مرة أخرى تسلط الأضواء على الجنوب الليبي المشتعل منذ سنوات، نتيجة تجدد نزعات الانفصال التي تقودها قبيلة “التبو” في المنطقة، بإيعاز ومساعدة من قوى أجنبية عدة تسعى إلى تقسيم ليبيا وتفكيك الدولة الليبية حتى تحكم السيطرة على هذا البلد العربي الذي يزخر بالثروات النفطية.
احتلال سبها
يشهد الجنوب الليبي منذ أيام عدة، معارك ضارية بين عدد من الفصائل المسلحة تستخدم فيها أسلحة ثقيلة ومتوسطة، عقب هجوم مجموعات مسلحة من قبيلة “التبو” مستعينة بمرتزقة أفارقة خاصة من القوات التشادية والسودانية المتمردة، على مدينة سبها جنوب البلاد، في محاولة منها لاحتلال المنطقة والسيطرة على مؤسسات الدولة الليبية هناك، من ذلك المطار والمعسكرات.
ووصفت هذه المعارك بأنها الأكثر عنفًا خلال الفترة الأخيرة، وأدت هذه المواجهات إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين كما دفعت العشرات من العائلات إلى النزوح من المدينة التي أعلن مركزها الطبي حالة الطوارئ القصوى، مناشدًا جميع العناصر الطبية بضرورة الحضور والالتزام والالتحاق بأعمالهم.
خلال السبع سنوات الماضية كان الجنوب الليبي على صفيح ساخن، في حروب ومناوشات وتهجير لا ينتهي بين القبائل هناك
ويأتي هجوم “التبو” على مدينة سبها، لينسف اتفاق المصالحة الذي وقعه “التبو” مع قبيلة أولاد سليمان في مارس 2017، وذلك في العاصمة الإيطالية بحضور عبد السلام كاجمان نائب رئيس المجلس الرئاسي ووزير الداخلية الإيطالي ماركو ميننيتي إضافة إلى ممثلين عن قبيلة الطوارق.
ونص ذلك الاتفاق على الصلح الشامل والدائم بين الطرفين، على أن تتولى الدولة الإيطالية “دفع القيمة المالية لجبر الأضرار بين الطرفين وعلاج الحالات المستعصية”، وتعهدًا بـ”إخلاء الأماكن العامة والبوابات من كل التشكيلات المسلحة وتسليمها إلى الشرطة من جميع أطياف الجنوب”.
خلال السبع سنوات الماضية كان الجنوب الليبي على صفيح ساخن، في حروب ومناوشات وتهجير لا ينتهي بين التبو والزوي، وبين الطوارق والتبو، وبين أولاد سليمان والقدادفة وبين التبو وأولاد سليمان أي الكل ضد الكل، ونعني بذلك الخارجين عن القانون من شتى القبائل.
انفلات أمني في الجنوب
تتميز منطقة الجنوب الليبي بعدم الاستقرار، حيث تشهد فراغًا أمنيًا واضطرابات متكررة منذ سقوط نظام معمر القذافي في فبراير 2011، وتسيطر عليها عصابات تهريب النفط والبشر، وتعتبر هذه المنطقة البوابة الرئيسية للمهاجرين الأفارقة الذين يتخذون من ليبيا محطة للهروب لأوروبا.
وتعرف هذه المنطقة ازدهارًا لتجارة البشر، فضلاً عن تجارة الأسلحة والمخدرات والهجرة السرية، حيث يتيح ضعف مراقبة الحدود لأسواق السلاح والبشر والمخدرات أن تزدهر، إلى جانب عمليات الاتجار غير المشروع اليومية بالوقود والبضائع، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على المنطقة ككل.
تجدد المعارك في سبها
تدر هذه الأنشطة غير القانونية التي تقوم بها الجماعات المسلحة في المنطقة مبالغ مالية معتبرة في منطقة فقيرة لا تملك فيها الدولة القدرات والموارد اللازمة لمكافحتها وحماية سكانها من الأخطار التي تشكلها هذه الأخيرة على أمنها واستقرارها وآمالها المشروعة في التنمية والرفاه.
وتشكِل المجتمعات المحلية التي تعيش في جنوب البلاد من العرب والأمازيغ والأفارقة، أحد مصادر انعدام الأمن في المنطقة، فالتهميش الذي تعرضت إليه هذه المجتمعات المحلية العابرة للحدود لفترة طويلة على يد الدولة خاصة خلال حكم القذافي دفعها إلى إنشاء شبكات من التبعية مع امتداداتها في الدول المجاورة التي تسهِل عمليات الإتجار غير المشروع.
الانفصال وتكوين دولة
هذه الهجمات المتكررة التي تقوم بها قبيلة “التبو” ضد مدن الجنوب، لم تكن الغاية منها السيطرة على المنطقة فقط، بل أيضًا التمهيد للانفصال عن ليبيا وإعلان دولة مستقلة كما حصل مع دولة جنوب السودان، بالاستعانة بمرتزقة أفارقة ودعم بعض القوى الإقليمية.
