هل سبق لك أن حكمت على شخصية أحد بناءً على نوع الموسيقى التي يسمعها؟ ربما يشعر أغلبية الناس بالحاجة الشديدة لانتقاد أي ذوق موسيقي يختلف تمامًا عن الذوق الذي اختاروه لأنفسهم، فمن المألوف جدًا أن يتلقى المرء آراءً ساخرة إذا صرح بحبه لسماع موسيقى مطرب معين معروف بموسيقاه الهابطة.
تعددت الدراسات العلمية عما يشكل الذوق الفني، حيث فسرت بعض الدراسات أن ما يشكل الذوق الفني مجموعة من الخصائص الاجتماعية المتعلقة بالثقافة والدين وشخصية الأفراد المستقلة، وقالت بعض الدراسات الأخرى إن للموضوع صلة وثيقة بشكل الأذن الداخلي، والبعض الآخر يحدده بمدى تأثير التنافر الصادر من الموسيقى الذي يحدد المرء على أساسه إن كانت تلك الموسيقى جيدة أم مزعجة.
لقد صنف العلماء فئة أخرى من مستمعي الموسيقى، وهي الفئة التي لا تشعر بأي تأثير عند سماع الموسيقى على الإطلاق، فهم لا يعجبون بها فقط، بل لا تؤثر الموسيقى عليهم جسديًا وعاطفيًا أبدًا، وهي الحالة التي عرّفها العلماء بمرض “انعدام التلذذ”، وهي الحالة التي يُصاب بها المرء غير القادر على الاستمتاع بأنشطة تبدو محبوبة لفئة كبيرة من الناس مثل الاستماع للموسيقى.
الذوق الموسيقي يتغير على مدار السنوات
أثبت علماء بريطانيون من خلال دراسة دامت عشر سنوات على مجموعة من الأفراد أن الذوق الفني لدى الفرد يتغير بشكل جذري على مدار السنوات، فمن كان يرفض بتاتًا سماع الموسيقى الكلاسيكية في سنوات المراهقة سيتحول إلى معجب بالموسيقى الكلاسيكية في مرحلة منتصف العمر، ومن ظن بأنه سيظل معجبًا بفرقة موسيقية معينة طوال حياته وجده العلماء قد غير رأيه كليًا بعد مرور خمس سنوات.
أوضح العلماء في تلك الدراسة أن الموسيقى مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتحديات الحياتية بالتزامن مع الاحتياجات النفسية والاجتماعية، حيث وجدوا أن الموسيقى وسيلة من الوسائل الاجتماعية التي يستخدمها الناس في محاولة إثبات شخصياتهم وهوياتهم في المراحل العمرية المختلفة لتحديد طريقة تفكيرهم وقدراتهم العاطفية.
ترتبط موسيقى الميتال (لون من ألوان موسيقى الروك التي تتميز بصوت الجيتار القوي عالي التشويش)، بمرحلة المراهقة وبداية البلوغ، فهي موسيقة عالية ومزعجة وعدوانية بعض الشيء حيث يظنها المراهقون وسيلة جيدة لإثبات وجودهم، إلا أنها تبدأ في الانحدار قليلًا على منحنى الأذواق الموسيقية مع بداية مرحلة النضوج، ليبدأ بعدها الاهتمام بالموسيقى العصرية، وهي ما أنتج خلال الثمانينيات وحتى بداية القرن الواحد والعشرين في مرحلة النضوج وصولًا إلى مرحلة منتصف العمر.
الموسيقى مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتحديات الحياتية بالتزامن مع الاحتياجات النفسية والاجتماعية
يبدأ الاهتمام بالموسيقى العاطفية الخاصة بالعلاقات العاطفية والحب بعدما يثبت المرء ذاته ويكون شخصيته وهويته بشكل كبير، حينها ينعطف الاهتمام الفني بالموسيقى العاطفية، حيث يبدأ المرء بعد تحقيق ذاته بالبحث عن الحب وعن شريك حياته، وهو ما يعتبر تحديًا جديدًا ينعكس في الاهتمام الفني والذوق الموسيقي، حيث يكون الجيل الأول من الاهتمام بالموسيقى هو البحث المستمر عن وسيلة للحصول على الاستقلالية، يكون الجيل الثاني منها وسيلة للحصول على تقبل الآخرين بحسب ما أقرته الدراسة.
الجيل الثالث والأخير من الاهتمام بالموسيقى هو جيل الموسيقى الكلاسيكية أو موسيقى “البلوز” التي بدأها الأفارقة الأمريكان، أو موسيقى الجاز أو الاهتمام أكثر بالموسيقى الشعبية أو الفلكلور، وليس شرطًا على كل من يستمع لتلك الأنواع من الموسيقى أن يكون في عقده الرابع من العمر، إلا أنها الموسيقى الأكثر شهرة بين كل من استقر في حياته نوعًا ما.
لماذا إذًا لا نمتلك نفس الذوق في الموسيقى؟
هذه الدراسة من أكثر الدراسات غرابة في محاولة الإجابة عن السؤال السابق، إذ اكتشف العلماء حديثًا ارتباطًا وثيقًا بين طبقات الأذن الداخلية وشكلها والاختلاف في الأذواق الفنية في اختيار نوع الموسيقى، فقد يشبه ذلك أن يكون المرء أيمن أو أعسر في الكتابة، حيث أثبتت الدراسة قدرة أذن الموسيقيين المُدربيين على التفريق بين ثلاثة أوتار مختلفة تصدر من آلة معينة بنفس الوقت في أثناء العزف عليها.
