تطفو مسألة المساواة في الميراث في تونس على سطح الأحداث السياسية والاجتماعية من جديد، خاصة بعد أن دعا “التحالف التونسي من أجل تحقيق المساواة في الميراث” (تحالف يجمع، وفق بياناته، 81 جمعية مدنية وحقوقية) لتنظيم مسيرة وطنية، عصر اليوم السبت، تنطلق من ساحة باب سعدون، وصولًا إلى مقر البرلمان التونسي بباردو، بتونس العاصمة، وذلك للمطالبة بالمساواة في الميراث.
ومثلت مسألة المساواة في الإرث تباينًا عميقًا في مختلف الآراء في المجتمع، كما بين الأحزاب السياسية، ولئن كان الموضوع قديمًا جديدًا، فقد أثاره رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي في الـ13 من أغسطس الماضي، بقصر قرطاج، وبحضور عشرات النساء، بمناسبة الاحتفال بالعيد الوطني للمرأة، ومرور 61 عامًا على إصدار مجلة الأحوال الشخصية، يومها اعتبر السبسي أنه يجب “الحديث والاعتقاد والاجتهاد في المساواة بين الرجل والمرأة، بل، وإقرارها، إذ إن مشروعية المساواة ثابتة دينيًا ودستوريًا، وسبق أن تم إقرار توريث البنات مباشرة بإلغاء الحجب الذي كان لا يمنح حق إرث البنت لوالدها مباشرة”.
وعبّر السبسي عن يقينه من أن لجنة الحريات الفردية والمساواة التي تم إحداثها لدى رئاسة الجمهورية ستثبت من جديد أن “العقل الإيماني الإصلاحي القانوني التونسي، سيجد الصيغ الملائمة التي لا تتعارض مع الدين ومقاصده ولا مع الدستور ومبادئه وستضيف لبنة أساسية في اتجاه المساواة الكاملة”، وأكد أن “واقع المرأة ما زال يتميز بالحيف والظلم والتسلط والتمييز، ولذلك وجب علينا السعي لتحقيق المساواة بين النساء والرجال فهي أساس العدل وهو أساس العمران”.
أصدرت تونس قانونًا أساسيًا وشاملًا للقضاء على كل أشكال العنف ضد النساء، يجرم أصناف العنف ومنها العنف الاقتصادي
المساواة حق وليس منة
حول هذا الموضوع، يقول مسعود الرمضاني رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية “أننا مع المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، لأن ذلك يتوافق مع الدستور الذي قبل به جميع التونسيين، كما أن تونس أمضت على الاتفاقية الدولية ضد جميع أشكال العنف والتمييز ضد المرأة”.
مسعود الرمضاني رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
وأضاف الرمضاني أن تونس تقدمت أشواطًا كبيرة في مسألة المساواة بين الرجل والمرأة، ولكن هناك الكثير الذي لم يتحقق وخاصة المسائل الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي لا بد من العمل جديًا من أجل المساواة في جميع الحقوق والواجبات حتى نبني مجتمعًا، مواطنيه جميعًا على نفس الدرجة من المساواة”.
من جانبها، قالت سلوى قيقة عضو “التحالف التونسي من أجل تحقيق المساواة في الإرث” إن “القانون في تونس يتطور ومبادئه تقر بأن الكرامة الحقيقية تستوجب المساواة الفعلية، وتساوي بين الفئات والجهات، بين المواطنين والمواطنات، وتعمل على دعم وتطوير المكتسبات، كما أن دستور 2014 يساوي بين المواطنين والمواطنات في الحقوق والواجبات، ويلزم القانون كل النساء من الكادحات والفلاحات وبالفكر والساعد عاملات، بالمساهمة داخل الأسرة في النفقات، إذا كان لهن مال، وأن يتحملن مسؤولية الأولياء والأجداد من ذوي الاحتياجات”.
وأضافت أن “تونس أصدرت قانونًا أساسيًا وشاملًا للقضاء على كل أشكال العنف ضد النساء، يجرم أصناف العنف ومنها العنف الاقتصادي الذي يعمق ظاهرة تأنيث الفقر والتهميش والإقصاء، ويخرق مبدأ تكافؤ الفرص بين الجنسين في الملكية، ويحرم النساء من الاستقلالية المادية والاقتصادية”. مشيرة إلى “ألا يكون فيها عدم التساوي في الميراث مظهرًا من مظاهر هذا العنف، ألا تكون القسمة المتعادلة أساسًا للقوانين العادلة، ألا يكون القانون أرضية لتغيير العقليات وتكريس المساواة باعتبارها من القيم الإنسانية التي لا تقتضي المساومات؟ فلا ديمقراطية دون مساواة فعلية، ولا عدالة اجتماعية في ظل قوانين تمييزية، وبالتالي فالمساواة في الميراث “حق موش مزية” (حق وليس منة)”.
لطفي بندقة:”أنا مع تطبيق شرع الله في مسألة المساواة في الإرث، وضد مبادرة رئيس الجمهورية”
من ناحيتها، قالت الدكتورة رجاء بن سلامة، في تدوينة على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك): “إلى المنتقصين من تجربة تونس في الداخل والخارج: في هذه البلاد.. نزلنا إلى الشارع لمناقشة مسائل دينية تعد محرمة أو محرجة، ناقشناها في شارع الحبيب بورقيبة، وفي هذه البلاد، انتخب مجلس تأسيسي وأصدر دستورًا ديمقراطيًا هو الذي نطالب باسمه الآن بالمساواة التامة”.