ويسيطر التبو الذي يبلغ تعدادهم قرابة 350 ألف بشكلٍ فعال على جزء كبير من المناطق الحدودية في الجنوب الليبي التي تمتد من الكفرة في أقصى الشرق إلى القطرون والويغ جنوبي سبها، ومع أن شبكاتهم واسعة النطاق، فإن مكانتهم داخل المجتمع الليبي موضع خلاف.
يذكر أن نظام معمر القذافي، كان يتعمد إقصاء “التبو”، فلم يكن للتبو القدرة على إثبات مواطنتهم الليبية بشكل قاطع وفق قوانين صيغت أساسًا لإقصائهم، كما كانت كتب التاريخ التي وُضعت في عهد القذافي تعترف بالأصول الأمازيغية للطوارق والليبيين البربر، بينما تتجاهل كليًا قبيلة التبو، ويعتبر النظام الليبي حينها التبو “أفارقة” و”تشاديين” و”غير ليبيين”.
مع مقتل القذافي في 23 من أكتوبر/ تشرين الأول 2011، سيطر التبو بحكم الأمر الواقع على جزء كبير من الحدود الجنوبية
أدت الخطوات التي قامت بها حكومة القذافي في العام 2007 لسحب الجنسية من التبو في الكفرة، إلى تشكيل مجموعة معارضة جديدة، وهي جبهة إنقاذ التبو الليبيين بقيادة عيسى عبد المجيد منصور، وفي العام 2008 نشبت انتفاضة كبيرة في الكفرة قُمعت من الجيش الليبي.
وتدعمت مكانة التبو المكونة من مجموعة قبائل وعشائر بدوية ذات هوية زنجية عربية مختلطة، عقب سقوط نظام معمر القذافي سنة 2011، ففي تلك الفترة حاول التبو تعزيز مكاسبهم، وبعد وعود المجلس الوطني الانتقالي، كما زعم التبو، بتنفيذ قرار 23 من مايو/أيار 2011 الذي أصدره القذافي والخاص بمنح الجنسية، بدأ التبو بتقديم طلبات المواطنة للحكومة الليبية.
في الكفرة والقطرون ومرزوق سيطر التبو على المجالس العسكرية المحلية، كما أمنوا كميات كبيرة من الأسلحة من قاعدة الويغ الجوية، وقد عاد التبو من تشاد وقطاع أوزو، إلى جانب أولئك الذين تم تسجيلهم في قطاع أوزو في السبعينيات، إلى الكفرة والمعاقل الأخرى الخاصة بهم، ومع مقتل القذافي في 23 من أكتوبر/تشرين الأول 2011، سيطر التبو بحكم الأمر الواقع على جزء كبير من الحدود الجنوبية، بما في ذلك المنافذ البرية.
دعم أجنبي
طموح قبائل التبو بالانفصال عن ليبيا وإقامة دولة مستقلة لهم يحظى بدعم دولي كبير، خاصة من دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسهم فرنسا التي تسعى إلى التحكم في الجنوب الليبي ومدخراته من خلال قبائل التبو.
إلى جانب دول الاتحاد الأوروبي، هناك دول عربية تدعم “التبو” في هذا التوجه، هما دولتا الإمارات العربية المتحدة ومصر اللتان تشتركان في الأهداف والأطماع، فكلتاهما تبحث عن تقسيم ليبيا وإضعاف الدولة المركزية حتى تسيطر على الوضع هناك.
تعمتد قبائل التبو على الترحال
إلى جانب مصر والإمارات، تدعم الجزائر توجه التبو، ذلك أنها ما فتئت تستعمل هذه القبائل لقتال قبائل الطوارق التي تناصب السلطات الجزائرية العداء، وتسعى الجزائر لوقف تمدد الطوارق من خلال التبو الذين يوالون من يدفع لهم.
من التبو؟
تتألف مجموعة التبو من نحو 50 عشيرة يُعتقد على نطاق واسع أن نحو نصفها وُلد من تمايُزات عشائرية نشأت بسبب النمو الديمغرافي للمجموعة، ولعوامل أخرى تتعلق بالتمدن والتحديث في المحيط السياسي والاجتماعي للمجموعة وهو الساحل الإفريقي.
وتتركز مواطن سكن التبو حول جبال تبستي في شمال تشاد، ولهم امتدادات إلى الشمال بمنطقة فزان الليبية وجنوبًا إلى صحراء تينيري بالنيجر وصولاً إلى تخوم إفريقيا الوسطى، وشرقًا إلى السودان، وبشكل عام يُمكن حصر مواطن التبو في مساحة تُقدر بمليون وربع مليون كيلومتر مربع توجد كلها في منطقة الصحراء الكبرى.
تتكلم قبائل التبو لهجتين أساسيتين هما “تداكا” نسبة إلى قبائل “التدَا” وتتركز في شمال الصحراء الكبرى، و”دازاكا” نسبة إلى قبائل “الدازا” وأغلب مواطنها في جنوب الصحراء الكبرى على الحدود مع إفريقيا الوسطى. وتتشابه اللهجتان إلى حد كبير وتشتركان في ميزات لسانية وصوتية كثيرة.