لا يكون ذلك هو المحدد الوحيد لاختلاف أذواقنا الموسيقية، حيث أثبتت دراسات أخرى أن التفضيلات الموسيقية تعود للعامل الثقافي في المقام الأول، وما يتعلمه المرء منذ صغره على حسب ما اعتادت عليه أذنه، حيث أجرى بعض العلماء دراسات على أطفال المغنيين والموسيقيين، فوجدوا أنهم يفضلون نوع الموسيقى الذي كان يعزفه والديهم لفترات طويلة من حياتهم.
أثبتت دراسات أخرى في مجال “علم الموسيقى” أن الناس يكونون أكثر كرمًا حينما يستمعون إلى الموسيقى، وذلك لأن تفضيلاتهم الموسيقية تعكس تجاربهم وذكرياتهم، وعواطفهم ومشاعرهم أحيانًا، وبالتالي يكونون في حالة مزاجية هادئة وهو ما ينعكس على عطائهم، يعتمد على هذه النظرية كثير من المقاهي والمحلات في أثناء اختيارهم لنوعية الموسيقى التي يشغلونها في محلاتهم، اعتمادًا على انعكاس خبرات وتجارب الناس في الموسيقى التي يفضلون الاستماع إليها.
لقد حاول العلماء قياس تأثير الموسيقى على الأجنة في أرحام أمهاتهم أيضًا، وليس فقط قياسها على الأفراد البالغين، حيث قامت باحثة في جامعة كيب تاون في جنوب إفريقيا بإدخال ميكروفون صغير جدًا يمكنه العمل تحت الماء في رحم امرأة حامل، وشغلت الباحثة الموسيقى التي عادة ما تستمع إليها الأم، لتجد ردات فعل في زيادة ضربات قلب الجنين، حيث أثبتت أن للموسيقى تأثير إيجابي على الأجنة.
أثبتت الدراسة أن للموسيقى المفضلة لدى البشر القدرة على تحفيز الخلايا العصبية في الدماغ المسؤولة عن إفراز الدوبامين أو في سياق آخر “هرمون السعادة”
على الرغم من أن مستمعًا للموسيقى الكلاسيكية قد يسخر جدًا من مستمع لموسيقى “الميتال” الثقيلة، وربما يحكم على ذوقه الفني الذي يعكس شخصيته، فإن هناك دراسة أثبتت أنه لا يوجد اختلاف كبير بين مستعمي الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى “الميتال” على الرغم من الاختلاف الجذري بين النوعين، حيث وجد العلماء أن كلاهما من النوع المبدع وأصحاب شخصيات عالية الثقة بنفسها.
العلاقة بين الدماغ والموسيقى
وضع الدماغ في حالة الراحة إلى اليسار وفي حالة الاستماع للموسيقى إلى اليمين
أجريت دراسة على عدد من الطلاب للاستماع إلى 60 أغنية مختلفة، ومن ثم قرر الباحثون تضييق النطاق وجمع أكثر 19 طالب متشابهين في الذوق الفني للاستماع إلى الأغاني، مع العلم أن الباحثين أتاحوا فرصة شراء الأغنية التي قد تعجبهم في أثناء البحث، وذلك لقياس مدى علاقة تفضيل الموسيقى والرغبة في إنفاق المال عليها.
أثبتت الدراسة أن للموسيقى المفضلة لدى البشر القدرة على تحفيز الخلايا العصبية في الدماغ المسؤولة عن إفراز الدوبامين أو في سياق آخر “هرمون السعادة”، ووجد العلماء أن كلما أنفق أحد الطلاب مبلغًا ما لشراء الأغنية التي أعجبته، زاد إفراز الدوبامين في الدماغ خلال الـ30 ثانية الأولى من شراء الأغنية.
أثبت العلماء أن رغبة الناس في شراء بعض الأغاني على التطبيقات أو المواقع الخاصة بالموسيقى مرتبطة بتحفيز مراكز السعادة الموجودة في الدماغ التي لا تبتعد كثيرًا عن المراكز المسؤولة عن الذاكرة أيضًا، فيما يثبت أن تفضيل الموسيقى يرتبط بالتجارب والخبرات الحياتية أيضًا التي تحفز تلك المناطق في الدماغ فتفرز كمية أكبر من الدوبامين.
ربما لا يتشابه نوع الموسيقى الذي تستمع إليه الآن مع نوع الموسيقى الذي فضلته لسنوات طويلة في سنوات مراهقتك، ومن المؤكد أنه لن يستمر المفضل لديك لوقت طويل، فلا ينفصل تفضيل الموسيقى عن التجارب والاختيارات الشخصية التي تحفز الدماغ على إفراز هرمونات بعينها تحفز مشاعر وتساعد على الشعور بالحنين والسعادة والراحة والانتماء، وهو ما يجعلنا نفسره من خلال النوع المفضل لدينا في الموسيقى.