الأساطيل الفرنسية والإنجليزية وفي نفس الوقت استعملت الدول الغربية وفرنسا تحديدًا هذه الموجة الإصلاحية لحماية مصالح الرعايا الأجانب واليهود في البلاد التونسية ولحماية مصالح رعياها التجارية والتحكم بمصادر الثروة والمواني لضمان سيطرتها على الجزائر البلد الثاني لفرنسا.
تأثر بايات تونس كثيرًا بالغرب
ومن أبرز المثقفين والعلماء والمصلحين الذين برزوا في تلك الفترة، الشيخ محمود قبادو وسالم بوحاجب ومحمد بيرم الخامس ومحمد السنوسي والوزير المصلح خير الدين والجنرالان حسين ورستم الذين مهدوا للبايات الطريق وساعدوهم على خوض معركة الإصلاح، ولئن كانت دوافع العلماء والمثقفين ليست كدوافع السياسيين، ولكنها تلتقي كلها حول هدف واحد وهو كسر الجمود والأخذ بأسباب النهوض.