أنا مع تطبيق شرع الله
القضية فتحت الجدل والنقاش بين التونسيين وعلى كل المستويات، حيث قال الممثل التونسي لطفي بندقة، قال في حوار على إذاعة “موزاييك إف إم”: “أنا مع تطبيق شرع الله في مسألة المساواة في الإرث، وضد مبادرة رئيس الجمهورية”. بدورها ردت سامية الحباشي على الداعين إلى المساواة في الميراث، في تدوينة لها، وتساءلت في استنكار: “هل نرمي القرآن وراء ظهورنا، ونكتب واحدًا على قياسنا؟”.
أما الإعلامي كمال الشارني، فقد دون تحت عنوان “المساواة بين النساء أولًا”، وقال: “من حيث المبدأ، أنا لا أحب المعارك الزائفة، وإذا كان للدعوة إلى المساواة في هذا الوطن الكئيب من معنى لفائدة النساء، فسيكون في العدالة الاجتماعية ومنها المساواة في الحقوق الأساسية بين من تولد في قرية منسية، تحرم من الدراسة لتنتهي خادمة في بيوت الأثرياء ومن تولد في واحدة من “جزر الثراء الفاحش الخارج من الضرائب”، ممن يقلبن العالم حين يمرض “كلبها الشخصي” وتبتسم لمآسي الفقراء “يا… مساكين”.
وأضاف الشارني: “أعتقد أن مسألة الميراث تتعلق بحرية المعتقد، من حق من يؤمن بالقرآن من الجنسين أن يطبق معتقداته، ومن واجب الدولة أن تحمي هذه المعتقدات، إذا أصبح دعاة المساواة في الميراث أغلبية، فلا ضير في أن يصنعوا قانونًا لذلك، بشرط ضمان حق الأقلية المتبقية في تطبيق معتقداتهم”.
رفض علماء ومشايخ الزيتونة، دعوة الرئيس الباجي قائد السبسي إلى المساواة في الميراث بين الجنسين وجواز اقتران المرأة المسلمة بغير المسلم، لأنها “مناهضة لأحكام الإسلام وتشكل خطرًا على المجتمع التونسي”
تباين شرعي
الاختلاف بشأن المساواة في الإرث، أظهر تباينًا في الرؤى على المستوى الشرعي، فمفتي تونس عثمان بطيخ، وبعد دعوة الرئيس التونسي، هنأ المرأة التونسية وقال في بيان لديوان الإفتاء: “الأستاذ الباجي قايد السبسي رئيس الجمهورية التونسية أستاذ بحق لكل التونسيين وغير التونسيين وهو الأب لنا جميعًا، بما أوتي من تجربة سياسية كبيرة وذكاء وبعد نظر، وفي كل مناسبة وطنية أو خطاب إلا ويشد الانتباه لأنه معروف عنه أنه يخاطب الشعب من القلب والعقل، ولذلك يصل كلامه إلى قلوبنا جميعًا وعقولنا”.
مضيفاً: “الرئيس في خطابه الأخير، في العيد الوطني للمرأة التونسية، كان كالعادة رائعًا في أسلوبه المتين وكانت مقترحاته التي أعلنها تدعيمًا لمكانة المرأة وضمانًا وتفعيلًا لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات التي نادى بها ديننا الحنيف في قوله تعالى “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف”، فضلًا عن المواثيق الدولية التي صادقت عليها الدولة التونسية التي تعمل على إزالة الفوارق في الحقوق بين الجنسين”.
المفتي السابق حمدة سعيد
أما المفتي السابق حمدة سعيد، فقد قال إنه “لا وجود لأي عالم من علماء الإسلام أثار قضية تقسيم الميراث منذ عصر الرسالة إلى اليوم، التي كانت مبينة بيانًا كافيًا في القرآن الكريم”.
وأضاف أن قضية تقسيم الميراث من المسلمات ولا تحتمل تأويلًا أو اختلافًا ولا إبداء رأي، مشيرًا إلى أنها من القضايا المحسوم فيها التي تولى الله بنفسه توزيعها، والمبينة بيانًا كافيًا في القرآن ولا تحتمل الاجتهاد أو التأويل.
من جانبهم، رفض علماء ومشايخ الزيتونة، دعوة الرئيس الباجي قائد السبسي إلى المساواة في الميراث بين الجنسين وجواز اقتران المرأة المسلمة بغير المسلم، لأنها “مناهضة لأحكام الإسلام وتشكل خطرًا على المجتمع التونسي”. واعتبر علماء الزيتونة في بيان لهم أن طرح قائد السبسي “يعد طعنًا صريحًا في ثوابت الدين الذي نتشرف بالانتماء إليه”، مؤكدين أن هذه الدعوات “خطيرة ومخالفة للدين الحنيف”.
علماء الزيتونة
ويقر دستور تونس 2014 في الفصل 21 المساواة بين المواطنات والمواطنين في الحقوق والواجبات، وينص في الفصل 46 على مسؤولية الدولة في ضمان تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في جميع المجالات. وكان مجلس نواب الشعب (البرلمان) صادق على القانون الأساسي للقضاء على العنف ضد المرأة في 11 أغسطس/آب 2017، بما في ذلك العنف الاقتصادي.